تصميم المنصة

جنيهات صعبة المنال: قانون عتيق وأحكام النفقة "حبر على ورق"

منشور الاثنين 4 نوفمبر 2019

في 25 أكتوبر/ تشرين اﻷول، كشف الأزهر عن مشروع قانون أعدّه بشأن اﻷحوال الشخصية، ولم يكد يمضي على خروج المقترح للعلن سوى ساعات حتى أثار جدلًا بين تأييد ومعارضة، كان أبرزها من مؤسسة قضايا المرأة، التي اعتبرته "تكريسًا لسلب حقوق المرأة، وعودّة مائة عام للوراء".

لكن النقاشات الدائرة لم تشغل حيزًا كبيرًا ببال رانيا ومنال* ولمياء*، فالثلاثة كان اهتمامهن منصرفًا لأمر آخر، هو أحكام قضائية حصلن عليها منذ شهور بل وسنوات بموجب قانون الأحوال الشخصية الحالي، لكن دونما طائل، سواء كان الحكم بنفقة أو تطليق وحضانة، فصار شغلهن الشاغل هو تنفيذ الأحكام، ولو استلزم الأمر مجهودًا ونفقات تضيف ﻷعبائهن القائمة عبئًا آخر.

نفقة هزيلة

انفصلت رانيا عن زوجها عام 2016، تم اﻷمر بالتراضي وبتعهد منه لها على سداد إيجار المسكن ونفقة طفلتيهما.

تحكي رانيا للمنصّة عن مفاوضات ما قبل النفقة "كان عايز يدفع ألف جنيه بس للبنتين، وبعد تدخل المأذون زودهم لـ1500 جنيه، واشترط عليا إني الاقي سكن إبجاره مايزيدش عن ألف جنيه. وافقت، لكن بعد كده قال لي بلاش إيجار، اقعدوا في شقتي التمليك".

ارتضت رانيا قرارات طليقها، لكن سرعان ما واجهت مشكلات "بعد أسبوعين من انتقالنا لشقته حصلت مشاكل ﻷني غيرت كالون الشقة وهو كسر بابها؛ فعملت محضر تمكين منها، لكن فوجئت إنه عمل عقد بيع صوري لصديقه علشان يثبت إنها مش ملكه، ورغم كده الحمد لله المحكمة مكنتني منها".

أزمة السكن ليست الوحيدة التي واجهت رانيا، فالمشكلات كانت حاضرة حتى بحق مصروفات الصغيرتين "دفع نفقة البنات بانتظام في أول شهرين بس بعد الطلاق، بعد كده بدأ مرّة يدفع 750 جنيه بس ويقول مش معايا، أو يجيب لعب ببقية المبلغ؛ فاضطريت أرفع قضية نفقة".

مش هتطولي حاجة

تقول السيدة إن طليقها "لاعب الكرة ميسور الحال قدم من الأوراق ما يفيد بأن والده يعوله؛ ما ترتب عليه أن تكون نفقة الطفلتين 200 جنيه فقط لكل منهما"، لكنها وبحسب ما تثبته مستندات رسمية حصلت عليها المنصّة تقدمت باستئناف ضد الحكم، قالت إنها دعمتها بما يثبت أنه "ميسور الحال".

في تلك المرحلة من عمر القضية، كانت رانيا تواجه حربًا نفسية "قال لي مش هتطولي حاجة؛ فحاولت افاوضه نرجع تاني لمبلغ 1500 جنيه، بس يتعهد على دفعهم بورق رسمي، ورفض".

لم يمض وقت طويل حتى حدثت "المعجزة"، على حد وصف السيدة للحكم الصادر لصالحها، بالحصول على 8 آلاف جنيه نفقة للطفلتين وألفي جنيه نفقة حضانة لها، مع التمكين من الشقة.


اقرأ أيضًا| الهجالة: بماذا يخبرنا الصعيد عن العنف الزوجي؟


مجرد أمل

لاح اﻷمل لرانيا بمسكن ونفقات لإعالة الصغيرتين، لكن دون أثر على أرض الواقع "حاليًا قاعدة بالبنات مع عيلتي لأني مش حمل دفع فواتير الشقة. أنا ربة منزل وهو مابيدفعش حاجة، حتى لما عرضت عليه يدفع 5 آلاف بس، رفض. أخدت حكم متجمد نهائي ضده بالحبس شهر، لكنه مش عايز يدفع إلاّ 1500 جنيه. ومابيسألش على البنات، حتى لما قولت له إنهم هيتفصلوا من المدرسة ﻷننا مادفعناش المصاريف، قال لي مش فارقة معايا".

"المشكلة في تنفيذ الأحكام"، تقول رانيا بعد عامين من الجهد "كل ما اروح القسم علشان التنفيذ؛ يقولوا لي مش لاقيينه، مع إن تحركاته معروفة. وفي الآخر قالوا لي اعملي له كمين واحنا نجيبه. طيب هي دي مهمتي أنا؟".

في عام 2018، كشفت وزيرة التضامن الاجتماعي غادة والي أن الوزارة وأمام زيادة عدد الأحكام الخاصة بالنفقات، والتى تصل إلى 20% سنويًا، قررت تفعيل عدد من الإجراءات ضد مديني النفقة، حيث تم تحريك 37 ألفًا و513 جنحة ضدهم، بالإضافة إلى إدراجهم على قاعدة بيانات شركة الاستعلام الائتماني لحرمانهم من التمويل قبل سداد الديون.

لكن هذا ليس السؤال الوحيد الذي يشغل بال رانيا، فالأسئلة كثيرة، لكن دون إجابات "يعني إيه آخد نفقة بنتين 400 جنيه بس؟ وليه أقعد 4 سنين في المحاكم علشان النفقة و3 شهور علشان التمكين من السكن؟ طيب يعني في المدة دي أقعد في الشارع؟".

فين السيستم؟

بعد زواج استمر منذ عام 2007، انفصلت منال أحمد* عن زوجها منذ 7 شهور، ومنذ ذلك الوقت تواجه مصاعب، ليس فقط ﻷنها صارت العائل الوحيد لأطفالهما الثلاثة، بل ﻷنها ومنذ وقوع الطلاق لم تتمكن من الحصول على مستحقاتها، ﻷنها وحتى هذه اللحظة لا تعرف لزوجها عنوان.

"اتجوزته بعد رحلة كفاح بيننا، واضطر بعد ثورة يناير يسافر السعودية علشان يبني نفسه، وأنا فضلت في مصر علشان مدارس الأولاد، لكن بعد فترة اكتشفت إنه اتجوز هناك أجنبية وسابني أربي الولاد". تقول منال التي عاقبها زوجها لأنها واجهته بواقعة زواجه "قال لي مش هصرف عليكم. وفعلاً من سنة و3 شهور مابيصرفش علينا ولا حتى بيسأل".

حاولت الزوجة التواصل معه حتى بوساطات المقربين، لكن بلا نتيجة "وسطت أهله وأصحابه لكن مفيش فايدة، ماحدش منهم بيدلّني على حاجة؛ لحد ما اضطريت اخلعه في شهر مارس اللي فات، واتحكم لي بنفقة في شهر يونيو، 6 آلاف جنيه"، وهو الحكم المثبت بمستند حصلت عليه المنصّة.

المبلغ وفقًا لمنال "كبير" مقارنة بمبالغ النفقة التي سمعت بها ولا تتجاوز مئات الجنيهات، لكن حصولها عليه كان لسبب "اتحكم لي بالمبلغ ده علشان ده كان اتفاق بيينا موثق بورق قدمته للمحكمة".

نظريًا، تحصل منال على آلاف الجنيهات لصغارها. عمليًا، بلغ سوء الوضع المادي للزوجة حدّ عدم تمكنها من شراء ملابس ﻷبنائها "مش عارفين نصرف النفقة لحد النهارده، والمحامي قال لي التنفيذ مش هينفع ﻷن مانعرفش أي حساب بنكي ليه؛ ولازم نستنى لما ييجي مصر. وكل ده وأنا من سنة و3 شهور بمر بظروف صعبة، عدى علينا الشتاء اللي فات ماعرفتش أجيب هدوم لولادي، وحتى كتب الدراسة جبتهالهم مستعملة".

أمام هذه المصاعب اضطرت ربّة المنزل للتحول لامرأة عاملة "دلوقتي أنا بشتغل، بس مهما اشتغلت مش عارفة اكفي ولادي، ولا عارفة انفذ الحكم لا جوّه البلد ولا برّاها. نفسي الدولة تاخد إجراء، بحيث اسمه والحكم الصادر ضده يكون على سيستم، ولما يروح السفارة لتخليص أي إجراءات يقدروا يلزموه بالتنفيذ".

كعب داير

بعد عام واحد فقط من زواجهما في 2012، بدأت الخلافات بين لمياء محمود وزوجها، لكنها كانت تتجاهل الأمر من أجل الأولاد حتى كلّت بـ"الإهانات التي زادت بعد وفاة والدها".

لمياء التي خسرت عملها كمدرسة، بسبب ظروفها العائلية الحالية بعد الخلافات، اضطرت للعمل كمديرة مكتب خاص، فقط لتتمكن من الإنفاق على إجراءات التقاضي المستمرة في المحاكم منذ 2017، لتحصل على الطلاق.

"الطامة الكبرى في تنفيذ اﻷحكام مش في القانون. أنا بدخل القسم بلاقي ستات كتيرة معاهم أحكام أحوال شخصية، وموظف واحد بس مسؤول عنها" تقول لمياء من واقع تجربتها، وهي الزوجة التي لم تحصل على الطلاق حتى الآن، لكنها حصلت على حكمين ضد الزوج "أحدهما بالحبس 6 شهور بسبب قائمة المنقولات، والآخر بالحبس شهر لامتناعه عن سداد متجمد النفقة الزوجية لها"، وهي الأحكام التي حصلت المنصّة على صورة ضوئية لها.

توضح لمياء أن المشكلة ليست في عدم تكافوء القوة العددية بين الموظفين وطالبات تنفيذ اﻷحكام فقط، بل وفي إجراءت أخرى يشوبها بيروقراطية "الأمناء اللي المفروض ينفذوا اﻷحكام بيقولوا لي مش لاقيينه في العنوان المكتوب في الحكم، اللي هو شقة واحدة مش كل البيت، مع إني قولت لهم إن ده بيت عيلته وممكن يستخبي في أي شقة فيه، لكنهم بيصمموا على تفتيش شقة واحدة".

حبر على ورق

أمام تعثّر الإجراءات لجأت لمياء لإداريّ الأمن العام، بحثًا عن حل، لكنهم ردّوها لقسم الشرطة التابعة له مرّة أخرى؛ فلجأت للتفاوض "طلبت منه وديًا يشوف ولاده وننفصل واتنازل عن مستحقاتي كأني خلعته بس يصرف على اﻷولاد بس، ماوافقش. ولما قولت هخلع؛ قال لي مش هصرف على عيل مش في بيتي. ودلوقتي أنا في دوامة كعب داير في المحاكم، و هو طبعا قدم أوراق إنه مريض و غير مقتدر".

تعيش لمياء مع والدتها وتقاسمها مصروفات المعيشة، وذلك انتظارًا لتحقق "المعجزة" بتنفيذ اﻷحكام "بناخد اﻷحكام ومابنعملش بيها حاجة، بقيت بجمع في أوراق وبس. بيقولوا إن القانون في صف الستات؟ آه، لكن الست بتاخد حبر على ورق. هنعيش إزاي؟ هنأكِّل عيالنا منين؟".


اقرأ أيضًا| مشروع قانون مناهضة العنف ضد المرأة.. هربًا من تشريعات "نظام أبوي"


ضبط المنظومة

"عندنا مشكلة كبيرة في تنفيذ اﻷحكام، خصوصًا النفقات. السيدات بياخدوا أحكام كتيرة جدًا، سواء نفقة زوجية لو لسه على ذمة زوجها وفيه مشاكل بينهم، أو نفقة أولاد ومصروفات تعليمهم لو وقع الطلاق"، تقول جواهر الطاهر، مدير برنامج الوصول للعدالة في مؤسسة قضايا المرأة.

وتقسّم الناشطة الحقوقية، في حديثها للمنصّة، المشكلة إلى جزئين رئيسيين "أولًا المبالغ بتكون هزيلة، بسبب تقديم اﻷزواج لأوراق بمفردات رواتب قليلة. ثانيًا المعوقات بتظهر في صرف المبلغ، ﻷن بنك ناصر المسؤول عن صرف النفقات لا يسمح إلاّ بصرف 500 جنيه فقط، أيًا كان إجمالي النفقة، وبقية المبلغ لابد للزوجة أن تقيم به دعاوى متجمدات، وهذا للأسف نظام عمل البنك".

حاولت المنصّة التواصل، هاتفيًا وبرسالة نصيّة مع مصدر مسؤول في بنك ناصر للتعرّف على نظام عمل البنك فيما يتعلق بالنفقات، إلاّ أننا لم نتلق إجابة منه حتى موعد نشر التقرير.

كشفت وزيرة التضامن الاجتماعي غادة والي، في تصريحات على هامش اجتماع حكومي عام 2018، أن صندوق تأمين الأسرة التابع لبنك ناصر الاجتماعي صرف منذ تأسيسه عام  2004 لمستحقي النفقة مبلغ مليارين و641 مليون جنيه، لـ297 ألف مستحق ممن صدر لهم أحكام بنفقات والأجور وما في حكمها.

مشروع مجمّد

من مصاعب التنفيذ أيضًا وفقًَا للناشطة النسوية "التحري عن الزوج ومخاطبته لإلزامه بالدفع، إذ يحدث به تلاعب، خاصة لو كان يعمل في جهة قطاع خاص".

على المستوى التشريعي، طرحت مؤسسة قضايا المرأة مشروع قانون للأحوال الشخصية منذ عام 2018، ومايزال حتى اليوم في البرلمان الذي بدأ مناقشة القانون اﻷزهري المقدم لها اﻷسبوع الماضي.

عن المشروع الأزهري تقول الطاهر "به إشكاليات كثيرة، فأغلب مواده استنساخًا للقانون الحالي، بجانب وجود مشكلات أبرزها ترتيب اﻷب في الحضانة ومنحه الولاية التعليمية، بصرف النظر عن كونه الحاضن أم لا".

قبل أيام، قال شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، في تصريحات صحفية، ردًا على منتقدي مشروع القانون "حين يتعلق اﻷمر بقوانين مصدرها الشريعة الإسلامية؛ لا يصح أبدًا ولا يُقبَل أن يترك الحديث فيها لمَن هَبَّ ودَبَّ".


اقرأ أيضًا| "سايحة في دمها": لماذا تفشل دور الاستضافة في حماية النساء من العنف المنزلي؟


خسائر المرأة

من وجهة نظر المحامية ماريان سيدهم، فالمشكلة "مشتركة بين تنفيذ الأحكام وبين النصوص التشريعية سواء التي يصدرها الأزهر أو الكنيسة، والمبنية على دور محدد للمرأة، يجعلها المسؤولة الرئيسية وربما الوحيدة تقريبًا عن اﻷسرة، لدرجة أنها لو تزوجت بعد طلاقها تعاقبها بإسقاط الحضانة عنها، على عكس الرجل الذي يمكنه الاحتفاظ بالحضانة بعد زواجه".

تقول المحامية للمنصّة "هذه النصوص القانونية غالبًا ما تتحدث فيما يتعلق بقضايا المطلقين، بأنها ستعمل لصالح الأطفال، لكن هذا ليس قانونًا للطفل، بل لحل مشكلات أشخاص قرروا الانفصال".

وتشير سيدهم إلى جزء يتعلق بفلسفة القانون بقولها "هو لا يلتفت إلى المسؤولية المشتركة للزوجين، ويتعامل مع الرجل باعتباره العائل الوحيد، بينما على أرض الواقع كثيرًا ما تكون المرأة مشاركة في المسؤولية المادية؛ لهذا عند الانفصال تقع المشكلات، وتحصل على مستحقاتها بقيمة أقل بكثير من الحقيقية المفروضة، مجرد مبالغ هزيلة بسبب تقديم الزوج أوراق بدخل أقل من دخله الحقيقي، وهو ما يصعب إثبات عكسه".

يتفق حديث سيدهم عن مشاركة الزوجات في تحمل العبء المادي مع أزواجهن مع ما كشفته إحصائية لمحاكم اﻷسرة، أفادت بأن "49% من الخلافات الزوجية التي تنتهي بالطلاق في مصر مصدرها الرئيسي راتب الزوجة، وأن 53% من النساء اللائي كن طرفًا في قضايا محكمة الأسرة ذكرن في دعاوى الطلاق والخلع على أنهن اكتشفن بعد الزواج طمع أزواجهن في رواتبهن، وهو دافعهم الأساسي بالزواج".

تتابع المحامية "المشكلة أننا لضمان حق الزوجة، لو تحدثنا عن إثباتها عبر قائمة المنقولات؛ يكون الرد أنها عادة قديمة سيئة، وإذا تحدثنا عن حساب مشترك بين الزوجين يوزع رصيده بينهما إذا وقع الطلاق؛ يتم رفض هذا الحل أيضًا".

وتختتم سيدهم قائلة "المحصلة هي خسارة المرأة، سواء بسبب ضعف النصوص القانونية أو التنفيذ؛ ففي الخلع تخسر مستحقاتها، وفي الطلاق تعاني من أجل الحصول على النفقة وتضطر للإنفاق على الإجراءات القانونية، وهذا بخلاف حضانتها للأطفال، فالمطلقة قد تضطر للزواج عرفيًا من أجل الحفاظ على الحضانة؛ ما قد يترتب عليه مشكلات اجتماعية لها ونفسية لأبنائها".

بحثًا عن حل، تقول الناشطة النسوية جواهر الطاهر "المنظومة كاملة تحتاج ضبط فيما يتعلق بالتنفيذ، خاصة وأن السيدات ينفقن أموالاً ويبذلن مجهودًا في القضايا، ولا حيلة لهن في التنفيذ. حتى نحن كمؤسسة نقدم الدعم القانوني، وبعد صدور أحكام نقف عاجزين عن التنفيذ".


* اسم مستعار بناءً على طلب المصدر.