سميعة البرلسي (1919 - 1994) - من أرشيف أسرتها

رجال مصر يفخرون بنسائها| سميعة البرلسي.. علمتنى أن المساواة هي الطبيعة

منشور الثلاثاء 8 مارس 2016

 

منذ وقت مبكر من حياتى أومن أن النساء هن المساكين، مسألتهن هى الأصعب وحلها  هو المسألة الأكثر جذرية على الإطلاق، وربما يكون هو آخر محطات تحقق العدالة والمساواة. فالذكورية كالرأسمالية؛ تجدد نفسها، وتستطيع إبداع ماهو جديد للحفاظ على أذرع أبويتها باللين والشدة والمناورة، أو حتى بالإجرام المحض.

 مساكين هن النساء فى بلد  مثل مصر حيث الذكورية فيها كالرأسمالية؛ منحطة ومجرمة و لاتميل للمساومة والمناورة، أبويتها جلفة وخسيسة، لاتحفظ ماضى ولا تنتج مستقبل. لن تهدأ  أو تستكين حتى تأتى بعاليها واطيها، وتدمر أسس الإجتماع العام الحديث.

فإن كانت تلك قناعتى التى تتراكم منذ الصغر؛ فالناتج إذن فى شأن نظرى للمسألة النسائية هو اللا أمل، فالنساء مساكين وسيظللن مساكين. ومعهن ستظل المساواة  محض غائية أخلاقية. غير أن الحياة كافأتنى بمقابلة نوع من النسوة، استطاعوا إرشادى إلى أن هناك بينهن من تستطيع خوض تلك الصراعات السيزيفية الطويلة، وربما حتى تحوز النصر . غير أن امرأة واحدة من كل من قابلتهن رأيت فيها جدارة بالتصدى لهكذا سواد وظلمة وظلم .

في اليوم العالمي للمرأة.. رجال مصر يفخرون بنسائها

لم تكن سميعة البرلسي (1919 - 1994) شخصية نسائية عامة بالمعنى المتعارف عليه، فقد كان اسمها معروفا بالأساس داخل أوساط اليسار المصري، في صفوف رعيليه الثانى والثالث، كونها  زوجة سعد زهران وأم فريد زهران. كانت سميعة من الرعيل الأول للمعلمات، حيث نشأت كابنة صغرى فى أسرة مقتدرة لعالم أزهرى، واختارت العمل كمدرسة للفنون فى الصعيد عام 1939، لأغراض إثبات المكانة والكفاءة، فلم تكن وقتها فى حاجة للمال.

بقوة وبأس شديدين، حطمت هذه المرأة تابوهات زمانها بدون ضجيج أو صوت عال، فهى لم تتزوج حتى سن الثالثة والثلاثين، وحين فعلت تزوجت برجل يصغرها بسبعة أعوام. قابلت سميعة البرلسي سعد زهران أثناء مشاركتهما سويًا فى قيادة تنظيم أول إضراب قومى للمعلمين عام 1950، ذلك الإضراب الذى أسفر عن تأسيس نقابة المعلمين التي صارت حاليًا عنونًا للبؤس.

لم تتوقف سميعة عن العمل فى التربية والتعلم لثلاثين عامًا، حتى اضطرتها الظروف للسفر إلى الجزائر مع أسرتها كنوع من المنفى الإختياري. كان عقدها الرابع هو الأكثر درامية وكثافة، ففيه أنجبت أبنائها الثلاثة، وفيه اعتقل زوجها مرتين؛ مرة منهما لعامين، والأخرى لسبعة أعوام، ذاق فيهم من صنوف العذاب ما يرجو الإنسان نسيانه.

في البدء كانت "نبيهة"

 انضمت سميعة للحرس الوطنى أثناء العدوان الثلاثى عام 1956، وذلك فور خروج سعد زهران من المعتقل على سبيل الراحة من السجن، تلك الراحة التي لم تدم سوى لعامين اثنين قبل تجديد اعتقاله في مطلع 1959 ضمن حملة اعتقالات الشيوعين المصريين بأوامر من الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر. حينها؛ تزعمت سميعة أسر المعتقلين، وكانت المنظمة الرئيسية لرحلاتهم من وإلى سجن الواحات تحت وطأة المراقبة والشماتة.

                                

لقطة لتدريبات الحرس الوطني 1956- فيلم الجانب الآخر من السويس - انتاج هيئة الإذاعة البريطانية BBC

 

لم تسجنها سلطات عبد الناصر، ولكنها اكتفت بالتنكيل بها ونقل عملها إلى إسنا الواقعة على بعد 55 كيلومتر جنوب محافظة الاقصر، فى أقاصي الصعيد مع تهديدها بالفصل. وقتها قررت سميعة خوض المواجهة حتى النهاية، وتوجهت إلى مكتب وزير التعليم البكباشى كمال الدين حسين، حاملة على كتفيها طفلها الثاني، لتضع الولد على المكتب صارخة في الحضور: "أنتم تسجنون الرجل أولا ثم تنقلوني لأقاصي الصعيد؟ فلتأخذوا إذن هذا الطفل لتربوه بأنفسكم ما دمتم مطلقى السلطات وكليو الجبروت لهذا الحد". 

كانت قسوة المرأة ومباغتتها سببًا فى تراجع الوزير البكباشي وصحبه عن قرارهم فى التو. فلقد لعبت معهم لعبة إرادات لحظية عنوانها: إنكم تمتلكون ترف التجرد من الإنسانية كى تذلونا بضعفنا الإنساني، فأهلا بالمواجهة ولنتجرد سويًا من إنسانياتنا، وليتحمل الباغى عواقب بغيه. فى المقابل تراجع  المستبدون ربما لأنهم فى ذلك الوقت لم يكونوا بمستوى حيوانية وبلادة الأجيال التي استولدوها فى الحكم لاحقا.

فى نظرى كانت هي المرأة التى يحتاجها هذا المجتمع القاسي. تلك المرأة التي تستطيع أن ترفع عصاها فى وجه أي مختال أي من كان؛ لتفقأ عينيه فى قوة وبأس. لا تهاب رجلاً ولا سلطة، يخافون نبراتها ويهابون حضورها. هذه السيدة كانت تجسيدًا لما يتصوره المرء عن قوة النساء كما تجب فى مجتمع  سماته الذكورية تصل لحدود الخسة والإجرام كمجتمعنا.

معانى الريادة النسائية فى مصر كانت تعني بين بنات جيل سميعة: أن تكون فلانة هي أول من قادت سيارة، أو أن فلانة هي أول من خلعت النقاب أو صارت أول جامعية. لكن إسهام سميعة البرلسي فى نظري؛ كان أنها من أوائل السيدات اللاتي حولن الريادة النسائية إلى واقعٍ  ماديٍ فى الحياة اليوميةالطبيعية،  بحيث لو قابلها فى اليوم  الواحد عشرة من النسوة تصير لهن مثلاً.

 لم اتذكر أبدًا أنها رفعت شعارات تطالب بتمكين المرأة كنوع، فقد كانت مرأة مُمَكَّنَة بالفعل دون استجداء. كانت تُمكِّن عشرات النساء من دون أن تشعرهن بضعفهن الظالم. كانت تمكن النساء و تمكن الرجال أيضا.

 علمتنى جدتى أن مساواة النساء بالرجال هو القانون الطبيعي، وأن ما خالف ذلك هو ميزات ظالمة وجرائم أخلاقية من عطايا المجتمع الأبوي. فإن فعلنا واقترفناها؛ فعلينا على الأقل أن نشعر بالخجل والذنب. علمتنى ذلك من دون خطابة.

 أتذكرها وهى فى سن السبعين، متكئة على عصاها، ومتوجهة فى الرابعة صباحًا نحو موقف رمسيس لتستقل سيارة بيجو سبعة راكب، كي تذهب لمواجهة عرب مريوط الذين يتحرشون ببيتها وحديقتها هناك. كانت تتصرف كبطلة أسطورية؛ تتحدى الزمن والنوع لملاقاة مجموعة من أشباه قطاع الطرق المسلحين. وحدها فى الفجر، مستندة على عصا وحضور طاغ.

سميعة البرلسي (1919 - 1994)