المنصة
تصميم: يوسف أيمن

دليل المستعمر الصغير: كيف يتحول الشعور بالاستقلال إلى "الحڤرة"؟

منشور الاثنين 3 فبراير 2020

في عام 1961 بينما الجزائر في طريقها لتحقيق الاستقلال على المستعمِر الذي أفتكّ أرضها وذاكرتها لأكثر من قرن من الزمن، كان الطبيب النفسي، فرانتز فانون، مشغولًا بكتابة أخر نصوصه معذبو الأرض، للتنبيه إلى آثار العنف الاستعماري التي ستظهر بشكل رهيب بعد الاستقلال، لأن الفضاء الذي غادره الفرنسيون، ما يزال في الواقع محكومًا بالكولونيالية.

كان فرانتز فانون، مسؤولا على مستشفى الأمراض العقلية ببليدة، الجزائر، بداية من سنة 1953، ويرجع أصوله من جزر المارتينيك، وقد وقف ضد الممارسات اللاإنسانية للاستعمار الفرنسي وناضل من أجل 1961 استقلال الجزائر.

أغلب القراءات التي طالت نصوص فانون دراسة وتحليلًا، قدّمت لنا الرجل المناضل الذي وهب عمره للجزائر، لكن الأهم، وربما هي الحقيقة الصادمة التي علينا تحمّلها، أن النتائج التي توصل إليها من خلال تجربته كطبيب نفسي بمستشفى الأمراض النفسية، بمدينة بليدة في الجزائر، لا تخص الأنديجان، أو السكان الأصليين، كحالة استثنائية، وإنما هي عيّنة للحالة الجزائرية في أغلبها، والتي دمّرتها الصدمة الاستعمارية العنيفة.

والأنديجان هي كلمة فرنسية تعني السكان الأصليين الذين كانوا موجودين في الجزائر قبل أن تقوم الدولة الفرنسية باحتلالها ونقل الأوروبيين وتوطينهم فيها، لكنها تحمل أيضًا دلالة عرقية تحيل إلى الشعوب اللاحضارية لتبرير الفعل الاستعماري.

لذلك، إذا كانت مهمة الاستعمار هي السيطرة والتحكم في الأرض تحت وطأة القوة العسكرية، فإن وظيفة "الكولونيالية"، المفهوم الأكثر اختفاء في وعينا، هي تفريغ الفرد من كل الصور الذهنية التي تربطه باللّغة، ومن ثمة قطع الروابط بالنسب والقبيلة والمكان، ليصبح حالة مجتثة من شروطها الطبيعية والتاريخية، لذلك، فالأنديجان ظاهرة كولونيالية أكثر منها استعمارية، لأنها تنخر الذات من الداخل حتى تفنيها، لذا ينبغي أن نتساءل عن سر العلاقة الحميمية بالموت، التي تظهر في الشعارات عند كل أزمة، فينتصر فيها الموت على الحياة، مثل عبارة "عليها نحيا وعليها نموت" التي تردّدت كثيرًا في التسعينيات.

 

فرانس فانون

ممّن ننتقم؟

بعد توقيع اتفاقيات إيفيان سنة 1962، والتي أنهت 132 عامًا من الاستعمار العسكري الفرنسي للجزائر، اعتبرت فرنسا أن الماضي الكولونيالي قد "طويت صفحته"، ليصبح قضية الجزائري وحده وعليه الآن أن يواجه تبعاتها بمفرده، وتمت تبرئة العسكر الفرنسي معنويًا من كل الجرائم المرتكبة.

في المقابل، ما أن تم إعلان الاستقلال حتى انطلقت المعركة بين "الإخوة" الجزائريين، خرج يومها الشعب منهكًا ومحطمًا وهو يصرخ "سبع سنين بركات".

عندما روى فانون في كتابه "العام الخامس للثورة الجزائرية" قصة الطفل الذي أرغمه العسكر الفرنسي على مشاهدة عائلته وهي تتعرّض إلى التعذيب الوحشي، تساءل بعدها "هل بالإمكان أن ينسى الطفل الجريمة اللعينة التي عاين لحظاتها القاسية؟ هل سينسى الغضب وضرورة الانتقام؟ لكن الانتقام ممّن، باعتبار الجاني قد غادر الأرض وتمت تبرئته من كل التبعات".

هذه المحنة التي أشار لها فانون في كتابه قد عايشها جاك شاربي، السينمائي الذي أخرج أول فيلم في تاريخ السينما الجزائرية سنة 1965 بعنوان "سلام فتي جدا" une si jeune paix.

وقف جاك شاربي، وهو ممثل ومسرحي وكاتب فرنسي، ضد الاستعمار الفرنسي وساند الثورة، حكمت عليه فرنسا بعشر سنوات سجن بتهمة مساعدة الأفلان، وتمكن من الفرار من السجن ليلتحق بتونس ويجتمع بفرانتز فانون والزوجان بيار وكلودين شولي.

سخّر شاربي جهده ووقته للتكفّل بأولاد المخيّمات، وتبنّى أحد هؤلاء الأولاد، مصطفى بلعيد ذي العشر سنوات، الطفل الذي يحمل على جسده آثار التعذيب، الشاهد على المجزرة والناجي الوحيد من القتل الذي أنهى كل العائلة. بعد أن صدر حكم العفو في حق جاك شاربي، انتقل للعيش في فرنسا مع مصطفى الذي ظلت آثار الصدمة تطارده حتى سلّم شبابه للموت.

الفاجعة اللعينة التي أهلكت مصطفى بلعيد الفرد، هي نفسها التي ستهلك "الجماعة" سنوات من بعد، في التسعينيات، ليعود الموت ممارسة وشعارات، ترفعها مكبرات الصوت لتملأ الأماكن الأكثر صمتًا فينا.

 

نحو التحرر وليس الاستقلال

فرانتز فانون هو الوحيد الذي تنبأ بهذا المصير الصّادم الذي سيجر الجزائريين فيما بعد إلى الفوضى والنزاع.

تشتغل الظاهرة الكولونيالية على تفريغ الجزائري من كل معالم "الاعتراف"، ليصبح في نظر الكولون مجرد كتلة بشرية تقيم على أرض رومانية، ترسيخ الشعور بأن الأنديجان هو "الغريب" على أرضه، وتعميق الهوية بين التسمية الكولونيالية "أنديجان" و"الجزائري" الذي يحلم أن يكونه، وضعت الفرد في مواجهة أعقد الاضطرابات والأزمات النفسية، التي تضطر الذهن إلى تقبّل المفارقات والتناقضات، بل أكثر من ذلك، لا يجد حرجًا في تبريرها والدفاع عنها.

يبقى الأخطر من كل هذا، يقول فانون، أنّ أثار هذا البتر والانتزاع ستنتقل من جيل إلى آخر، لأن "السّياسي الجديد سيتقمّص قناع الجلاّد القديم"، وكأن فانون يقول لنا "أخوف ما أخاف عليكم الكولون الذي يسكنكم".

هكذا يعود الشبح الكولونيالي اللّعين ليسكن الأذهان والأفعال والأقوال، وفي الحالات الأكثر خوفًا وفزعًا، نفر إلى بعضنا لنصبح كلنا "خاوة خاوة"، أما في حالات الغضب ننسى من نحن فنصرخ "شكون أنت؟" وفي حالة البسط نعود إلى طقوس البداوة ونتغنى بأوصاف الدشرة والعروش (القرية والقبيلة)، أما إذا استقر بك الحال في مدينة أخرى غير مكان ولادتك، فلا بد من فترة "إندماج" لتصبح "ولد بلاد"، ومهما طال بك الزمن سينطق الجن الكولونيالي على لسانك لينعتك بالزوافي (القبائلي).

ينبهنا فرانتز فانون إلى أن الاستقلال هو في النهاية مجرد الشعور بأنك موجود كجزائري ولا أحد يملك الحق ولا القوة في أن يسلبك هذه الصفة، أما التحرر أو الاستقلال الحقيقي، فهو القدرة على تحويل العنف الذي يسكننا إلى طاقة إبداعية، وهذا لا يتم إلا "بالانفصال" عن الماضي والنظر إلى التاريخ تماسفًا (أي اتخاذ مسافة منه) وليس انتماءًا.

الصدمة النفسية والسياسية

في الوقت الذي يبدو فيه أن الجزائر وفرنسا قد اتفقتا ضمنيًا على عدم التطرّق لآثار الكولونيالية التي ماتزال تطاردنا، والاكتفاء بالكتابة وإثارة النقاشات والجدالات الصالونية حول الأحداث التاريخية التي لا نملك منها سوى المرويات والأرشيف المحجوب، في هذا الظرف بالذات، يصدر الكتاب الذي يمكن اعتباره الأهم حاليًا في التاريخ الجزائري، للمحلّلة النفسية كريمة لعزالي بعنوان الصدمة الكولونيالية، تحقيق حول الآثار النفسية والسياسية المعاصرة للاضطهاد الكولونيالي في الجزائر، الذي يرصد الظاهرة من خلال معاينة ميدانية للآثار في الضفتين الجزائرية والفرنسيّة.

تنطلق الكاتبة من بعض الأحداث التاريخية الموثّقة في المراجع الفرنسية، وبخبرة مزدوجة في التحليل النفسي بين الجزائر وفرنسا، ومن خلال تحليلها للأدب الجزائري باللّغة الفرنسية، لتبيّن امتدادات الأثر الاستعماري الضارب بقوّة في حاضرنا، من بين كل الأحداث الاستعمارية البشعة، ثمة حدثين مهمين، يشكلان المنعطف الحاسم لفهم مآلات الأوضاع حاليًا.

الحدث الأول بين سنة 1830 و1847، وقت أن قررت فرنسا القضاء على ربع عدد الجزائريين بالقتل والتجويع واستبدالهم بالأوروبيين، لتبدأ أبشع حملة عنف في تاريخ القوى الاستعمارية آنذاك. تقول لعزالي "إن الأمر يتعلق بالقضاء على أكبر عدد ممكن من السكان الأصليين، وزرع العنف بشكل دائم لاختزال العرب، بتعبير الفيلسوف الفرنسي، ألكسيس دو توكفيل".

غاية الهجمة الاستعماريّة يمكن تلخيصها في المذكرات التي عثر عليها الكاتب والناشر فرانسوا ماسبيرو، لضابط فرنسي يقول فيها بصريح العبارة "كل الأحياء قد لقوا حتفهم".

ثانيا، في سنة 1871، قام الجزائريون "الأنديجان" بثورة ضد الكولون بزعامة المقراني، سنوات من بعد 1880، قررت الإدارة الكولونيالية استبدال نظام التسمية التقليدي، القائم على الانتساب إلى الأب ثم القبيلة ثم المكان، إلى نظام تسمية فرنسي ليسهل على الكولون تحديد الأفراد، فأبقت الإدارة على الأسماء لكنها منحتهم ألقابًا جديدة.

هذا الإجراء مكّن الاستعمار من السيطرة على الجماعة، لكن الأهم والأخطر هو أحداث قطيعة حقيقية ليس فقط بين الفرد وقبيلته بل كذلك بين الفرد ونسبه الأبوي. تقول لعزالي "هكذا تمت إعادة تسمية الأفراد، أو اللاتسمية من طرف الإدارة، بإقصاء النسب كمرجع أمام خطر مجيء أجيال ينتمون إلى نفس النسب، لكنهم يحملون ألقابًا مختلفة، ليصبح كل واحد منهم غريبًا عن الآخر منذ الولادة، وبالتالي فهم عرضة للوقوع في المحارم من خلال الزواج".

كذلك تم توظيف إعادة التسمية لغرض الإهانة والإذلال والاحتقار مثل "راس الكلب، رخيس، زاني، بهلول، بوتريمة". وفي تقريره حول الجزائر سنة 1847، كتب المؤرخ السياسي، ألكسيس دو توكفيل " لقد تم اقتحام قرى الأنديجان وتعنيفها ونهبها، وقد كانت المخططات الإدارية أكثر فاعلية من المخططات العسكرية، الكثير من الممتلكات الفردية قد تم تدميرها وتحطيمها، وتمّ انتزاع الكثير من الأراضي الخصبة في نواحي العاصمة من أصحابها ومنحها للأوروبيين، وبما أنّهم لا يريدون ولا يملكون حتى القدرة على خدمتها، فإنهم أجّروها لنفس الأنديجان الذين أصبحوا فلاحين (أو خماسين) في أراضي آبائهم".

هذه بعض المعطيات التي تتيح لنا فهم الكثير من مشاكل الحاضر،  لاسيّما "مسألة الهويّة"، وتمكّننا من فتح وعينا أكثر على ظاهرة "الحـڤـرة" التي نمارسها على بعضنا البعض.

 

 

صورة أرشفية لمظاهرة في شوارع الجزائر. الصورة: TSAalgerie/Twitter

الحقوق المدنية

الكولون الذي يسكننا يعلم بأن الخطر يكمن في تأسيس "المواطنة الحقيقية"، التي تمنع ممارسة التعسف والقوة والحـڤـرة، لأن الكل متساوون أمام عدالة القانون. لذلك، عندما طالب الأنديجان بالمساواة مع الفرنسيين، قامت الإدارة آنذاك بفرض "قانون الأنديجان 1881"، الذي يمنح الامتيازات والجنسية الفرنسية بحسب درجة الخضوع والإذعان، خاصة بعدما قرّرت السلطات الفرنسية من خلال مرسوم كريميو منح الجنسية الفرنسية لليهود الجزائريين سنة 1870، حينها شعر الجزائريون بأن الاعتراف مرهون بالإقصاء والاحتقار.

يبدو أن مسالة الهوية لا تعدو أن تكون مجرد "هوس الأنديجان" في أن يصبح في مقام "الكولون"، هكذا هو مكر الكولونيالية، يجعلك تقتنص لحظة القبض على القوة للشعور بالاعتراف وتحقيق الذات، ومن ثمة ممارسة الحـڤـرة على الآخرين كلما انخفض منسوب الاعتراف.

تتكشّف وتتعرّى الكولونيالية عندما يشعر الجزائري بأن ثمّة ممارسة سياسية تتطابق مع ما كان يمارسه الكولون، لذلك، لا نستغرب أن نسمع هتاف النّاس في الحراك بعبارات "الشعب يريد الاستقلال"، "طالبين الحريّة"، لأن "الأنديجان" كان ممنوعًا من ممارسة السياسة طيلة الفترة الكولونيالية، ولا يزال جزائريّ اليوم مقصيّا من هذا الحق "المدني" بعد أكثر من خمسين عامًا من الاستقلال.

في سنة 1961 وقبل أشهر من وفاته، لاحظ فرانتز فانون بأن كل الجزائريين الذين كانوا يتلقون العلاج بمستشفى الأمراض العقلية ببليدة، "يحلمون كل يوم بأن يصبحوا في مكان الكولون". أولم يقل أحد المتكلّمين باسم حزب التحرير الوطني بعد أسبوعين من بداية الحراك "إنّكم تحلمون وصح نومكم وأحلام سعيدة؟".