ملصقات حملة مفقود لحصر أعداد المفقودين خلال الثورة. الصورة من صفحة مفقود

ثقب في الذاكرة: أسئلة بلا إجابات للعائدين من الاختفاء القسري في السودان

منشور الخميس 12 سبتمبر 2019

يتمنى عبد اللطيف حمد عبد الرحمن، 31 عامًا، رؤية توأمه المفقود منذ صباح 3 يونيو/ حزيران الماضي أثناء عملية فض اعتصام آلاف السودانيين من أمام مقر القيادة العامة للجيش السوداني.

فقبل أيام من الإطاحة بالبشير، أعلن آلاف السودانيين، في 6 أبريل/ نيسان الماضي، اعتصامًا مفتوحًا أمام مقر القيادة العامة، وحين عزل الجيش البشير في 11 أبريل وتولى مقاليد الحكم، استمر الاعتصام لشهرين، احتجاجًا على تولي المجلس العسكري حكم البلاد.

وفي الوقت الذي استمرت فيه الاحتجاجات ولم تهدأ ضد المجلس العسكري السوداني، تنديدًا بفض الاعتصام، ظل عبد اللطيف يبحث عن أخيه أملًا أن يكون على قيد الحياة، حتى تقاسم المجلس العسكري مع التيار المدني السلطة وأعلنت حكومة انتقالية لثلاث سنوات الخميس الماضي، بينما لا زال عبد الهادي شقيق عبد اللطيف مفقودًا.

يقول عبد اللطيف توأم المفقود لـالمنصة "بحثنا عنه في جميع المستشفيات ومراكز الشرطة لكن لم نجد له أثرًا، وفي أي وضع نجده عليه سنقول حصل اللي حصل وليس بيدنا ما نفعله.. المهم نجده".  ويضيف "مؤلم جدًا انتظار المجهول.. عائلتي تعاني ألم فقدان ابنها ولكني أنا توأمه أموت كل صباح".

مقاطع مصورة توثق الاختفاء

تشبه قصة عبد الهادي عشرات القصص التي خلفها عنفًا انتهجته قوات الجيش السودانية التي فضت اعتصام المتظاهرين أمام القيادة العامة للجيش، وأدت إلى مقتل نحو 130 شخصًا وإصابة المئات وفقد العشرات بحسب لجنة أطباء السودان المركزية.

ووثقت فيديوهات مباشرة بثها المعتصمون في اللحظات الأولى فجر الثالث من يونيو الفائت للمفقود قصي حمدتو وهو يجري هربًا من وابل الرصاص الذي ينهمر عليهم من اتجاهات عديدة، ومنذ لحظة انقطاع الفيديو عن البث لم يعرف لقصي مكانًا حتى الآن.

 

حملة مفقود للبحث عن المفقودين جراء فض اعتصام القيادة العامة

مبادرة مفقود

أحصت مبادرة "مفقود" المتولية البحث عن المفقودين نحو 40 شخصًا تعرضوا للاختفاء أثناء المظاهرات التي تزامنت مع تنظيم اعتصام القيادة العامة وفضه في 3 يونيو، ولم يعثر عليهم حتى الآن.

ومفقود هي مبادرة مجتمعية تطوعية هدفها المساعدة في العثور على مفقودي مجزرة القيادة وما تلاها وما سبقها من أحداث. أطلق المبادرة مجموعة من الناشطين في اليوم الخامس لمجزرة القيادة العامة استجابة للحوجة الماسة لتنسيق عمليات البحث عن المفقودين.

وتقول العضوة المؤسسة في المبادرة، فادية خلف الله، في مقابلة مع المنصة "نعتقد أن العدد أكبر من ذلك بكثير لجهة أن المبادرة نشأت عقب فض الاعتصام مباشرة وكان السودان وقتها معزولاً عن العالم وبعضه بعد قطع الانترنت عن البلاد". وتضيف فادية "كان العمل وقتها ميدانيًا، فقط، من خلال التنسيق مع لجان الأحياء في العاصمة الخرطوم من أجل البحث والتقصي عن المفقودين عبر خطط عدة للبحث في المستشفيات والمشارح وأقسام الشرطة".

وتشير خلف الله، إلى العثور على 5 جثث في مشارح مختلفة بالخرطوم سلمت إلى ذويها عبر المبادرة.

 

فادية خلف الله مؤسس حملة مفقود خلال أحمد الندوات التي تنظمها الحملة

وتبرر عضوة المبادرة، فادية خلف الله، اعتقادها بأن العدد أكبر من المحصى لأن مساحة الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للجيش كانت تضم وبشكل يومي الآلاف، ويوم فض الاعتصام كانت الأعداد كبيرة أيضًا وبالتالي من الصعوبة تحديد رقم دقيق للمفقودين لاسيما وأن منطقة الاعتصام احتوت أعدادًا كبيرة من الأطفال والسيدات والشباب المتشردين، بجانب صعوبة الاتصالات والتواصل بين العاصمة والولايات التي حضرت منها أعدادًا مقدرة من المعتصمين.

"على الرغم من مرور أشهر على مجزرة فض القيادة العامة، مازلنا نتلقى حتى الآن بلاغات فقدان من ذوي المفقودين.. هذا يدلل بشكل قاطع بأن العدد كبير ونعمل باستمرار لإيجاد المفقودين مع كافة الجهات ذات الصلة". تقول خلف الله، وتضيف "بعد أن أصبحت الظروف السياسية مواتية سنواصل عبر خطة موسعة مواصلة جمع المعلومات والتقصي حول المفقودين".

مفارقة الواقع وغياب مؤقت للذاكرة

وتتابع خلف الله "مهمتنا تتركز الآن على إيجاد المفقودين ومن ثم العمل معهم على تحقيق العدالة لجهة أن عددًا كبيرًا من الذين تم العثور عليهم يواجهون أمراضًا نفسية مختلفة وتبدو عليهم آثار التعذيب".

وتشير في هذا الصدد الطبيبة النفسية وعضوة مبادرة مفقود خديجة الدخيري، إلى أن معظم المفقودين العائدين بعد مجزرة فض الاعتصام، والذين عاينتهم بنفسها، بينهم حالات عديدة تعاني من الذهول واضطراب المزاج وبعضهم في مراحل حرجة ويعانون ما يعرف بحالات مفارقة الواقع.

وتقول الدخيري لـ المنصة "لدينا تفاصيل أخرى لكن نتحفظ على تفاصيلها خصوصًا المتعلقة بالمرضى الذين يتعالجون لدينا، لرغبتنا في قدوم المزيد من هذه الحالات". وتضيف "في هذه المرحلة من العلاج يفضل الابتعاد بهم عن الإعلام".

وتشير خديجة، إلى أن معظم الحالات التي عاينتها يتذكر بعضها بالكاد أيام اعتصام القيادة العامة للجيش واللحظات الأولى لفض الاعتصام لكن تغيب عنهم التفاصيل.

العثور على مفقود

تروي الدخيري واحدة من التفاصيل الغريبة للعثور على مفقود؛ تقول إن واحدًا من المفقودين تطلع إلى أحد ملصقات المفقودين التي نشرتها المبادرة في شوارع العاصمة ووجد صورته على الملصق فما كان منه إلا الاتصال برقم الهاتف المدون أسفل الملصق حتى تم الوصول إليه من قبل المبادرة. وتشير الدخيري إلى حالة أخرى وصلت مرحلة من الاضطراب النفسي ومكث المريض نحو شهر في المستشفى قبل الخروج منه قبل نحو أسبوع، لكنه مازال زائرًا أسبوعيًا لتلقي العلاج.

وتقول الطبيبة النفسية "أن يتواجد الشخص إلى جانب أسرته ليس بالضرورة هو شخص طبيعي، هناك ملاحظات أولية يمكن لعائلته ملاحظتها وهي عدم القدرة على النوم أو فقدان الشهية أو التوتر والتعصب المستمر". وتضيف "هذه أعراض مرض تتطلب مراجعة الطبيب".

دعم قانوني مقيد بالقوانين

تقدم مبادرة مفقود بجانب الدعم النفسي دعمًا قانونيًا، يعمل عثمان البصيري، عضو لجنة الدعم القانوني، خلال الشهرين الماضيين، على التواصل مع عدد كبير من عائلات المفقودين. يقول "تأكدنا من تدوينهم بلاغات بالفقدان في أقسام الشرطة، وعلى أثر ذلك أخذنا منهم الأذن برفع مذكرة للنائب العام لكن لم يُرَد عليها حتى الآن".

وقال البصيري لـ المنصة إن المذكرة المرفوعة للنائب العام طلبنا فيها تكوين لجنة مستقلة تتكون من قضاة ومحامين ووكلاء نيابة يتم السماح لها بتفتيش كافة الأماكن التي يشتبه تواجد المفقودين فيها، لاسيما وأن الظروف التي أدت لفقدانهم معروفة بخلفية عملية فض اعتصام السودانيين من أمام القيادة العامة للجيش بالقوة، بجانب ظروف فقدان أخرى أيام المظاهرات التي نظمت قبل اقتلاع نظام الحكم السابق.

ويشير البصيري إلى أن عائلات المفقودين أثبتوا للجنة القانونية في مبادرة مفقود، أنهم بحثوا عن مفقوديهم في أقسام الشرطة ومشارح المستشفيات، وغيرها من الأماكن المتوقع وجودهم فيها، وشملت أيضًا معتقلات لجهاز الأمن السابق والسجون، لكن جاءتهم ردود من هذه الجهات بأن لا أحد لديهم.

وينوه البصيري إلى أن القانون السوداني لا يغطى عبر أي مادة من مواده جريمة الاختفاء القسري لجهة أن السودان غير موقعة على الاتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري، ولذا لم تضمن كجريمة في القانون الجنائي السوداني واستعيض عنها بمادة عن الاعتقال غير المشروع؛ وهي احتجاز شخص في مكان معين من قبل السلطات دون وجه حق والاستمرار في حبسه رغم صدور أمر بالإفراج عنه.

"نعرف أن الوضع القانوني معقد، لكن بعض المفقودين الذين التقيناهم مروا بتعذيب ومنهم من هم في حالة نفسية سيئة، لذلك بمقدرونا استكمال المسار القانوني وبدء إجراءات بحق مرتكبي هذا العنف بمواد مختلفة من القانون السوداني مثل التعذيب والأذى الجسيم المرتكب بحق العائدون"، يقول المحامي وعضو لجنة الدعم القانوني بمبادرة مفقود، عثمان البصيري.

ويضيف "هناك مخاوف مبررة لدى العائلات التي عاد أبنائها بأنها لا تريد الذهاب في المسار القانوني خوفًا على تعرض أبنائهم لأي أذى قد يلحق بهم على أثر ذلك".

وشملت الخطوات القانونية، بحسب البصيري، أيضًا تسليم مذكرة قدمت للمفوضية القومية لحقوق الإنسان بتاريخ 7 أغسطس/ آب مطالبةً المفوضية باتخاذ تدابير جادة لمخاطبة المسؤولين للكشف عن أماكن اختفاء المفقودين واتخاذ تدابير جادة للبحث والتقصي عن أماكن وأسباب اختفاءهم وتكوين لجان وفرق لذلك.