صورة مجمعة لمحامين حقوقيين مقبوض عليهم

محامون لكن سجناء: وقائع التربص بالحاضرين عن متهمي 20 سبتمبر

منشور الثلاثاء 22 أكتوبر 2019

في صباح 29 سبتمبر/ أيلول الماضي، كان المحامي الحقوقي محمد الباقر في مقر نيابة أمن الدولة يحضر التحقيقات مع موكله المبرمج علاء عبد الفتاح، عندما وجد نفسه مقبوضًا عليه بصورة مفاجئة في النيابة متهمًا في القضية نفسها مع موكله.

لم يمر سوى أسبوعين تقريبًا على تلك الواقعة، حتى خرجت نداءات حقوقية، في 18 أكتوبر/ تشرين اﻷول، تطالب السلطات السماح للباقر بمغادرة محبسه لساعات قليلة من أجل حضور جنازة والده الذي توفي إثر تدهور حالته الصحية في أعقاب القبض على الابن.

في تلك الجنازة، لم يكن المحامي جمال عيد بين المشيعين، رغم كونه واحدًا ممن تابعوا حالة الوالد. وفي منشور عبر فيسبوك تقدّم عيد لصديقه السجين باعتذار مسبب، فقد كان في حالة صحية لا تسمح له بالحركة بعد إصابته إثر اعتداء تعرّض له من مجهول مسلّح أثناء سيره في الشارع؛ أقعده عن عمله ﻷيام.

الأسف لم يكُن هو الشعور الوحيد الذي انتاب عيد، الذي عاد يوم أمس الاثنين لاستئناف عمله في الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، فمعه كان شعور آخر بالغضب مما يحدث له وزملائه الذين لم يخف بعضهم مما ينتابهم من حزن وقلق بل وخوف منذ تحولوا من مصدر دعم إلى سجناء محتملين فيما بعد أحداث 20 سبتمبر، بصورة أثرت على مسارات حياتهم المهنية والشخصية.

صدمة

صباح يوم القبض عليه، التقى الباقر في مقر النيابة بالمحامي أحمد فوزي، تصافحا وتبادلا قليلاً من العبارات ثم انصرف كلاهما لعمله قبل أن يعرف اﻷخير بعد ساعات من ذلك اللقاء السريع أن زميله ألقي القبض عليه.

في تلك اللحظة، لم يتردد فوزي في مغادرة مقر النيابة، مدفوعًا بمشاعر غضب وحزن وصدمة ما تزال حاضرة حتى اليوم كما الوقائع أيضًا.

"حسيت بإهانة وضعف، إن زميلي اللي داخل معايا نيابة أمن الدولة يتقبض عليه. هخرج من غيره إزاي؟ قول لأسرته إيه؟"، ينقطع حديث فوزي لثوانٍ قليلة، قبل أن يذكر بصوت مختنق زميلهما زياد العليمي الذي سبق الباقر إلى الحبس "يعني زياد كمان. حالته إيه دلوقتي؟ وممكن أمشّي مكتبه إزاي؟".

يحزن فوزي وهو يتذكر واقعة القبض على الباقر، كما حزن وأبكته واقعة القبض على محامٍ شاب من داخل محكمة زينهم، وفقًا لما ذكره للمنصّة "اللي شافوه من زمايلي قالوا لي إنه فضل حاضن ملفات القضايا اللي معاه لحد ما سلّمها لواحد من زمايله؛ لما سمعت بالواقعة دي بكيت".

 

طالب محامون السلطات بالسماح لزميلهم بالخروج لدفن والده

بقوة المادة 198 من الدستور المصري، فإن المحامين "يتمتعون اثناء تأديتهم حق الدفاع أمام المحاكم وجهات التحقيق والاستدلال بالضمانات والحماية التي تقررت لهم في القانون. ويُحظر في غير حالات التلبس القبض على المحامي أو احتجازه أثناء مباشرته حق الدفاع"، وهو ما يتوافق مع ما نص عليه قانون المحاماة في مادتيه 50 و51.

الحزن والقلق بعض من أعراض نفسية جانبية لما يتعرض له المحامون مؤخرًا، وفقًا لفوزي "القضايا الأخرانية دي متعبة على المستوى النفسي والإنساني. قبل كده كده بنتعامل في القضايا المتهم فيه سياسيين وبنروح نيابة أمن الدولة نتابعها، صحيح إن الموضوع أحيانًا كان بيشكل عبء لكون بعض المتهمين أصدقائنا، لكن في النهاية كنا بنتعامل بإجراءات".

بلغ عدد الموقوفين والمقبوض عليهم على خلفية أحداث 20 سبتمبر وحتى اليوم 3690 شخصًا من مختلف محافظات مصر، وفقًا لرصد يتم تحديثه أولاً بأول من جانب المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. 

اختلاف التعامل بالنسبة لفوزي الآن عما كان في الأوقات السابقة؛ جاء متوازيًا مع اختلاف على المستوى الشخصي "مشاعري هي غضب إني ماقدرتش أؤدي كسياسي الدور اللي كان منتظر مني، وحزن إني مش عارف كمحامي أساعد الأهالي، وشعور بالضعف والإهانة وأنا بسمع عن وقائع تفتيش الموبايلات والقبض على الشباب".

يصمت الحقوقي قليلاً قبل أن يقول "الأهالي بتتصل بالمحامي تستنجد بيه، في الوقت اللي المحامي بقى عايز اللي ينجده".

إحساس الضعف والإهانة والغضب لدى فوزي لازمه ارتفاع مستوى الحذر لدرجة قد تغير من أنشطته الحياتية "حاليًا قطعت علاقتي بوسط البلد. مابنزلش هناك خالص، ﻷني مش هستحمل وأنا في سني ومكانتي دي إن يتقال لي افتح موبايلك ولا هات بطاقتك! وهنقل أنشطتي كلها من وسط البلد. المحامي مش موظف، ده شخص بيتعامل معاه الموكل مباشرة، لما يشوفني بتهان هيتعامل معايا تاني ليه وإزاي؟!".

تشير دراسات نفسية وتقارير عديدة إلى ما يتعرض له المحامون بصورة عامة من أعراض سلبية، من قلق وضغط وإجهاد نفسي بسبب عملهم، وذلك في مختلف أنحاء العالم ودون الأخذ في الاعتبار ما قد تمر به دولاً بعينها من ظروف سياسية أو أمنية بعينها.

.. وغضب

بينما كان الباقر في الزنزانة، كان زميله جمال عيد يتعرّض لهجوم من شخص مسلّح خلال سيره في أحد الشوارع القريبة من محل عمله؛ أسفر عن إصابته بكسور أقعدته عن العمل لعشرة أيام كاملة، وولدّت لديه مشاعر غضب.

"حاسس بالقرف الشديد والغضب. الموضوع قالب معايا نفسيًا عكسي. ده نظام مجرم وإحنا مش محايدين، إحنا مع حركة المطالبة بالحريات، ومش هنسكت".

هذه هي مشاعر المحامي الحقوقي حاليًا، أما لحظة الاعتداء التي وثّق تفاصيلها بيان صادر يوم أمس الاثنين عن الشبكة العربية، فتعامل معها عيد بمشاعر مختلفة "لحظتها حسيت بالصدمة. ودلوقتي كل شوية بفتكر الغل اللي كان في ملامح هذا الشخص الضخم اللي عارف اسمي وندهني بيه".

في البيان، حمّلت المنظمة الحقوقية مسؤولية الأعتداء لـ"أجهزة اﻷمن"، وذكرت أنه أسفر عن "إصابة عيد بكسر في ضلوع القفص الصدري، وإصابة أخر ساعده اﻷيمن وقدمه اليسرى، بجانب كسر نظارته الطبية وسرقه هاتفه المحمول".

ما وقع لمدير المنظمة الحقوقية دفعه لاتخاذ إجراءات احترازية، خاصة بعد القبض على أحد محامييها عمرو إمام "حصلت هجمات قبل كده، بس المرة دي صعبة؛ وده مولّد غضب عند الشباب لكن كمان بيديهم قوة، ﻷن مش بس آلاف الأبرياء محبوسين، كمان زملائهم وأصدقائهم المحامين؛ فالشباب غضبانين لكن في نفس الوقت عندهم حافز وبيطلعوا طاقة الغضب دي في الدفاع عن اﻷبرياء".

رغم القوة لا ينكر الحقوقي خوفه "طبعًا خوفت على حياتي"، لكن موقفه من استمرار عمله محسومًا "ممكن نعيش خايفين إنما مش متواطئين. ممكن نتحمل الخوف لكن التواطؤ لأ".

موقف عيد من استمراره في العمل كان ملزمًا له فقط، خاصة بعد القبض على أحد أعضاء الشبكة العربية "بعد القبض على عمرو، رفعنا مستوى إجراءات الأمان، واﻷسبوع اللي فات طلبت من الشباب بوضوح إن اللي خايف ياخد مستحقاته المالية ويسيب الشغل. هو لما يفقد مهنته هيبقى صعب، لكنه أفضل من إنه يفقد حريته".

 

المحامي الحقوقي أحمد عبداللطيف يكتب عن جلسة التحقيق مع زميله عمرو إمام

على المستوى الشخصي، اتخذ عيد بعض الإجراءات أيضًا "استشرت أصدقاء فيما يتعلق بتأمين نفسي، واقترحوا بالفعل إجراءات للتأمين، استمعت ليها كلها، باستثناء اللي نصحوني بوقف نشاط الشبكة العربية، ﻷن دا دورنا وهنكمل للآخر".

.. وخوف

كان هناك بين من شاهدوا واقعة تعدّي رجال تابعين للسلطات على أحد زملاء مهنته، شاهد الوقائع وكتب عنها، تناقلها كثيرون؛ أصابه القلق وأغلق حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي.

منذ ذلك اليوم وهو يعيش تحت وطأة القلق، لدرجة جعلته يشترط عدم ذكر اسمه، وفي هذا القرار كان له مبراراته.

"حاسس إن فيه استهداف للمحامين بعد أكتر من حالة، زي ماهينور والباقر وعمرو إمام وجمال عيد. بصراحة القبضة المرّة دي صعبة ده غير اللي بنشوفه في شغلنا مع المقبوض عليهم وأهاليهم، ده مشكّل ضغط كبير علينا والموضوع مرهق نفسيًا"، يقول المحامي الذي اختار "أحمد" اسمًا مستعارًا له. 

الأحداث الجارية وضغطها كان لها على أحمد، المحامي الحقوقي، أثرًا واضحًا "عن نفسي نومي سيئ جدًا، مابقتش اعرف أنام، وحاسس إني ممكن اتاخد من البيت أو من قلب الشغل في النيابة، خاصة وإن مفيش لينا مظلة نقابية قوية".

في 30 سبتمبر الماضي، وبعد أيام من القبض على المحاميين ماهينور المصري ومحمد الباقر من أمام المحكمة ومقرّ النيابة، أعلنت نقابة المحامين أنها تتواصل مع النائب العام "لمعرفة موقف المحامين المقبوض عليهم"، وناشدت أعضائها "الحفاظ على ضبط النفس ووحدة الكلمة".

"تحركاتي بقت محدودة، من الشغل للبيت فقط، وبمسح أول بأول أي حاجة ليها علاقة بالشغل، وبقيت اخاف اسمي يتذكر في أي موضوعات صحفية، ﻷني حاليًا كل اللي جوايا بقى قلق وخوف من إني انضم للمحبوسين، وعجز وشعور بالذنب إني مش عارف أساعد الزملاء المقبوض عليهم".

يشعر أحمد بالعجز والخوف والذنب، لكن ورغم كل ما حكاه وزميلاه المحاميين فوزي وعيد من مشكلات مهنية ونفسية فيما بعد 20 سبتمبر بجانب ما رصدته المنصّة في حسابات محامين آخرين، يبقى في النهاية جانب إيجابي يذكره مدير الشبكة العربية "فيه جزء داعم لينا، وهو لما بنتلقى اتصالات من اﻷهالي بيشكروا فيها المحامين على خروج أولادهم. دي انتصارات صغيرة بتديهم دافع لإنهم يكملوا".