تصميم المنصة

بورتريه بالمصري عن قيس سعيد: القادم إلى قرطاج من خارج "السيستم"

منشور الأربعاء 16 أكتوبر 2019

أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بتونس، ليلة الاثنين 13 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، أستاذ القانون والمرشح المستقل قيس سعيد رئيسًا جديدًا للبلاد، بعد فوزه على منافسه رجل الأعمال والمتهم بقضايا فساد مالي نبيل القروي.

سعيد يوصف بأنه رجل قادم "من خارج السيستم"، وقد اعتمد على حملة انتخابية تطوعية غير تقليدية تقوم على المبادرات الأفقية اللا مركزية والشباب والتبرعات الشعبية وحقق تفوقًا لافتًا بنسبة 72.1% من الأصوات الصحيحة.

وهنا بورتريه من تونس لرئيس جديد مفتوح على تحولات المجتمع والسياسة وجمهور الناخبين والمحتفلين، بعد أكثر من ثمان سنوات على الثورة. وأيضًا محاولة لفهم ما يحمله انتخابه من رسائل تفيد العودة إلى مربع الثورة، والتأسيس لنظام سياسي جديد، وأيضًا الغموض والمخاوف التي تحيط بصعوده، وما حققه من اختراقات على الصعيد الجغرافي أو صعيد الثقافة السياسية في تونس، وما يطرحه من أفكار وآليات عمل سياسي جديدة على واقعنا العربي.

لم يكن الأمر على هذا النحو أبدًا عند فوز "البورقيبي المخضرم" الباجي قايد السبسي، برئاسة تونس، ليلة 21 ديسمبر/ كانون الأول عام 2014. كنت حينها حاضرًا في الشارع نفسه، الحبيب بورقيبة، واجهة ووجهة الأحداث السياسية والثقافية الكبرى للبلاد بأسرها وليس لعاصمتها فقط.

صحيح أن التونسيين في عمومهم والمنقسمين آنذاك بين "الباجي" ومنافسه المنصف المرزوقي، بين 55% و45%، كانوا منبهرين بتقدمهم إلى أول انتخابات رئاسية تعددية وحرة بحق في تاريخ الجمهورية الذي يبدأ مع 1957، لكن القليل حينها جاءوا إلى شارع الحبيب بورقيبة للاحتفال ليلتها بفوز السبسي وحزب نداء تونس، وهزيمة ممثل الثورة وتونس الداخل والأعماق الطبيب الحقوقي المرزوقي.

ولقد تأجل الاحتفال الجماهيري لليوم التالي فاستعرضت البورجوازية التونسية المترفة، وبخاصة الساحلية، آخر صيحات الموضة وفيض من العطور الباريسية، وتطايرت في فضاء كرنفالي الكلمات الفرنسية، وهزمت العربية في حي "اللاك/ البحيرة "، حيث المقر المركزي لحزب نداء تونس، والعمارة العصرية للعديد من السفارات والشركات الأجنبية ومكاتب رجال الأعمال التونسيين من الوزن الثقيل ومعها "كريمة المجتمع" الصاعدة. وأيضًا جلسات النميمة لمجتمع مخملي في ظاهره، يسهر لياليه هناك على المقاعد الوثيرة للكافيتريات الفخمة.

 

الرئيس التونسي في مقهاه الشعبي المفضّل عقب الفوز في الانتخابات. الصورة: صفحة قيس سعيد- فيسبوك

جمهور قيس يحتفل

هنا والليلة 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 حضرت إلى "الحبيب بورقيبة" وعلى عجل، تونس متنوعة، هي حقًا متنوعة وبوضوح لكن مع حضور لافت للقادمين من الأعماق والهامش البعيد عن الثروة والسلطة والحذر من حداثة متغربة متطرفة. هنا والليلة تونس لاتخجل من لغتها العربية المتصالحة مع العامية وقليل من الكلمات الفرنسية.

وحتى قبل إعلان نتائج استطلاعات الرأي لتؤكد تقدم سعيد بفارق كبير 77% في مقابل 23% لمنافسه، تجمع المئات من الشباب أمام المسرح البلدي يحتفلون بفوز قيس سعيد ، هذا المرشح المستقل النزيه، المتعفف، المستقيم، رجل القانون. وأيضًا الغامض واللغز والطوباوي والمحافظ المتزمت، وحتى المقلق والمخيف.

سرعان ما امتلأ الشارع الوسيع الممتد بأكبر تعبئة جماهيرية تلقائية شاهدتها، على مدى إقامتي بتونس لنحو عامين، وزياراتي المتتالية مع العديد من الأحداث المفصلية اعتبارًا من خريف 2011.

وهنا ومع السهر في قلب مدينة تنام مبكرًا وفي لحظة "البهجة الجماعية" هذه، استعاد الشارع هتافات الثورة من قبيل "الشعب يريد"، وهو شعار الحملة الانتخابية لسعيد. وأيضًا شعارات "لا خوف لا رعب.. السلطة ملك الشعب"، و"لا مقرونة (مكرونة) ولا فروماج (جبن).. قيس سعيد في قرطاج (القصر الرئاسي)".

والهتاف الأخير يحمل تعريضًا وسخرية من المنافس رجل الأعمال الملاحق بتحقيقات قضائية بشأن جرائم غسيل الأموال والتهرب الضريبي، والذي انطلق في حملته الانتخابية من ترويج قناته الفضائية "نسمة" لسنوات توزيعه المعونات على الفقراء، وحتى أنه اشتهر عند كارهيه بـ "نبيل مقرونة".

 

من الاحتفالات الشعبية بالفوز على نبيل القروي في الجولة الثانية. الصورة: صفحة قيس سعيد- فيسبوك

عالَمان في شارع واحد

شاهدت مساء الجمعة 11 أكتوبر 2019 قبل الدخول إلى الصمت الانتخابي توزيع معلبات الكوكاكولا، وقطع الكيك على جمهور ختام الحملة الانتخابية لنبيل القروي بالشارع نفسه. كما كان بالإمكان أن أقارن مع جمهور قيس سعيد في ختام مماثل على بعد أمتار.

عند "القروي" غابت نقاشات وشعارات السياسة وحضر الإنفاق ببذخ على وسائل الدعاية والإبهار، موسيقى وغناء فرقة صوفية شعبية معتبرة، وإطلاق البخور مع تمجيد مبالغ فيه للشخص. وعند "سعيد" جاء الشباب بكثافة يتناقشون في الشؤون العامة، ويهتفون بشعارات سياسية عن الثورة وفلسطين، مع القليل جدًا من الدعاية الانتخابية، والتي لا تتجاوز توزيع ورقة مطبوعة كيفما اتفق.

قبل أن تنتهى ليلة تونس الطويلة، 13 أكتوبر، هذه إلا وتلقيت مكالمات هاتفية من أصدقاء مثقفين طالما كانوا في صف التغيير والثورة، والآن يعربون عن القلق من هذا الرئيس الغامض المحافظ، ويتناقلون روايات عن اعتداء جماهير الحبيب بورقيبة المحتفلة بالنصر على طاقم قناة فضائية مناوئة لسعيد ومحسوبة على الإعلام المضاد للثورة.

ولأنني لاحظت مع فوز السبسي عام 2014 تعبيرات الفرح المختلطة بالتشفي على وجوه عناصر من الشرطة حينها، فقد تفرست في الوجوه ذاتها هذه الليلة، فلم أعثر على ما يفيد بمشاعر مماثلة، لكني أيضًا لم ألحظ علامات غضب و حنق أو توجس.

كما بدا لافتًا أن الشارع الذي غمرته الأعلام الوطنية لتونس في أيدي الجميع تقريبًا وخلا من أي رمز حزبي، باستثناء أعلام نادرة لحزب حركة النهضة الإسلامي، شهد حضورًا مكثفًا لعلم فلسطين، وكأنه هنا هذه المرة نكاية في نبيل القروي المتهم بالتطبيع من خلال وثائق تسربت عن تعامله وحملته الانتخابية مع شركة لوبي التي يمتلكها ويديرها ضابط سابق في الموساد الإسرائيلي، وباستثناء العلمين التونسي والفلسطيني، صادفني شاب يحمل علم مصر، وما يكاد أي من المحتفلين يدرك بوجود مصري بينهم إلا وتمنى "مصر أخرى".

 

العلم المصري في احتفالات فوز قيس سعيد في شارع الحبيب بورقيبة. الصورة: كارم يحيي

مقر حملة أم محفل ماسوني

على بعد أمتار وفي عمارة قديمة تحمل رقم 18 بنهج ابن خلدون الحافل بالمطاعم والبارات الشعبية يقع المقر الانتخابي لقيس سعيد. وللمفارقة فإن مقر منافسه "القروي" هناك على ضفاف "اللاك". 

هو إذن مجرد شقة متواضعة في هذه العمارة المتهالكة، تصلها منهكًا متقطع الأنفاس بعد أن تصعد ثلاثة طوابق عالية مرتفعة فوق سلالم حلزونية، لا لافتة على باب الشقة ولا على باب العمارة تحمل اسم قيس سعيد وحملته، ولطالما شكا زملائي من الصحفيين، ومنهم الأجانب، من أنهم يحاولون التواصل عبثًا مع "حملة غريبة عجيبة"، فلا مسؤول إعلامي أو مكلف بالتعامل مع الصحافة ولا قائد، ولا مسؤول بالأصل عن الحملة الانتخابية.

داخل الشقة القليل من الأثاث والكثير من التحفظ والغموض والصد والمنع، وتغادر آسفًا محبطًا، وقد ضربك الشك بأنك دخلت بالخطأ إلى "محفل ماسوني"، تحدثت مع شاب من أهل البيت اكتفى بأن عرفني بأنه "محمد" وكفى، ورفض على الرغم من دفئ الحوار السماح بتصوير المكان من الداخل. كانت زيارتي قبل ساعات من الاقتراع، لكن بدا الأمر في المقر وكأن الناخبين سيذهبون إلى الصناديق في العام المقبل.

يشدد محمد على أن حملة قيس سعيد بالأساس من شباب متطوع مبادر غير متحزب. ويقول أن هذه المبادرات التطوعية بطول البلاد وعرضها جرت بشكل أفقي، وانطلاقًا من شبكات التواصل الاجتماعي، واعتبارًا من حملة جمع التزكيات الشعبية للترشح للرئاسة قبل أشهر معدودة فقط. وهو يعرف نفسه بأنه مهندس تخرج عام 2009 ويعمل في شركة خاصة، ولم ينخرط في أي حزب أو نشاط سياسي من قبل.

كما أخبرني بأنه تعرف بـ "الأستاذ" من خلال مشاهدته في برنامج تلفزيوني مارس/آذار 2019، فاقتنع بأفكاره، وذهب إلى منزله مباشرة للتعرف عليه.

ومحمد، كما يتحدث عن نفسه، لا يثق بالأحزاب. وأبلغني أنه لم يذهب للاقتراع في الانتخابات التشريعية قبل أسبوع واحد، لكنه كان قد توقع أن يشارك الشباب بكثافة في جولة الانتخابات الرئاسية الحاسمة انتصارًا لقيس سعيد. وهو ما حدث ولو نسبيًا مقارنة بالانتخابات التشريعية، والجولة الأولى للانتخابات الرئاسية، وهذا ما لاحظته بنفسي عندما تجولت في العديد من مراكز الاقتراع بالعاصمة فبدت مشاركتهم أفضل إلى حد ما، وحتى مقارنة بالانتخابات الرئاسية والتشريعية 2014.

وأظهرت نتائج الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بدورها بعد انتهاء الاقتراع هذه المرة ارتفاعًا في المتوسط العام للمشاركة إلى نحو 55%، فيما كانت النسبة 41.7% في الانتخابات التشريعية التي جاءت بالبرلمان الجديد، و49% في الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية في 15 سبتمبر الماضي.

كما أن قيس سعيد حصد أصواتًا لم ينعم بها "السبسي"، مع كل ما أضفاه انتصار البورقيبي العجوز من شرعية ونفوذ يتجاوز سلطات وصلاحيات رئيس الدولة في دستور تونس الجديد، ديسمبر 2014، فقد ملأت 2,7 مليون صوت صناديق قيس سعيد فيما كان رصيد السبسي 1,7 مليون فقط.

 

في واحدة من شقق هذه البناية يقع المقر الانتخابي الرئيسي لقيس سعيد. الصورة: كارم يحيى

حملة انتخابية غير عادية

اللافت أن الأيام القليلة السابقة مباشرة على الاقتراع في الجولة الرئاسية الثانية شهدت حملة جمع تبرعات وصفت بـ "التطوعية"، والقائمة أيضًا على المبادرات الأفقية عبر شبكات التواصل، وكذلك الاتصال المباشر لتمكين الشباب الجامعي غير القادر من السفر عبر سيارات الأجرة، تسمى لواجات هنا، من نفقات الذهاب إلى مدنهم وقراهم البعيدة للتصويت لقيس سعيد.

الحقيقة إنك إذا جُبت الميادين والشوارع الرئيسية لن تلحظ أية دعاية انتخابية للرجل، فيما أسرف منافسه في اعتراض فضاء المدن وسماواتها بإعلانات عملاقة على نحو استعراضي تجاري، وهي تظهره رافعًا قبضة مضمومة قوية مع شعار حملته "الرئيس بقلبو (بقلبه)".

وخلال أول ظهور إعلامي لسعيد بعد فوزه أمام الصحفيين في فندق تونسيا بالاس بوسط العاصمة، ذكر بمزيج من الفخر والتواضع أن حملته في واحدة من الولايات (المحافظات) لم تتكلف إلا  34 دينارًا لاغير (الدينار التونسي أقل من ستة جنيهات مصرية). وقال أنها جاءت من جمع تبرعات لا تتجاوز في معظمها الدينار الواحد (ثمن كوب قهوة صغير في مقهى شعبي).

شاب آخر يدعى يحيى محمد قابلته على هامش الفعالية الختامية لحملة سعيد قدم نفسه بأنه عضو الحملة بمدينة تونس العاصمة أخبرني أنه تعرف على الرجل أثناء اعتصامي القصبة واحد واثنين، في يناير وفبراير 2011 أمام مقر الحكومة، أيام الوهج الثوري للدفع إلى القطيعة مع نظام الرئيس المخلوع بن علي.

قال "كان يشاركنا ويتحاور معنا حول المستقبل والحاجة إلى دستور ونظام سياسي جديدين". وأضاف "عنده مشروع واضح للتغيير يتجاوز عيوب التمثيل البرلماني والأحزاب.. وهو حسن السمعة ونظيف اليد ومستقيم وعنده ثقافة قانونية محترمة".

أما مالك الزاهي، الذي قدم نفسه لي بأنه، منسق الحملة الانتخابية بولاية منوبة، فقد توقع بثقة أن يفوز سعيد بأكثر من 70% وهو ما كان فعلًا. وحدثني عن أن قيس سعيد جاب كل الولايات في تسعة أيام قبل اقتراع الجولة الرئاسية الأولى معتمدًا على الاتصال المباشر في المقاهي والأسواق ومن دون تنظيم مؤتمر جماهيري واحد في الفضاء العام.

وأكد أنه تعرف عليه في موقع اعتصامي القصبة، وخلال تبنيه لملفات شهداء وجرحى الثورة. وعلمًا بأن الإفراج عن قائمة أسماء هؤلاء الشهداء والجرحى لم يحدث إلا قبل أيام معدودة من اقتراع 13 أكتوبر الجاري، وذلك بعد مماطلات وتسويفات ووعود رئاسية وحكومية استمرت لأكثر من ثمان سنوات.

يأتي بربطة عنق في يوم عطلة

شاهدت قيس سعيد واستمعت إليه في مناسبات عامة عدة بين عامي 2017 و2018، وهو مدعو كمتحدث رئيسي على منصات ندوات مناصرة للقضية الفلسطينية بالعاصمة تونس. والتقيته وحاورته ظهيرة يوم عطلة (أحد) في كافيتريا بوسط المدينة خلال شهر سبتمبر 2017، فجاء مرتديًا، كما اعتدت أن أراه، بدلة كاملة وربطة عنق.

رجل محافظ في ملابسه وسلوكياته، محايد صارم الوجه، ويصعب أن تضبطه مبتسمًا أو ضاحكًا. ويمكن أن تصفه في السياق المصري بـ "رجل جاف". يلتزم الحديث بالعربية الفصحى في ظهوره العام وحوارته الخاصة. لكنه ليس فصيحًا أو خطيبًا مفوهًا.

بلا "كاريزما" تذكر. وبعيد بُعد السماء عن الأرض إذا ما قورن بجاذبية وسحر زعيم ومؤسس الدولة الوطنية التونسية وأول رئيس لها، الحبيب بورقيبة، لجماهيره. وحتى إذا ما قورن بالراحل الباجي قايد السبسي الذي كان متشبها ببورقيبة فشتان بينهما. لا ألمعية ولا لماحيّة وخفة دم "سي الباجي أو بجبوج" (لفظة تدليل للسبسي)، ولا حتى يجاريه في قدرته على استدعاءٍ سلس للشعر العربي القديم وآيات القرآن والأحاديث النبوية.

وظهوره في حوارات تلفزيونية خلال الحملة الانتخابية كان محل انتقاد وتندر. فقد رسخ امتناعه عن الإجابة على عديد من الأسئلة الاعتقاد بغموضه المختلط بمخاوف جراء ظهور رموز سياسية إلى جواره توصف بـ"التطرف الإسلامي" كحزب التحرير الداعي لإحياء الخلافة، والثوري كروابط حماية الثورة المتهمة بممارسة البلطجة. وهذا ناهيك عن الدعم الصريح من حزب النهضة (الإخوان المسلمين) قيادة وشعبًا (المقصود تونسيًا كوادرها ومؤيديها).

وكما يقول لي الدكتور توفيق يعقوب العميد السابق لمعهد الصحافة وعلوم الأخبار "قيس سعيد يتهرب بشكل متعمد من الظهور أمام وسائل الإعلام، وبخاصة البرامج الحوارية التي يمكن أن تحرجه أو تطرح عليه أسئلة تخرج عن سياق خطابه. هو ظل يركز على الصحافة المكتوبة والإلكترونية. يطرح كلامًا مثاليًا طوباويًا ويدور حول فكرتين أو ثلاثة لا غير عن تعديل الدستور والديمقراطية المباشرة وإعطاء السلطة للقاعدة الشعبية والتقليل من أهمية الأحزاب، وهو في النهاية رجل لايملك برنامجًا متكاملًا".

أما على صعيد الخطاب؛ فيرى الدكتور يعقوب أن الرئيس الجديد لتونس "يستخدم العربية الفصحى بطريقة خشبية محنطة وبدرجة صوتية واحدة رتيبة وكأنه إنسان آلي. ولذا أطلق البعض عليه تسمية "الروبوكوت"، لكن الطبقات الشعبية يبهرها الحديث بالعربية الفصحى. هو إذن أسلوب لإبهار العامة، لكنه يُخفي ضحالة المضمون".

الانطباع السلبي نفسه يؤكده طاهر بن يوسف، ضابط الحرس الوطني السابق المتعلم في إسبانيا ومؤلف العديد من الكتب المنحازة للثورة بعد يناير 2011 ومنها سيرة نقدية "للسبسي" صدرت عشية ترشحه للرئاسة 2014.

قال لي في اتصال هاتفي بأنه في الاختيار بين مرشحين اثنين يجد نفسه مضطرًا لأن يكون إلى جانب نبيل القروي. وهذا لأنه على حد قوله "واضح وعملي برجماتي ويستطيع أن يفعل شيئًا للتونسيين". وأضاف قائلًا "قيس سعيد شخص مبهم غامض لا برنامج له. هو ظاهرة تصدرت المشهد بعد فشل الجميع. لكنه لا يملك حلولًا أو برنامجًا. يخيفني بغموضه ومن حوله من عناصر متطرفة وقد يقود البلاد إلى الهاوية".

 

أنصار قيس سعيد يحتفلون بالفوز في الانتخابات الرئاسية. الصورة: قيس سعيد- فيسبوك

مولود سياسيًا في 2011

وبدورها اختارت جريدة الصباح اليومية المصادرة منذ الثورة لصالح الدولة عنوانًا لبورتريه عن "قيس سعيد" نشرته الجمعة قبل يومين من الاقتراع "الرجل الغامض الطامح إلى قصر قرطاج".

الدكتورة رشيدة النيفر، أستاذة القانون الدستوري، وزميلته في كلية العلوم القانونية والسياسية بتونس العاصمة وفي نفس المادة العلمية بين أعوام 1999 و2013 وقبل أن يتقاعد من الجامعة العام الماضي، تضع أمامنا مفتاحًا لفهم سعيد.

تقول "هو شخصية مستقلة مستقيمة، وولد سياسيًا فقط مع الثورة عام 2011. قبلها وفي عهد بن على لم يبد أي اهتمامًا بالسياسة. هو بالطبع كان ديمقراطيًا ومع الحريات الأكاديمية، لكن في عهد ما قبل الثورة لم يكن لأي أستاذ كان أن يظهر كمعارض سياسي في الكلية".

تضيف "حدثت الثورة بدون قيادة سياسية. ونشأ خلاف داخل الكلية حول القطيعة أو الاستمرارية الدستورية وبشأن شكل النظام السياسي المقبل للبلاد. وتشكلت رؤيتان متعارضتان داخل كليتنا؛ من جهة الدكتور عياض بن عاشور، رئيس هيئة تحقيق أهداف الثورة والاصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، كان بداية مع انتخابات رئاسية".

توضح "بالمقابل ومن جهة أخرى الدكتور سعيد وأنا مع الذهاب إلى مجلس تأسيسي يضع دستورًا جديدًا .ثم تطور الخلاف لاحقًا حول صيغة النظام الجديد على أساس الأحزاب وانتخاب برلمان عبر القائمات (القوائم) أو الأفراد. وربحنا المعركة الأولى وخسرنا الثانية. وهذا مع أن سعيد أسهم بوضع الدستور الصغير المنظم للسلطات خلال المرحلة الانتقالية".

تستطرد قائلة "انتقل قيس سعيد من التفاعل مع شباب الكلية إلى الشباب بصفة عامة. وهذا مع المشاركة في اعتصامي القصبة ناهيك عن تأسيسنا معًا جمعية مركز تونس للقانون الدستوري من أجل الديمقراطية في غضون عام 2011".

"حينها كان اعتصاما القصبة قد تحولا إلى مايشبه "لا جورا" أي ساحة النقاش واتخاذ القرارات في الديمقراطية المباشرة للمدينة اليونانية القديمة. وهنا تقدم قيس سعيد إلى الشباب بإجابات وحلول على أسئلتهم. وأيضًا من خلال عقد العديد من الندوات بالجمعية" تقول رشيدة.

رشيدة النيفر القادمة بالأصل من صفوف اليسار والحركة النسوية التقدمية والمتحمسة لقيس سعيد، تقول "الرجل صاحب مشروع بالفعل، وليس غامضًا كما يشيعون عنه. هو متعفف عن السلطة، ولم يتقدم ليترشح للبرلمان أو الرئاسة. ظل لسنوات يجوب البلاد بسيارته المتواضعة ليناقش الشباب في أفكاره ويستمع إليهم، بينما يتزايد الوعي بتعفن الحياة الحزبية سريعًا بعد الثورة، وهكذا لم يترشح إلا عام 2019".

تضيف النيفر "اليوم ها نحن نعود مع هذه الانتخابات للاختيار بين القطيعة الثورية واستمرارية ماكان قبل يناير 2011 حيث قام النظام الانتخابي على القائمات (القوائم) وإن كان في غياب تعددية حقيقية". وتؤكد "مرشحا رئاسية 2019 سعيد والقروي يمثلان هذين الاختيارين بوضوح". 

الطريق مع الإسلاميين

لكن هذا الرجل التقليدي المحافظ، كما أفكاره الاجتماعية والثقافية المؤيد لعقوبة الإعدام والمعترض على المساواة في الميراث والمجاهرة بالحرية الجنسية للمثليين والذي يبدو كـ "مندفع، بل متهور سياسيًا" أصبح محاطًا بشكوك كثيرة حول علاقته بالإسلاميين وبحزب النهضة.

 

ثمة في تونس الآن حديث عن رئيس جديد في قصر قرطاج الرئاسي مستقل بلا حزب يتبعه في البرلمان. وهذا على غير ما كان عليه حال السبسي/ نداء تونس.

لكن من الواضح أن حزب النهضة الإسلامي صاحب الكتلة الأولى في البرلمان الجديد قد مد نحوه يد الدعم. كما بامكان "سعيد" أن يوفر أغلبية داخل البرلمان عبر تحالفات وتوافقات مرجحة مع كتل حزبية أقل وزنًا محسوبة بدرجة أو بأخرى وبعقلانية أو بديماجوجية على صف الثورة كائتلاف الكرامة لسيف الدين مخلوف والتيار الديمقراطي لمحمد عبو وحزب حركة الشعب العروبي الناصري لزهير المغزاوي.

جميع هذه الكتل مع النهضة قد توفر للرئيس الجديد القادم من خارج "السيستام/ النظام" على الأقل 121 مقعدًا تتجاوز أغلبية نصف الأعضاء (109 نواب). لكنها لا تمنحه أغلبيه الثلثين اللازمة لتمرير تعديل دستوري.

وعلى أي حال؛ فإن الصدام وارد جدًا بين رئيس دولة يأتي إلى قرطاج معززًا بشرعية شعبية كبيرة ويبدو صعب المراس وبين أحزاب لن تستريح لأي مبادرة تضعف البرلمان أو النظام الحزبي وتغير طريقة انتخاب النواب.

وحتى لو وضعنا هذه الحسابات جانبًا، فإن حالة من عدم اليقين تخيم على المستقبل. وكما قال لي الإعلامي والكاتب الذي يخوض معارك الدفاع عن الحداثة والحريات الشخصية واحدة تلو أخرى، الهادي يحمد "أخشى أن يصاب كل هذا الزخم الشبابي الذي صوت لقيس سعيد بخيبة أمل خلال فترته الرئاسية. وهذا بالنظر إلى طوباوية ومثالية مشروعه واستحالة تطبيقه لسببين: الأول محدودية صلاحيات رئيس الجمهورية بعد الثورة. وثانيًا لأن السلطة الرئيسية عند البرلمان والحكومة. وهو في النهاية مستقل بدون سند حزبي كاف ومضمون".

 

قيس سعيد وزوجته أثناء التصويت في الجولة الأولى. الصورة: صفحة قيس سعيد- فيسبوك

رجل محافظ وليس إسلاميًا ولا نهضويًا

السمات المحافظة لقيس سعيد، المولود في عام 1958 والمنحدر من أسره ببلدة بني خيار الريفية بولاية نابل، يمكن أن نرجعها إلى تنشئة أسرة يقودها أب موظف حكومي وأم ربة منزل. وسرعان ما نزحت إلى "أريانة" بضواحي العاصمة حيث ولد، وهي ولاية بالأساس لسكنى المهاجرين القادمين بعد الاستقلال ولمن ليسوا بالأصل من أبناء مدينة تونس الكوزموبوليتانية.

لكن يجب التفرقة بين أن تكون محافظًا أو إسلاميًا في تونس، كما أشيع عن الرجل في الهجوم عليه خلال المعركة الانتخابية، وبين أن تكون إسلاميًا. ولنأخذ بشهادة زميله والمختلف معه في الرأي داخل كليته "بن عاشور " حين قال مؤخرًا لصحيفة لاكروا الفرنسية "هو بالفعل محافظ، بل محافظ جدًا، لكنه ليس إسلاميًا".

كما قال قيس سعيد عن نفسه في حوار مع صحيفة الشارع المغاربي التونسية نشرته بتاريخ 12 يونيو/حزيران 2019  "لست إسلاميًا. أنا مسلم فقط. أعتبر أن الإسلام السياسي من المفاهيم التي تم وضعها في الخارج". ناهيك عن قوله ساخرًا في الحوار ذاته "نزل الوحي على الرسول الأعظم للمرة الأولى في دار حراء وليس في مونبليزير (حيث يقع مقر حزب النهضة الإسلامي بالعاصمة)".

في هذا الحوار سعى سعيد لتعزيز صورة "الزاهد"حين قال "عندما أصبح رئيسا للبلاد سأعيش وأسرتي كما نعيش اليوم .في نفس المكان والمسكن. ولن تكون زوجتي السيدة الأولى، فكل التونسيات سيدات تونس الأول". علما بأن صورة الاقتراع في الجولة الأولى للرئاسية أظهرت زوجته القاضية كسيدة في ملابس عصرية بلا حجاب.

اختراق للعائلات السياسية

استطاعت ظاهرة قيس سعيد القادم من خارج "السيستام، أي النظام أو المنظومة"، هذا الرجل الذي كشف في 24 سبتمبر 2019 لموقع نواة التونسي الذي يحظى بمصداقية وبسمعة مهنية محترمة أنه لم يصوت في أي اقتراع لا قبل الثورة ولا بعدها، استطاع أن يحرك شبابًا عازفا عن الذهاب إلى الصناديق اقتراعا تلو آخر بعد الثورة كي ينخرطوا في حملته ويصوتوا من أجله، ويسهموا في صناعة  هذا الفارق الكبير بينه وبين خصمه نبيل القروي.

لكن الرجل الظاهرة حقق اختراقين آخرين لا يقلان أهمية؛ فهو أولًا وجد حظوظه بين العائلات السياسية المختلفة بتونس. في اليسار اصطفت إلى جانبه العديد من التنظيمات والأحزاب، بما في ذلك حزب الوطنيين الديمقراطيين (الوطد). وهذا على خلاف حزب العمال بزعامة حمة الهمامي الذي دعا للامتناع عن التصويت لأي من مرشحي الجولة الثانية للرئاسية ملمحا إلى ما اعتبره "علاقة الرجل بمحيط قوى التطرف المعادية للدستور والحرية والمساواة والمهادنة للإرهاب".

كما حصد سعيد تأييد اليسار الاجتماعي ممثلًا في التيار الديمقراطي، وكذا العروبين الناصرين ممثلين بالأساس في حركة الشعب. وهذا على الرغم من التحفظات الفكرية والسياسية هنا وهناك.

ويعزى نجاح حملته للجولة الرئاسية الأولى إلى اليساري القادم من "الوطد" رضا شهاب، و الشهير منذ أيام الجامعة واتحاد طلبة تونس في الثمانينيات بـ "رضا لينين .

وكما يقول لي الأمين البوعزيزي باحث الأنثروبولوجيا "حملة قيس سعيد تقاطعت وتفاعلت مع مجموعة يسارية شبابية متفرعة عن (الوطد) تدعى قوى تونس الحرة، وهي مجموعة تتبنى بدورها مفاهيم جديدة تقترب من أفكاره مثل القطيعة مع الديمقراطية المركزية وتبني الديمقراطية القاعدية الأفقية، وتجنب التصادم مع ميراث المجتمع الديني والأخذ بمعالجة المسألة الثقافية برفق من خلال التطور الداخلي لا السلطوي المسقط من أعلى".

يضيف أن هذه المجموعة اليسارية التي يبرز منها في حملة قيس سعيد إلى جانب رضا لينين السيدة سونيا شربطي المناضلة النقابية العمالية في معمل (مصنع) الدخان أسهمت في التأكيد على دولة الرعاية الاجتماعية ببصمة اشتراكية في خطاب الرجل الانتخابي.   

وحقق سعيد أيضًا اختراقًا حتى بين العائلة الدستورية أو المسماة بالوسطية أو الديمقراطية التقدمية والتي تشتت بين أكثر من مرشح في الجولة الرئاسية الأولى ومزقتها الخلافات بين نداء تونس، حزب حافظ نجل الرئيس الراحل السبسي، و بين حزب تحيا تونس الذي يقوده رئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد.

انحاز الأخير نحوه في مواجهة القروي ابن العائلة السياسية ذاتها، والذي كان مقيمًا بصفة شبه دائمة في بيت السبسي خلال حملته الانتخابية 2014 كما شاهدت بنفسي. ولا أدل على هذا الاختراق من حالة سريا السعيدي، الموظفة بإدارة حكومية وتبلغ من العمر 38 سنة، والتي التقيتها بمركز اقتراع في نهج (شارع) قليبيا في حي باب الخضراء بالعاصمة وهي تمثل المرشح قيس سعيد. فقد أبلغتني بأنها تطوعت في الحملة الانتخابية للرجل بعدما غادرت نداء تونس وكانت تمثل السبسي في ملاحظة (مراقبة) الانتخابات الرئاسية 2014.

لا صدام مع "البورقيبية"

من يتابع خطاب قيس سعيد  يلاحظ أنه لا يعتمد مواقف تصادمية مع بورقيبة وميراثه، ينتقده ولا يقدسه. ويعترف بمزاياه وإيجابياته ولا يجبن عن الإشارة إلى سلبياته لكن بلطف وكياسة. وهذا على عكس الحملة الانتخابية الرئاسية للمرزوقي أمام السبسي والتي استدعت الانقسام الجغرافي والسياسي والثقافي بين "تونس الساحل"، و"تونس الداخل"، ونكأت جراح الصراع بين بورقيبة والعروبي صالح بن يوسف. هذا كما شاهدت واستمعت في خطاب انتخابي شهير للمرزوقي في قاعة سينما "الكوليزيه" وسط العاصمة حينها.

ويبدو وكأن مكر التاريخ رجّح بدوره فرص قيس سعيد حين وضع أمامه في الجولة الثانية للرئاسية مرشحًا للبورجوازية البورقيبية متهمًا بالفساد المالي وبرشوة الناخبين مسبقا وبالخروج على القانون والدولة. وشتان بين هذا وبين ماكان عليه حال "السبسي" مع انتخابات 2014 الرئاسية، حين اعتمد تسويقه للناخبين على "وهرة" (أي هيبة وقيمة) رجل الدولة. هذا المكر جعل تأييد قطاعات من البورجوازية البورقيبية لـ"القروي" خجولًا ومترددًا. 

 

الإعلانات المكثفة لرجل الأعمال نبيل القروي في الشوارع. الصورة: كارم يحيى

اختراق واكتساح وانتشار جغرافي 

الاختراق الثاني تترجمه النتائج الجزئية التي توالى إعلانها من الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في اليوم التالي للاقتراع. فقد اتضح، كما أكدت لي عضو مجلس الهيئة والمتحدثة باسمها حسناء بن سليمان، أن قيس سعيد جاء أولًا في كل الدوائر الانتخابية.

صحيح أنه حقق انتصارًا ساحقًا وبنسب تتجاوز 90% في ولايات الداخل كما في تطاوين ومدنين في أقصى الجنوب والجنوب الشرقي. تلك الولايات التي كانت قد منحت في 2014 تأييدها دون هذه المغالاة للمرزوقي. لكن الأهم هنا أنه جاء أولًا حتى في معاقل البورقيبيين، وأنصار نظام ما قبل الثورة. وكما هو الحال في ولاية المنستير مسقط رأس الحبيب بورقيبة حيث حصد 70,5% من الأصوات وفق أرقام هيئة الانتخابات.

وهي للمفارقة الولاية الوحيدة التي حل بها الحزب الدستوري الحر لعبير موسى في الانتخابات التشريعية قبل أسبوع واحد فقط في المرتبة الأولى، وهو الحزب المعروف بوضوح وبقسوة عدائه للثورة، وبأنه يمارس التحريض الشعبوي الاستئصالي الفاشي ضد النهضويين (الإخوان المسلمين) والعديد من القوى السياسية التي خرجت بعد 2011 من السرية والحظر إلى العلن والشرعية. 

في هذا السياق يفسر لنا الدكتور عدنان منصر أستاذ التاريخ التونسي المعاصر بجامعة سوسة ومدير الحملة الرئاسية المنصف المرزوقي وديوان رئاسة الجمهورية بين 2011 و2014  وقتما كان المرزوقي رئيسًا مؤقتًا للجمهورية منتخبا من المجلس التأسيسي قائلًا  "حقا.. الرئيس المؤقت السابق لم ينجح فيما فعله قيس سعيد حين حقق هكذا اختراقًا مناطقيًا وسياسيًا، وبين النخبة على هذا النحو".

يضيف "المرزوقي يأتي من أقصى الجنوب، ولاية قبلي، الأكثر هامشية من نابل سياسيا ونخبويا، كما أن قيس سعيد لم يعتمد خطابًا يعادي النخبة المثقفة، واستطاع أن يؤلف حملة انتخابية أوسع مدى وشعبية وأكثر تنوعًا واجتذابا للشباب مما فعلنا في عام 2014". 

يبشر بمهمة "رسالية"

عندما وقف قيس سعيد بعد فوزه بالرئاسة أمام حشد الصحفيين المحليين والأجانب وقد ضاقت بهم القاعة الرئيسية لفندق تونسيا بالاس، كرر أفكاره الأساسية التي بدا أسيرًا لها، وكأنه لا يرغب في أن يرى أو يخطو خارجها.

تحدث عن إعادة بناء السلطة من المحليات إلى المركز، ونهاية عصر الأحزاب والديمقراطية التمثيلية وعن حق الناخبين في سحب الثقة من نوابهم. لكنه شدد على أنه جاء بثورة في إطار احترام الدستور والقانون. واعتبر أن نتيجة الانتخابات ومن خلال حملة قامت على التنظم الذاتي على هذا النحو بمثابة "ثورة لم يعهدها الفلاسفة وعلماء الاجتماع والسياسة".

اتخذت كلمته طابعًا تبشيريًا رساليًا حين قال متجاوزا تونس "ندخل مرحلة جديدة في التاريخ الإنساني". وهو طالما تحدث خلال حملته الانتخابية عن نهاية عصر الأحزاب الذي ساد العالم على مدى القرنين التاسع عشر والعشرين.

ولدى سعيد وثيقة تشرح أفكاره هذه تحمل اسم "نحو تأسيس جديد". وعندما التقيته في 2017 بدا في انحيازه للثورة ولتغيير جذري متبنيًا نظرية المؤامرة. وهو ما لم يعد إليه خلال إطلالاته النادرة خلال الحملة الانتخابية الرئاسية.

قال لي قيس سعيد (*) عن نظام مزدوج يحكم تونس بعد الثورة "الظاهر هو المُنتخب أو الذي تولّى السلطة بحكم الانتخابات. والخفي هو الذي يتحكم في كل أجهزة الدولة. وهو يرى كل شيء لكنه لا يُرى. هو بالفعل النظام القديم من المتنفذين.. رجال أعمال وسلطة". حينها، في 2017، انتقد النهضة لقبولها أن يجرى استيعابها داخل نظام معاد للثورة والتغيير .

مثل هذا الخطاب يصفه العديد من المثقفين التونسيين بالمثالية والطوباوية، ويحذرون من خداع الأفكار غير القابلة للتطبيق. كما أن محاولة النفاذ بها إلى الواقع عبر اقتراح تعديل الدستور أو التقدم بمبادرات تشريعية رئاسية للبرلمان مسألة غير مضمونة النتائج، إن لم تكن مستحيلة في ظل تركيبة الكتل النيابية وتعددها.

وحتى من يتخوفون من غموض الرجل وممن حوله يمينًا ويسارًا ومن المتهمين بالأناركية أو يتوجسون من صعود طاغية في قرطاج، يتجاهلون ماتعيشه تونس بعد الثورة من تعددية القوى السياسية والحزبية ونهوض المجتمع المدني المدافع عن الحقوق العامة والشخصية ومكتسبات الحريات بما في ذلك حرية الإعلام التي ستضع الرئيس محلًا للنقد والهجوم. ولا شك أن السياسة التي جاءها سعيد متأخرًا جدًا ودخل إليها بطريقة خاصة جدا تعني فن الممكن.

ولعل المعاني المؤكدة لصعود قيس سعيد على هذا النحو إلى منصب رئيس تونس (2019 ـ 2024) تكتمل مع استدعائه لـ "عصفور " يوسف شاهين بعد هزيمة يونيو 1967 مع نهاية المناظرة التلفزيونية ليل الجمعة 11 أكتوبر الجاري ليؤكد على الانطلاق والتحرر الشعبي بلا عودة إلى قفص. وفي هكذا استدعاء لفيلم مصري رد اعتبار للثورة التونسية رددت صداه احتفالات شارع الحبيب بورقيبة بعد يومين.


(*) الحوار غير منشور بعد وهو بين ملاحق كتاب سيطبع لاحقا بعنوان "دراما المظاهرة والصندوق: الاحتجاجات الاجتماعية والانتخابات البلدية بتونس".