في محبة القراءة

منشور الأحد 27 مارس 2016

 

قال عمرو بن بحر الجاحظ في كتاب "الحيوان": "مَن لم تكن نفقته التي تخرج في الكتب، ألذَّ عنده من إنفاق عُشاق القيان، والمستهترين بالبنيان، لم يبلغ في العلم مبلغًا رضيًّا". وذكر الحافظ بن حجر: "ما أَمَر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم".

ومما ذكره الجاحظ أيضا في ذات الكتاب: "وكانت فلاسفة اليونان تقول: لا تورثوا الابن المال، إلا ما يكون عونًا على طلب المال، واغذوه بحلاوة العلم، واطبعوه على تعظيم الحكمة، ليصير جمع العلم أغلب عليه من جمع المال، وليرى أنه العدة والعتاد، وأنه أكرم مستفاد".

في طريق القراءة لا نتذكر فقط الكتب التي نقرأها، بل أحيانًا ما نتذكر بعض الحكايات التي تصاحب شراء وتدبير نفقاتها أو غير ذلك من الحكايات. وأحيانًا ما تصبح لهذه الحكايات قيمتها الخاصة ويمكن المستقلة أحيانًا. هنا أحاول أن أتذكر بعض الحكايات وبعض الكتب وبعض النفقة وبعض اللذة التي ذكرها الجاحظ، والتي يعرفها وذاقها كل محب مخلص للقراءة والكتب والمعرفة والعلم.

أول كتاب أذكره هو كتاب "السبعة في القراءات" لابن مجاهد. صدر عن دار المعارف، بتحقيق الدكتور شوقي ضيف. ورغم إني قرأته في دار الكتب أكتر من مرة وساعات كنت بنسخ منه أحكام في بعض القراءات لأنه ماكانش بيبقى معايا فلوس لتصوير الورق. وساعات كنت بصوّر منه أجزاء على قد ما الميزانية تسمح. ورغم إني خلّصته وخلّصت غيره من كتب متون القراءات وهي على الترتيب: طيبة النشر، والشاطبية، والدرة، وشرحهم وغيرهم في المكتبات العامة - مثل دار الكتب برملة بولاق، ومكتبة القاهرة بالزمالك - لكن دائمًا كان لديّ أمل في شراء كتاب ابن مجاهد والاحتفاظ بنسخة منه في مكتبتي وهذا ما حدث في عام 2009 تقريبًا.

كنت قبل هذا العام أشتري كتبًا بالتأكيد بأكثر من سعر هذا الكتاب وقتها (70 جنيهًا)، لكني لم أكن أستطيع أن أشتري كتابًا واحدًا بهذا المبلغ. وفي عام 2009 وعندما ذهبت لشرائه وجدت سعره أصبح (50 جنيهًا فقط) مما جعلني أشتري مجموعة من سلسلة "اقرأ" بباقي المبلغ. 

هذا العمل الجليل قام الدكتور شوقى ضيف بالعمل على تحقيقه، وشوقى ضيف من الجانب المشيخي في تلاميذ طه حسين. وهذا الكتاب يعد من الكتب العمدة في بابه، أما ابن مجاهد، فهو الذى قال فيه ابن خلدون في مقدمته: "ولم يزل القراء يتداولون هذه القراءات وروايتها إلى أن كُتبت العلوم و دُونت، فكُتبت فيما كُتب من العلوم وصارت صناعة مخصوصة وعلمًا منفردًا و تناقله الناس بالمشرق والأندلس في جيل بعد جيل. إلى أن مَلَك بشرق الأندلس مجاهد من موالي العامريين وكان معتنيًا بهذا الفن من بين فنون القرآن لما أخذه به مولاه المنصور بن أبي العامر واجتهد في تعليمه وعرضه على مَن كان من أئمة القراء بحضرته فكان سهمه في ذلك وافرًا. و اختص مجاهد بعد ذلك بإمارة دانية والجزائر الشرقية فنفقت بها سوق القراءة لما كان هو من أئمتها وبما كان له من العناية بسائر العلوم عمومًا و بالقراءات خصوصًا". وقال فيه أحد تلاميذه، وهو أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن خالويه: "الإمام في القراءة وسائر الناس له تبع".

كان القرآن يُكتب في عهد النبي بأيدي الصحابة، بحيث لم يمت إلا وعدد من أصحابه قد حفظوه وكتبوه، ثم أَخذ عنهم الأتباع، فأتباعهم، أجيال عن أجيال، وهذا هو معنى التواتر. وابن مجاهد حاول في كتابه أن "يضع الأصول والأركان لقبول القراءات"، ويقصد بالقراءات المقبولة: "كل قراءة وافقت أحد المصاحف العثمانية، ولو تقديرًا، ووافقت اللغة العربية ولو بوجه، وصحّ إسنادها، فهذه هي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردّها ولا يحل إنكارها، وهي سبعة متواترة اتفاقًا وثلاثة متواترة على الأصح، وتلك عشرة كاملة". 

وهذا يعني أنه وضع منهجًا لقبول القراءات والأسانيد لديه، واختار على أساسه سبعة من القراء: "اختار من المدينة نافعًا ومن مكة ابن كثير ومن الكوفة عاصمًا وحمزة والكسائي ومن البصرة أبا عمرو بن العلاء ومن الشام عبد الله بن عامر". وهاجمه بعض العلماء بحجة أنه استبعد بكتابه هذا الكثير من القراء وأهدر الكثير من القراءات. وهاجمه البعض لأنه اختار سبع قراءات ليوافق الحديث القائل: "أُنزل القرآن على سبعة أحرف". ويستفيض الدكتور شوقي ضيف في تفنيد هذه الآراء، فابن مجاهد حين اختار السبعة لم يُسقط رواية سواهم، بل دعاها شاذة بل وألف فيها كتابه في الشواذ، واعتمد عليه كثيرًا فيما بعد ابن جني في كتابه "المحتسب". ولو ظن ابن مجاهد-مثلا- أن القراءات السبعة هي الحروف السبعة التي وردت بالحديث لأبطل غيرها من القراءات ولكنه لم يفعل ذلك. ورأى ضيف أن ابن مجاهد -بعمله هذا- أدى للأمة عملًا باهرًا باختياره هؤلاء السبعة، إذ كانت قد أدت كثرة الروايات في القراءات إلى ضرب من الاضطراب عند طائفة من القراء غير المتقنين.

الكتاب الثاني، هو كتاب "أشهر الأوبرات"،  وهو كتاب بسيط وسعره كان وقتها 2 جنيه على ما أذكر. وجدته بالصدفة في مكتبة مصر بالفجالة قبل أن تتحول من مكتبة عظيمة تبيع كتب ثقافية مهمة، لأسماء كبيرة مثل نجيب محفوظ وزكريا إبراهيم وفؤاد زكريا وتوفيق الحكيم ويوسف السباعي وعلى أحمد باكثير وأحمد شوقي وغيرهم، إلى مكتبة تبيع مساطر وبرّايات، وكتب دراسية خارجية، ومصاحف بأحجام مختلفة تجليد عادي وتجليد شمواه.

كنت عرفت منذ سنوات مكتبات الفجالة وبدأت أشتري منها كتب، مثل سلسلة "اقرأ" من دار المعارف، وسلسلة "حلمي مراد يقدم كنوز كتب التراث"، والكتب التي تضم اللوحات العالمية التي كان يقدمها جمال قطب وتنشرها مكتبة مصر.

وكتاب "أشهر الأوبرات" من تأليف: هنرى. و. سيمون وإبراهام فينوس. ويحتوى على أحداث أشهر 22 أوبرا عالمية، مثل عائدة لفردى، حلاق إشبيلية لروسيني، كارمن لبيزيه، دون جوفاني لموتسارت، فاوست لجونو، ولا ترافيتا لفردي، وغيرها من الأوبرات. وقام المترجم محمود أحمد الحفني، وهو مراقب عام الموسيقى بوزارة التربية والتعليم سابقًا، بتقديم تعريفات موجزة للموسيقيين الأعلام. المراجع هو الدكتور حسين فوزى وكيل وزارة الإرشاد القومي وقتها، والسندباد المصرى صاحب البرنامج الموسيقي الجميل على إذاعة البرنامج الثانى.

ومن ضمن الأسباب التي جعلتني أحب هذا النوع من الموسيقى الكلاسيكية بشكل عام، كتاب كان صدر فى عام 2000 عن مكتبة الأسرة فى سلسلة "الشباب"، بعنوان "مع الموسيقى ذكريات ودراسات"، للدكتور فؤاد زكريا. وكانت صدرت منه طبعة سابقة عن مكتبة مصر، وكتب الدكتور فؤاد في مقدمة كتابه هذا: "لا أستطيع أن أزعم أن معرفتى بالموسيقى ترقى إلى مستوى معرفة الخبراء بأصول هذا الفن. فلم أكن في أي وقت من محترفيها أو ممن يؤدونها علنًا، كما أنني لم أتلق فيها درسًا نظريًا أو عمليًا واحدًا. ومع ذلك فإن في تجربتي الموسيقية ما يستحق في نظرى أن يُروى، لأنها أولًا تجربة معتمدة على ذاتها اعتمادًا يكاد يكون تامًا، ولأنها ثانيًا تجربة نفس يغلب عليها حب العقل والمنطق، وتميل إلى الجانب الفكري في الأمور، ولأنها ثالثًا تجربة طال أمدها حتى ليمكن القول إنها عاصرت حياتي الواعية منذ بدايتها. ومن هنا فقد اعتقدت أن القاريء قد يجد طرافة في صفحات تحكي له كيف انتقل إنسان يعيش في بيئة شرقية خالصة إلى حب الموسيقى العالمية وفهمها فهمًا واعيًا بجهوده الذاتية وحدها".

وكانت هذه الكلمات بمثابة تشجيع على الخروج من البيئة الشرقية في السمع، بل وحتى تغيير مؤشر الراديو من إذاعة البرنامج العام وإذاعة أم كلثوم وإذاعة القرآن الكريم، إلى إذاعة البرنامج الثقافي وإذاعة البرنامج الموسيقي، وسماع الموسيقى والغناء الكلاسيكي والأوبرا، والتشجيع أيضا على الاعتماد على الجهد الذاتي في التعلم. وكان كتاب أشهر الأوبرات، بالإضافة إلى القصص، يحاول أن يوضح أن الفكرة السائدة عن الأوبرا بأنها عبارة عن مجموعة من الأشخاص غير الطبيعيين يقومون بالصراخ، ليست سوى خرافة وقد آن أن نواجهها.

الكتاب الثالث هو كتابيّ "أخبار الحمقى والمغفلين"، وكتاب "الأذكياء" لعبد الرحمن الجوزي. فى مقدمة كتاب "الأذكياء" يقول ابن الجوزى عن سبب تأليفه لهذا الكتاب: "لمّا كان العقلاء يتفاوتون فى موهبة العقل، ويتباينون في تحصيل ما يتقنون من التجارب والعلم أحببت أن أجمع كتابًا في (أخبار الأذكياء)، وفى ذلك ثلاثة أغراض: أحدهما معرفة أقدارهم بذكر أحوالهم. والثانى: تلقيح ألباب السامعين إذا كان فيهم نوع استعداد لنيل تلك المرتبة. والثالث: تأديب المعجب برأيه إذا سمع أخبار من تعثر عليه لحاقه".

وعلى العكس من تلك الأسباب يأتى كتاب "الحمقى" لأغراض: "أن يشكر العاقل على خلوه من الحمق. حث المتيقظ على اتقاء أسباب الغفلة. وأن يروح الإنسان قلبه بالنظر فى سير هؤلاء المبخوسين حظوظهم يوم القسمة، فإن النفس قد ترتاح إلى بعض المباح من اللهو، وقد قال رسول الله (ساعة وساعة). أما تعريف الحمق والتغفيل فهو الغلط في الوسيلة والطريق إلى المطلوب مع صحة المقصود، بخلاف الجنون، الذى هو خلل في الوسيلة والمقصود جميعا".

كنت أكتب مقالًا عن الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وفى سبيل مراجعتي عدت إلى الكتاب الطريف للأستاذ محمود السعدني "ألحان السماء" ووجدتني أعيد قراءته كله للمرة السادسة. غير أنها المرة الأولى التي أقف، وبالصدفة، عند أحد المشايخ ويدعى عنتر مسلم، الذى يصفه الأستاذ محمود بأنه صاحب صوت جميل للغاية، وله طريقة فذة فى الأداء. لكن كانت مأساة هذا الشيخ - فيما يروي الأستاذ - أنه تصور إن القراءة عملية اجتهادية لا تحتاج إلى ضوابط، وربما حاول أن يقلد الشيوخ في أن يقوم بالقراءة والتجويد بالقراءات السبعة دون أن يدرس علم القراءات نفسه. وقد سمعه الأستاذ محمود مرة يقرأ بصوت عذب من سورة إبراهيم: "إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنًا" ونطق "إبراهيم" مرة كما هي، ومرة "إبراهام" ثم أعادها "براهيم" ثم أعادها "برهوم" (ألحان السماء، الصفحات من:117:119). و"براهيم" و"برهوم" ليست من القراءات في شيء. أما "إبراهام"فصحيحة في مواضع مختلفة من القرآن فيما روى عن ابن عامر الشامي من طريق هشام بن عمار بن نصير، أو من طريق عبد الله بن ذكوان. وهذه الآية تحديدًا يقرأها هشام وحده "إبراهام". وشخصيًا لم أستمع لهذا التسجيل، لكنى وجدت تسجيلات أخرى له من سورة البقرة يميل فيما لا إمالة فيه، ومن المائدة سمعته يقول: "وَمَا أَكَلَ السَّبْعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ" لكن بسكون الباء في "السبع" وهكذا أصبحت رقمًا على لسانه.

ويذكر ابن الجوزى أمثال للشيخ عنتر مسلم في فصل بعنوان: "في ذكر المغفلين من القراء والمصحفين". منهم من قال: "ويعوق وبشرا"، بدلًا من: "ويعوق ونسرا". ومنهم من قال: "فإن لم يصبها وابل فظل"، بدلًا من: "فطل". ومنهم من قال: "وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هويًا"، بدلًا من: "هونًا". ومنهم من قال: "فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رجل أخيه"، بدلًا من: "رحل أخيه".

وشخصيًا قابلت الكثير من هؤلاء الحمقى، سواء كانوا حمقى من القراء والمصحفين، أو حمقى فى الإنسانية بشكل عام، وهم كثيرون. أذكر في بداية حفظي للقرآن وكنت في السادسة من عمري، وكنت أحفظه في البداية على يد أحد المشايخ واسمه الشيخ عبد العزيز، والذي لم أعرف إلا في ما بعد أنه لم يكن سوى عامل بالمسجد يرفع الآذان ويصلي بالناس مؤقتًا إلى أن تُرسل وزارة الأوقاف مقيم شعائر من طرفها. وبعد وقت تم تعيين شيخ آخر اسمه الشيخ حسين كمقيم للشعائر بالمسجد، وهو شيخ حقيقي هذه المرة، وخريج معهد قراءات. حدث ذلك بعد أن أصبحت في الثامنة من عمري وكنت حفظت من سورة الأحقاف حتى سورة الناس. كانت صدمتي وصدمة والدي عظيمة حين عرفت أن الشيخ عبد العزيز كان يعلمني القرآن على نحو خاطيء، خصوصا في تشكيل الكثير من الكلمات، فكان يجعلنا نقرأ كلمة "النعمة" في قوله تعالي "وذرني والمكذبين أولي النعمة" بالكسر وليس بالفتح على النحو الذي وردت به في هذا الموضع من سورة المزمل. وسألت الشيخ الجديد، وهو الشيخ حسين، عن الفرق بين المعنيين، فأجاب بقول القرطبي إن: النعمة (بالفتح) التنعيم، يقال: نعمه الله وناعمه فتنعم. والنعمة (بالكسر) اليد والصنيعة والمنة وما أُنعم به عليك. وقال لي إن "النعمة" بالفتح هنا هي من باب "التعريض بالتهكم لأنهم كانوا يعدُّون سعة العيش ووفرة المال كمالًا" بذاتها. ووصفهم في موضع آخر بـقوله تعالى "إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلًا"، فكيف تكون "نعمة" بالكسر، بل هي بالفتح وباتفاق القراء.

وبعد أن أتقنت قراءة حفص عن عاصم نصحني البعض، ومنهم الشيخ حسين، بقراءة القرآن كاملًا مرة في حضرة وبين يدي الشيخ عبد الحكيم عبد اللطيف، وهو من أكابر الشيوخ وأحد أعضاء لجنة المصاحف بمجمع البحوث الإسلامية. فحضرت عنده بساحة الجامع الأزهر. وهناك غيري الكثير ممن جاءوا للقراءة بين يدي مولانا الشيخ عبد الحكيم. وقرأ أحدهم من سورة الزمر "وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا" وبكى فجأة بعد قراءة الاستعاذة وكلمة "سيق"، فقال له الشيخ متعجبًا "كيف تبكي بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، طب استنى أما تخش النار يا أخي".

كنت، وما زلت، أُذكّر نفسى دائما بأسباب ابن الجوزى؛ بأن العاقل إذا سمع (أو رأى) أخبار هؤلاء الحمقى عرف قدر ما وُهب؛ فحثه ذلك على الشكر. وكنت أتذكر، بجانب الشكر والحمد، أن هذه المواقف والحماقات تستدعى الضحك والتأمل لا البكاء والغضب. بل إن بعض العلماء كانت لهم عناية بجمع مثل هذه الأخبار والحكايات، وكتب عنها الجاحظ وسماها "عناية العلماء بالمُلح والفكاهات". وفى حديث مرفوع لأبى الدرداء، جاء "أجمّوا النفس بشيء من الباطل". وفي ما رُوي عن أسامة بن زيد قال: "روّحوا القلوب تعي الذكر".