كنبة مسلسل فريندز الشهيرة. الصورة: صفحة المسلسل- فيسبوك

مسلسل فريندز: رحلة الصوابية السياسية من وسيلة لتجنب الإساءة إلى أداة لحصار المبدعين

منشور الخميس 14 نوفمبر 2019

في أولى حلقات مسلسل F.R.I.E.N.D.S سنعرف أن روس جيللر (ديفيد شويمر) انفصل لتوّه عن زوجته كارول (جاين سيبيت) بينما ينتظران طفلهما الأول، بسبب اكتشافها ميولها المثلية بعد فترة من زواجهما عندما تعرفت على صديقتها سوزان (جيسيكا هيتش)، وتوطدت علاقتهما لتتجاوز حدود الصداقة. 

لاحقًا، وخلال 236 حلقة موزعة على عشرة مواسم، سنرى روس يتخبط كثيرًا في علاقاته التالية، يصادق فتاة ويخونها مع ريتشل جرين (جينيفر أنيستون) التي يحبها منذ مراهقته، وعندما يصبح الثنائي في علاقة يفشلان بسبب اهتزاز ثقة روس بنفسه دائمًا. بعد ذلك تنهار زيجته الثانية من امرأة مهووسة بالسيطرة بسبب نطقه الاسم الخاطئ في حفل الزفاف، ويتزوج مرة ثالثة من ريتشل وهما في حالة سكر شديد، وقبل أن يبلغ عمره 30 سنةً يصبح مطلقًا ثلاث مرّات. 

في الوقت نفسه، فإننا نرى علاقة كارول وسوزان تتطور كأي علاقة طبيعية بين أي شريكين ناجحين. تعيشان حياةً سعيدة وترعيان سويًا بِن، ابن كارول وروس، بينما هذا الأخير كلما التقى زوجته السابقة وحبيبتها ظهر ارتيابه المَرَضيّ وارتباكه وتلعثمه، وكلما بدا مرتابًا مرتبكًا متلعثمًا تنجح السيدتان المثليتان في احتوائه. 

هذه بعض الخيوط الدرامية لمسلسل يواجه سلسلة من الاتهامات مثلما ورد في هذا المقال:

زيارة جديدة لمسلسل فريندز: لا رجال سود في نيويورك

 

كثير من سهام النقد الموجهة مؤخرًا إلى المسلسل الكوميدي الذي امتد عرضه لعشر سنوات من 1994 وحتى 2004، وما زال حتى الآن يحقق أعلى نسب مشاهدة حتى بعد انتهاء عرضه بـ 15 سنةً، تستند إلى مخالفته قواعد الصوابية السياسية. ولكن سهام النقد هذه، في الواقع، تسقط في فخين أساسيين هما التجريد، والخلط بين العمل وأبطاله.

فخ التجريد شديد الجاذبية، فليس أسهل من اقتطاع أي واقعة تاريخية أو حدث ما أو عمل فني من سياقه الاجتماعي والسياسي، والتعامل معه كأمر وقع في لحظة خارج الزمن، وفهمه ثم نقده استنادًا إلى القواعد التي استقرت عليها الإنسانية اليوم.

بهذا المنطق؛ فإن دخول عمرو بن العاص إلى مصر يعدُّ انتهاكًا لميثاق الأمم المتحدة الذي يحترم سيادة الدول، ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية هي نصر دبلوماسي حققته القاهرة، وجورج واشنطن كان واحدًا من المتاجرين بالبشر. 

طوال سنوات طويلة استندت الدراما، حتى في مراحل ما قبل اختراع السينما، على السخرية من البدينين والأقزام والمعاقين وغريبي الشكل والأطوار مثلما يعطينا فيلم The Ballad of Buster Scruggs لمحة في إحدى حكاياته عن فرقة مسرحية متجولة في القرن التاسع عشر، تعتمد بشكل أساسي على شاب قعيد يتحلق الناس حوله لا لجاذبية ما يرويه ولكن لغرابة شكله في المقام الأول. 

لم يتغير هذا كثيرًا مع سطوة السينما ثم الدراما التلفزيونية، فعلى مدار سنين طويلة ظلت الكوميديا تعتمد في أحيان كثيرة على السخرية من غريبي الأطوار. ليس فقط في بدايات نشأة هذا الفن أو مراحل تطوره المبكرة. حتى ثمانينات القرن الماضي كان عاديًا في مصر على سبيل المثال بناء مشهد كوميدي على السخرية من أحد الأقزام أو على ملامح الفزع التي ترتسم على وجه سيدة تتعرض لتحرش جنسي. 

القيم الاجتماعية السائدة في المجتمع هي التي تنعكس في الأعمال الفنية التي تقدم على الشاشتين، وهو ما حدث في هوليوود خلال النصف الأول من القرن العشرين عندما كانت القيم السائدة وقتها هي الذكورية والتمييز العرقي الممنهج وتسييد مفاهيم تفوق الرجل الأبيض الوسيم. فمثلًا، حتى عام 1970 ترشح لجوائز الأوسكار (التي تُمنح منذ العام 1929) تسعة ممثلين وممثلات فقط من الأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية، وحدها هاكي ماتدانيال من فازت بالجائزة عام 1939 عن دورها كممثلة مساعدة في فيلم Gone With The Wind (ذهب مع الريح).


اقرأ أيضًا: من هيتشكوك إلى تارانتينو: كيف انعكست ذكورية العالم على شاشة السينما


خاضت المجتمعات الإنسانية رحلة طويلة وبطيئة من أجل تعزيز قيم كالمساواة واستيعاب الجميع وتحقيق الفرص المتكافئة ووقف التمييز. التخلص من إرث العبودية ثم الكف عن استغلال المعاقين ثم وصم من يمارسون التمييز العنصري والعرقي ثم أخيرًا محاصرة الانتهاكات الممنهجة التي تتعرض لها النساء في حملة Me Too، كلها محطات هامة في تطور أشكال تفاعل البشر سويًا في المجتمعات الإنسانية.

هذه الخطوات البطيئة انعكست على الدراما بشكل تدريجي. مع تصاعد الحركة المدنية في خمسينيات وستينات القرن الماضي تزايد الطلب على الممثلين ذوي البشرة السمراء في هوليوود لأن استبعادهم الممنهج الذي استمر طويلًا لم يعد أمرًا مستساغًا وبات تواجدهم ضروريًا وإن كان مجرد تواجد رمزي. من عام 1970 حتى عام 2000 ترشح 25 ممثلًا وممثلة من أصول أفريقية لنيل جوائز الأوسكار الأربعة التي تمنح للممثلين، فاز منهم ثلاثة ممثلين وممثلة واحدة. 

هنا، يمكننا بالتأكيد أن نتحدث عن "مناخ عام" في السينما الأمريكية قبل عام 1970 يمارس التمييز الممنهج ضد الأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية، ولكن في الوقت نفسه سيكون من التعسف الشديد اتهام فيلم ما بعينه بالعنصرية لمجرد أنه لم يستقدم إلا ممثلين من ذوي البشرة البيضاء، وإلا فإننا بهذا القياس يمكننا أن نوجه اتهامًا بالعنصرية لمخرج مثل ستانلي كوبريك استنادًا إلى أن أول ظهور لممثل أسود في أحد أفلامه كان عام 1982، عندما أدى سكاتمان كروثرز دورًا في فيلم The Shining (البريق)، وهو عاشر أفلام كوبريك الروائية الطويلة من أصل 12 فيلمًا روائيًا طويلًا أخرجها طوال مسيرته، جعلت منه أحد أهم مخرجي القرن العشرين إن لم يكن أكثرهم أهمية.

من هذا المنطلق، فإن اتهام مسلسل فريندز بـ "العنصرية السلبية" ضد السود باعتبار أنه وطوال حلقاته الكثيرة لم يقدم ممثلًا واحدًا أسود البشرة، وكأن هناك التزامًا ما على صناع المسلسل بتحقيق تمثيل عرقي للجميع في حلقاته، يبدو اتهامًا متحاملًا، تتحول فيه الصوابية السياسية من وسيلة لتجنب القمع والتمييز والإساءة، إلى أداة لحصار المبدع وفرض "كوتة" عرقية عليه الالتزام بها وإلا وصمناه بالعنصرية، وهو الحصار الذي يتنافى مع الصوابية السياسية نفسها.


يعد فيلم الحريف لمحمد خان أحد أهم الأفلام التي أنتجتها السينما المصرية، وتبدو فيه شخصية فارس (عادل إمام) شخصية مُلهمة. هل يمكن اتهام فيلم الحريف بأنه فيلم ذكوري ينتهك النساء باعتبار أن فارس كان مهملًا لزوجته وكثيرًا ما اعتدى عليها بالضرب؟ 

ثمة خلط واضح يقع فيه كثيرون بين العمل الفني وأبطاله. فيلم الحريف ليس فيلمًا يروّج لقيم ذكورية على الرغم من أن فارس كان يضرب زوجته، ولكن فارس ابن بيئته، وذكوريته هذه مفهومة في سياقها الزمني والاجتماعي. وقراءة الحريف كفيلم يروّج لقيم فارس الذكورية هي قراءة سطحية بكل تأكيد، تمامًا كالتعاطي مع فريندز كمسلسل يروّج لرهاب المثلية لأن أبطاله أطلقوا نكاتًا على صديقهم الذي هجرته زوجته بعد اكتشاف مثليتها، أو لأن شابًا نيويوركيًا لم يستطع التصالح في عام 1994 مع حقيقة أن أباه يرتدي ملابس نسائية مثيرة ويقدم استعراضات راقصة في ملاهي لاس فيجاس. 

طوال مواسمه العشرة، وبعيدًا عن وجبة الكوميديا الدسمة التي يقدمها المسلسل في كل حلقة، فإن ما يميّز فريندز عن غيره من الأعمال الكوميدية التي لم تحقق ذات القدر من النجاح والانتشار، هي البراعة في بناء شخصيات الأصدقاء الستة، بطريقة تتناسب مع تجاربهم وخبراتهم المختلفة، والتي تنعكس في كيفية تعاملهم مع ما هذه الخبرات المختلفة وتعلمهم منها. تتطور شخصياتهم بشكل لافتٍ ويصبحون أكثر تعقلًا في نهاية الموسم العاشر (ربما باستثناء جوي تريبياني)، وهو ما بدا منطقيًا ويحسب بشدة لصانعي المسلسل، البناء المحكم للشخصيات وتطورها. 

لم يكن منطقيًا أن يظهر فارس في الحريف نسويًا يحدثنا عن حقوق زوجته في حياة آمنة، تمامًا مثلما لن يصدق أحد أن شابًا أمريكيًا يعيش في نيويورك منتصف تسعينات القرن الماضي سيكون متصالحًا مع تحول والده إلى راقصة، أو أن يتصالح صديقه مع اكتشاف حقيقة أن زوجته هجرته لأنها مثلية تمارس الجنس مع صديقتها. 

ولكن هل تعني أزمات تشاندلر بينج (ماثيو بيري) وروس جيللر هذه، ومزاح أصدقائهما، أن المسلسل يروّج بالفعل للرهاب من المثلية؟ أصدقاء تشاندلر الذين سخروا كثيرًا من أزماته وميكانيزماته الدفاعية الساخرة في التعامل معها، هم من أقنعوه بأن يذهب لدعوة والده إلى حفل زفافه، وأصدقاء روس الذين سخروا كذلك من حقيقة أنه قضى مع زوجته سنوات دون أن يعرف توجهاتها الجنسية هم نفسهم من أقنعوه بضرورة احترام خياراتها وتجاوز تجربته معها والمضي للأمام.

إعلان المواقف المبدئية أمر سهل. الانحياز المجرد لقيم مثل حرية الجسد وغيرها مما يتفق مع الصوابية السياسية يشعر المرء براحة. ولكن عندما تمس هذه القيم حياة المرء نفسه فإن الأمر يصبح أكثر صعوبة بكل تأكيد. 

المبدأ المستقر أن لكل إنسان سلطة على جسده، وأن وصم الناس بسبب اختياراتها الجنسية أمر مرفوض، ولكن عندما تتعلق المسألة بأمر شخصي، يصبح منطقيًا أن تتسبب هذه الأمور بأزمات كبيرة. 

من منا اليوم، وبعد أن أصبح الحديث عن حقوق الناس في إعلان ميولها الجنسية المتنوعة حديثًا سائدًا، قادر على التصالح مع حقيقة أن أباه يعمل راقصة في ملهىً ليلي؟ هل تقديم شخص يعاني من هذه الأزمة في عمل درامي يعني أن هذا العمل الدرامي يمارس الوصم بحق المتحولين جنسيًا أو المثليين؟ تبدو هذه بدورها قراءة سطحية لعمل درامي. 

جزء من جودة العمل الفني تنبع من مصداقيته ومصداقية شخصياته. ويحسب لفريندز، وهو مسلسل كوميدي لا يريد بشكل أساسي الاشتباك مع قضايا اجتماعية جدلية، أنه قدم نموذجًا لعلاقة مثلية صحية مثل علاقة كارول وسوزان، قبل أن يصبح الحديث عن المثلية أمرًا رائجًا مثلما هو الحال الآن. 


اقرأ أيضًا: الأوسكار للملونين والمثليين والنساء: جوائز الأكاديمية وضرورة التمييز الإيجابي


 

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.