تصميم: المنصة

نظرة من شباك السجن: لماذا لا تقفون في البلكونات؟

منشور الخميس 21 نوفمبر 2019

العمارات المحيطة بالسجن على مرمى البصر، عالية وأدوارها كثيرة، بها عشرات الشرفات، مختلفة الأشكال والأحجام. أما الزنزانة فهي ضيقة وخانقة وكئيبة، بها نافذة صغيرة مغطاة بثلاث طبقات من القضبان الصلبة، يستطيع الناظر من خلالها بعد جهد وتدقيق أن يرى الشرفات المتراصة طوليا كخلفية ثابتة، لا تتغير، وفي أوقات الفراغ المملة والطويلة، تكون النافذة هي المتنفس الوحيد والطريق الوحيد للعالم الخارجي، نتطلع خلالها على أمل ألا ننسى وجود عالم آخر خارج السجن، وبشر آخرين غير المساجين والسجانين.

عبر المئات من الأيام في نفس المكان، اعتدت أن أتطلع أكثر من مرة يوميا وفي أوقات مختلفة من اليوم، أنظر إلى هذه الشرفات لعلي أئتنس برؤية أي إنسان، ولكنني في كل مرة أراها خالية، باردة، جامدة، لا تتغير، وكأن هذه الشرفات وساكنيها متواطئون مع السجانين، وربما متواطئون مع الجمود والعدم، حتى لا يرى أي صورة أو دليل على وجود عالم آخر جئنا منه ونتمنى العودة إليه.

لماذا لا يقف أحدهم في الشرفات؟

هل هي تعليمات أمنية بعدم الوقوف في شرفات تطل على السجن (لأسباب أمنية أو ربما لتكتمل عزلة  المساجين إجباريا عن العالم)، أم هل هي الرهبة والانقباض من رؤية عنابر السجن، وشكل المساجين، وأسوار السجن العالية، ربما أتفهم هذا الامتناع في ليالي الشتاء الباردة، ولكن ماذا عن ليالي الصيف، هل يدرك أصحاب هذه الشرفات النعمة التي يحوزنها بامتلاكهم شرفة (بلكونة)، يستطيعون النظر منها وقتما يشاءون، بل وبإمكانهم النظر مباشرة إلى السماء دون قضبان.

وماذا لو وقف أحدهم في الشرفة؟

ماذا لو رأيته، هل يراني بنفس الدرجة، وهل يستطيع تمييزي من وراء القضبان، وعبر هذه المسافة، أم أنه يرى صورة عامة للسجن، تبعث في نفسه الكآبة وينصرف عنها. هل يعلم كم عدد الأشخاص الذين ربما يتطلعون إليه بنفس هذه اللحظة، باعتباره مصدرًا للأمل، على إمكانية التغيير، وعلى وجود عالم خارج السجن، هو سفيره وممثل لبني البشر الأحرار (نسبيًا)، وهل يدرك هذا الإنسان قيمة فعل بسيط مثل الوقوف في الشرفة المطلة على السجن، بالنسبة لآلاف من المساجين.

هل السجن صورة أخرى للموت؟

هل يتطلع الموتى للأحياء، كما نتطلع للشرفات خارج السجن، هل ينتظر أهل القبور زيارات الأحياء لهم كما ننتظر وقوف أحدهم في الشرفة، هل يتمنوا أن يعودوا للحياة مرة أخرى (كما نتمنى ذلك)، ليصححوا أخطاءهم، ويغتنموا الفرص التي ضيعوها في حياتهم.

أعتبر كل يوم يمر علي في السجن هو انتصار لنفسي انتصار يتجدد كل يوم، حاولت ولا أزال أحاول على قدر طاقتي أن أتعلم، وأتأمل، سألت وحاصرتني أسئلة، ربما أعرف إجابتها، أو لا أعرف، لكني ما زلت أتساءل وأتأمل.. لماذا لا يقف أحدهم في الشرفة.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.