دمية تحمل لافتة "إنها ليست 30 بيزو، وإنما 30 عامًا". الصورة: خوان بابلو مولينا- فيسبوك

كيف تتمزق سمعة النيوليبرالية تحت أقدام المتظاهرين في شيلي؟

منشور السبت 2 نوفمبر 2019

"ولدت النيوليبرالية في شيلي، وستموت أيضا في شيلي" عبارة موجزة كتبتها فتاة على واحدة من لافتات التظاهر في البلد الذي يشتعل بالاحتجاجات منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.

وبغض النظر عن ما في هذه الجملة من تبسيط للأمور، لأن ما يوصف بالسياسات النيوليبرالية نشأ وتطور في أكثر من مكان، لكن هذه السياسات التي ارتبطت في أذهان الملايين حول العالم بإجراءات التقشف المؤلمة وارتفاع أسعار الخدمات الأساسية كان لها نقطة انطلاق قوية للغاية من شيلي في السبعينات. 

لا يمكن إنكار رمزية هذا البلد الصغير الواقع في قلب أمريكا اللاتينية، كمهد للإجراءات الصارمة التي أصبحت تتبعها الحكومات في كل أنحاء العالم بدم بارد من أجل النمو الاقتصادي، هذه الرمزية هي التي جعلت من الاحتجاجات الحالية على سياسات شيلي الاقتصادية مسألة جديرة بالانتباه والتأمل.

و كان طلاب المدارس الثانوية والجامعات بدأو الاحتجاج الشهر الماضي، بعد أن رفعت الحكومة أسعار تذاكر المترو في السادس من أكتوبر،ثم تحولت الاحتجاجات بشكل متزايد إلى العنف.

 

هل تموت النوليبرالية، حقًا، تحت أقدام المتظاهرين؟ 

لكي نفهم أكثر قصة النيوليبرالية في شيلي نحتاج لأن نتتبع لحظة النشأة، ربما ييسر علينا  هذا الأمر معرفة قصة طفل من هذا البلد اسمه "جونزالو".

جونزالو طفل مدلل، أشقر، ممتليء الخدين، كان يسكن في حي غني ويدرس في مدرسة خاصة يتعلم فيها أبناء الأسر المقتدرة، وذلك في مطلع سبعينات القرن الماضي.

في حياة جونزالو امرأتين، الأولى هي أمه. سيدة متأنقة من الطبقة الوسطى العليا، تمقت بشدة الرئيس الاشتراكي سلفادور الليندي الذي صعد للحكم بعد الفوز في الانتخابات عام 1970، فقط لاعتقادها أنه يريد مساواة الغني بالفقير. 

استغلت الأم أزمة نقص الأغذية في المحلات وانتعاش السوق السوداء، وخرجت مع سيدات من نفس الطبقة للتظاهر ضد " الليندي" بالأواني الفارغة

المرأة الثانية، أو بالأحرى "الفتاة" هي بنت يشعر جونزالو بالإعجاب بها، وهي فتاة من حي فقير أشبه بالعشوائيات في بلادنا، يتتبعها جونزالو وهي تسعى وراء رزقها من خلال بيع الأعلام ومستلزمات التظاهر للمسيرات التي كانت تملأ البلاد في هذا الوقت. 

لاتهتم الفتاة بالسياسة، فهي منشغلة بلقمة العيش، لذا تبيع الأعلام للمتظاهرين ضد الليندي وللمتظاهرين المؤيدين له أيضا، لكنه يلاحظ أنها ترفض الهتاف مع مسيرات اليمين المعارضة للرئيس، وتردد بحماس شديد هتافات التظاهر المؤيدة للرئيس الاشتراكي.

تلتقي الأم والفتاة بالصدفة في واحدة من التظاهرات، وينكشف ما في قلب كل منهما تجاه الأوضاع السياسية في البلاد، فيراهما جونزالو وهما يتشاجران ويتشابكان بالأيدي، عبرت تلك اللحظة عن احتدام حالة الانقسام المجتمعي بين الطبقات العليا والدنيا في البلاد. 

لا تطيق الطبقة العليا الانتظار حتى تنتهي فترة الليندي، فتقرر دعم الانقلاب العسكري ضده الذي قام به الجنرال "أوجستو بينوشيه"، يستخدم الجيش العنف إلى حد قتل الرئيس نفسه، ويرى جونزالو العسكريين يديرون مدرسته تحت دعوى إعادة النظام للبلاد. 

تنتهي قصته مع فتاة العشوائيات وهو يراها أمامه تُضرب حتى الموت في حيها السكني، إثر حملة عسكرية قام بها الجنود لتأديب الفقراء على اختيارهم لأليندي وتأييدهم له.

هذه التراجيديا قدمها ببراعة المخرج الشيلي أندريه وود في عام 2004 من خلال فيلم حصد العديد من الجوائز تحت اسم " ماشوكا".

 

سلفادور الليندي في أحد خطاباته قبل الانقلاب العسكري واغتياله. الصورة: الليندي- الصفحة الرسمية، فيسبوك

رأسمالية الحديد والنار

ربما أهم ما تجسده نظرات جونزالو الطفولية لكل ما حوله هي عدم إدراكه عواقب صعود بينوشيه إلى السلطة، والذي شهد حكمه 17 عامًا من السياسات المعادية للعدالة الاجتماعية، والحكم الديكتاتوري. صعد بينوشيه إلى الحكم في فترة الحرب الباردة، التي كانت فيها الولايات المتحدة تدعم العديد من القيادات الديكتاتورية التي تطبق الإجراءات الرأسمالية بالحديد والنار، في إندونيسيا مثلا كان هناك نموذجًا ديكتاتوريًا مشابها تحت حكم سوهارتو.

لكن تظل شيلي النموذج الأبرز في التحول من السياسات الاشتراكية إلى السياسات النيوليبرالية، والتي قدمها الغرب للعالم النامي كمثال ناجح لما يسميه بـ "الإصلاح الاقتصادي"، واتبعته العديد من البلدان بعد ذلك بما فيها مصر تحت حكم مبارك.

ما هو مفهوم الإصلاح من منظور الليندي، وكيف انقلب عليه بينوشيه؟ ولماذا يحتج الشيليون اليوم بعد أكثر من ثلاثة عقود على نهاية هذا الحكم؟ ولماذا يخرجون للشوارع بأعداد هائلة وتضطر البلاد لفرض حالة الطواريء لأول مرة منذ عهد بينوشيه؟ 

كان الليندي يتبنى وجهة نظر سائدة في هذه الفترة بأن مشكلة البلدان النامية هي أنها تعتمد بشكل مفرط على الاستيراد من الغرب، لذا كان يعمل بدأب على تطبيق ما يعرف بـإحلال الواردات، أي  تطبيق سياسات تساعد على تعميق الصناعة في البلاد وتقليل الاعتماد على الغرب. 

كما طبق سياسات لإعادة توزيع الدخل والثروة، شملت إجراءات إعادة توزيع الأراضي على صغار الفلاحين، وتأميم صناعة النحاس المملوكة للأجانب، وهي الصناعة الأهم في البلاد في ذلك الوقت.

كل هذه الإجراءات كانت العديد من البلدان النامية تطبقها في هذا الوقت، وساعدت تلك السياسات بعض الدول مثل الصين على التحول، لاحقًا، إلى عملاق اقتصادي.

التضخم ضد الليندي

ثمة خطأ وقع فيه الليندي سهل عملية تأجيج قطاعات من الرأي العام ضده ومن ثم خلعه وهو إنعاش الضغوط التضخمية.

طبّق الليندي سياسات سمحت بزيادة الأجور بمعدلات مرتفعة (بين 40  إلى 60%) وما هو ما أدى لزيادة القدرة الشرائية، ومع زيادة الطلب تزيد الأسعار، الأمر الذي أدى لدخول البلاد في موجة قوية من التضخم.

وتفاقمت شعور المواطنين بالأزمة في ظل ندرة السلع المعروضة في المحلات،وما ساعد على ذلك فرض قيود تسعيرية على السلع المباعة، على الأرجح كان السبب في اتجاه التجار للبيع من خلال السوق السوداء.

في مقابل هذا التوجه الاشتراكي، كانت أفكار ميلتون فريدمان (أحد أهم الأصوات النيوليبرالية) في صعود في هذه الفترة. وواحدة من أهم أطروحات فريدمان كانت أن مشكلة التضخم تنبع بالأساس من زيادة المعروض النقدي، أي تطبيق سياسات مثل سياسات الأجور التي قام بها الليندي، والتي تتسبب في زيادة الأموال في أيادي المواطنين بوتيرة أسرع من زيادة المنتجات المعروضة ومن ثم تزيد الأسعار.

كانت سياسات فريدمان (المعروفة باسم مدرسة النقديين) مدخلًا مهمًا لسياسات التقشف في العالم النامي، إذ أصبح النقديون غير مرحبين بتوسع الدولة في الإنفاق على الأجور والدعم وغيرها من السياسات التي يرون أنها لا تتسم بالرشد الاقتصادي وتساعد على التضخم.

فريدمان في حضرة بينوشيه

في عام 1975 قام فريدمان بزيارة لشيلي، وبعد جلسة قصيرة مع بينوشيه لاحظ الاقتصادي الأمريكي أن فهم الأخيرة للأمور الاقتصادية محدودا للغاية، لذا أرسل فريدمان خطة للإصلاح الاقتصادي لعبت دورا مهما في تحويل دفة اقتصاد شيلي إلى وجهة الاقتصاد الحر.

واكبت هذه الفترة ظاهرة المستشارين الاقتصاديين المتخرجين من جامعة شيكاغو، والمعروفين بـ "أولاد شيكاغو"، والذين تعلموا على يد فريدمان وآخرون، ثم عادو إلى أمريكا اللاتينية ليتقلدوا مناصب استشارية في العديد من الحكومات، منها حكومة شيلي -  بينوشيه بطبيعة الحال.

وتحت مظلة إصلاحات مدرسة شيكاغو، قام بينوشيه بالحد من الدعم وخصخصة الشركات المملوكة للدولة والقطاع الصحي والتعليم والمعاشات، وأدت سياساته لانخفاض الأجور الحقيقية وارتفاع ثمن الخدمات الاجتماعية. ولازال الشيليون يشعرون بأثار هذه السياسات على قطاعات مثل التعليم الذي تنخفض مستويات إنفاق الدولة عليه ولا تتوفر خدماته بسهولة للطبقات الدنيا.

على أية حال فقد طوت شيلي صفحة الديكتاتورية عام 1989 بعد التصويت بـ "لا" على حكم بينوشيه، وعادت للحكم الديمقراطي لكنها لم تعد إلى الاشتراكية. 

وفي هذا الفيديو ينفي فريدمان، عام 1991، أن يكون مستشارا لبينوشيه أو لحكومة عسكرية، ولكنه يشعر بالتقدير لما أنجزه تلاميذه هناك. 

 

أصبح بينوشيه قائدا منبوذًا من جماعات حقوق الإنسان في شتى أنحاء العالم حتى وفاته في 2006، لكن هناك اقتصاديون يرون أنه طبّق تجربة ناجحة في تعزيز النمو الاقتصادي للبلاد. 

وإلى يومنا هذا لا تزال شيلي تحقق نموًا اقتصاديًا جيدًا، 2.5% في العام الجاري و3% متوقعة للعام المقبل، وهو أعلى من متوسط النمو في المنطقة الواقعة فيها. لكن هناك إحساسًا مريرًا بعدم توزيع ثمار النمو الاقتصادي بعدالة بين المواطنين.

انخفض الفقر لكن الفجوة مع الاغنياء زادت

بالرغم من أن البلاد نجحت في تخفيض معدلات الفقر بشكل ملموس من 30% عام 2000 إلى 6.4% عام 2017، لكن الفجوة بين مستويات معيشة الأغنياء والأقل دخلا ظلت كبيرة للغاية، حيث تعد  شيلي من أكثر البلدان عدم مساواة في توزيع الدخل بين الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. ولم تنمو الأجور بالشكل الكافي لملاحقة زيادات أسعار الكهرباء والبنزين وغيرها من السلع والخدمات العامة.

في هذا السياق تزايدت الضغوط على المواطنين، وكانت زيادة أسعار مترو الأنفاق الأخيرة القشة التي قصمت ظهر البعير، احتج المواطنون بشكل سلمي، وردت السلطة بالقمع العسكري، ثم تراجعت عن قرارها مع تزايد الغضب الشعبي، لكن المظاهرات ملأت البلاد وأدرك الجميع أن الأمر لا يقتصر على الغضب من زيادة 30 بيزو في سعر التذكرة، ولكن ضد ثلاثين عامًا من سياسات التقشف.

معظم تعليقات المحتجين للصحف ووكالات الأنباء تدور حول الغضب من زيادة أسعار السلع والخدمات العامة وعدم قدرة الأجور على ملاحقتها، يقول بعضهم مثلًا لرويترز إنهم يكافحون من أجل البقاء واقفين على أقدامهم بسبب التكاليف المرتفعة لأنظمة التعليم والصحة والمرافق العامة، ويعبرون عن غضبهم من نظام التأمينات الذي لم يعد يقدم معاشات ملائمة لتكاليف المعيشة.

يقول موقع state إن "الأمر لا يتعلق بالمترو، وإنما بالغضب من الصحة والتعليم والمعاشات والإسكان والأجور وزيادة تكاليف الكهرباء والغاز في مقابل التساهل مع المستثمرين".

تظاهرات الملايين في شيلي خلال الأيام الماضية تبدو وكأنها عاصفة تقتلع كل ما في طريقها، لم توقفها اعتذارات رئيس الجمهورية (الملياردير اليميني) سبستيان بينيرا، وكلماته الرقيقة عن أنه يتفهم غضبهم. وقد اضطره الأمر إقالة الحكومة بعد نزول نحو مليون متظاهر إلى الشارع.

صراع بينوشيه والليندي نسخة 2019

يبدو المشهد في البلاد وكأن روحي الليندي وبينوشيه تتصارعان من جديد على توجيه دفة السياسات الاقتصادية، في شيلي وفي العالم النامي بأكمله. 

قد يكون لنموذج الليندي أخطاء ظهرت مع مرور السنوات، فمنتقدي الليندي يقولون إنه كان سيحوّل شيلي إلى كوبا جديدة، أي دولة تُقيد فرص الانطلاق الاقتصادي تحت دعوى حماية العدالة الاجتماعية وتتخذ إجراءات غير رشيدة من الناحية الاقتصادية لإرضاء قطاعات من الشعب.

لكن من جهة أخرى فإن ميلتون فريدمان ليس منزهًا عن الخطأ، لقد أصبح حصوله على جائزة نوبل في 1976 مثارًا للسخرية بعدما تسببت سياساته، التي تدعو لإطلاق حرية الأسواق في خلق ممارسات واسعة من التلاعب والرغبة الشرهة في الربح بطرق أدت، لاحقًا،  إلى أزمة 2008 المالية، التي كادت أن تقضي على الرأسمالية الغربية بأكملها.

وفي الوقت الحالي هناك العديد من الأصوات تتصاعد في العالم ضد تفاقم اللامساواة في توزيع الدخل، وما يجري في شيلي اليوم ليس بعيدًا عن تحذيرات الاقتصادي الفرنسي توماس بيكتي، الذي شرح بشكل مفصل في كتابه الشهير "الاقتصاد في القرن الحادي والعشرين" كيف تفاقمت اللامساواة منذ سبعينات القرن الماضي.

دروس من "كعبة التقشف"

الدرس الذي يقدمه متظاهرو شيلي لقادة العالم وشعوبه هو أن النمو الاقتصادي وحده لايكفي، وأن توزيع ثمار النمو مسألة لا تقل أهمية عنه. وما تعرضت له "النيوليبرالية" من إهانات تحت أقدام الثائرين في شيلي قد يلطخ سمعة هذه السياسات أكثر وأكثر في الفترة المقبلة، فها هي قبلة التقشف في العالم لم تعد تطيق تطبيق هذه السياسات.

وفي عالمنا العربي اليوم العديد من الأصوات المتصاعدة ضد نتائج السياسات النيوليبرالية، منها ما نراه اليوم في شوارع بيروت من احتجاجات ضد السياسات الضريبية غير العادلة ونتائج اعتماد البلاد على الاستدانة من الخارج بشكل مفرط. وترفع العراق أيضا مطالب بتوقف بلادها عن التعاون مع صندوق "النهب" الدولي، كما يسمونه.

وفي الوقت ذاته هناك بلدان لا تزال متمسكة بالرؤية النيوليبرالية في إدارة الاقتصاد مثل مصر وهي تسعى للحصول على قرض جديد من صندوق النقد الدولي، وهناك بلدان أخرى مثل تونس ربطت نفسها بسياسات الصندوق أيضا ولكن اتحاد الشغل (اتحاد العمال) في البلاد يقاوم التقشف في الأجور الذي كان يرغب الصندوق في تطبيقه.

باختصار فإن سياسات كل من الليندي وبينوشيه تتفق على هدف واحد، وهو تحقيق التنمية الاقتصادية لبلادهما، ولكن تختلف على طريقة تحقيق هذه التنمية. الأول من خلال مشروعات مملوكة للدولة تحاول الخروج بالاقتصاد من دائرة تصدير المواد الخام واستيراد المنتجات الصناعية من الغرب، والثاني بالاعتماد على القطاع الخاص والانفتاح على الأسواق الغربية. وقد أثبتت بلدانًا نامية نجاح سياسة إحلال الواردات في تعميق الصناعة، وهو نموذج متكرر في أمريكا اللاتينية، وأثبتت أخرى نجاح سياسة الانفتاح على الغرب، وهو ما جرى في جنوب شرق آسيا، وأغلب البلدان الناجحة كانت تمزج بين الطريقين في تحقيق التنمية.

لكن إذا بحثنا عن جوهر الصراع الحقيقي بين ما يمثله الليندي وما تمثله النيوليبرالية فهو طريقة توزيع ثمار التنمية. وفي حقبة الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي، تم تخويف شعب شيلي، وكل الشعوب النامية، من مسار التنمية اليساري ومحاولة إقناعهم أنه سيؤدي لكوارث اقتصادية وإلى انهيار البناء الاجتماعي. 

وفي الوقت نفسه الترويج إلى أن التنمية النيوليبرالية تحقق الفائدة للجميع، الربح للمستثمرين والوظائف للعمال وزيادة الناتج لصالح كل المواطنين. لكن بعد عقود من تطبيق هذه السياسات ظهر طعم "العدالة النيوليبرالية" المر في حلوق هذه الشعوب.