تصميم: المنصة

الجماهير وحدها لا تزيح الديكتاتور: تمرد الجنود اللازم لإسقاط الأنظمة

منشور الخميس 15 أغسطس 2019

نشرت مجلة Aeon الأسترالية نهاية الشهر الماضي هذا المقال لـ Jean-Baptiste Gallopin الحاصر على شهادة الدكتوراة في علم الاجتماع من جامعة ييل ويعمل في علم الاجتماعي المقارن والتاريخي. يتناول المقال دور ضباط وجنود الجيش والشرطة كلاعبين أساسيين في ترجمة مطالب المحتجين في الشوارع لإسقاط الديكتاتور، أي ديكتاتور، إلى واقع.


ما الذى تتطلبه الإطاحة بديكتاتور؟ كتب ليون تروتسكى متأملًا في هذه المسألة إبان وجوده في المنفى، في كتابه "تاريخ الثورة الروسية" (1930) يقول "لا شك ان مصير كل ثورة يتحدد في نقطة ما عن طريق تحول في موقف الجيش، هكذا في الشوارع، الميادين، عند الجسور، وعند بوابات الثكنات، هناك صراع مستمر، دراماتيكي ولكنه خفي، لأجل قلب الجندي". 

على الرغم من أن سلطة الزعماء المستبدين تبدو فردية، ولكن الديكاتور لا يحكم منفردًا. عندما يتنصل المكلفون بتنفيذ الأوامر من واجباتهم، أو يتمردون، فإن النظام ينهار. بينما يصمد طالما بقوا موالين له. احتجاجات الجماهير لم تكن كافية قط.

خلال الثورة التونسية، بدأ العصيان الذي أدى إلى هروب الرئيس زين العابدين بن علي من السلطة في يناير/ كانون الثاني عام 2011، من وحدة شرطة النخبة التي تم نشرها بشكل استثنائي لحماية وزارة الداخلية من أكبر مظاهرة حتى هذا التاريخ. وعندما واصل المتظاهرون السير إلى القصر الرئاسي، امتد العصيان إلى قوى الأمن الأخرى، واضطر بن على للفرار خلال ساعات.

عندما تغير موقف الشرطة، سقط النظام.

ولكن ليس مفهومًا حتى الأن لماذا تتصرف القوات العسكرية وقوات الشرطة على نحو دون آخر. تركز التفسيرات السائدة عن الانشقاقات العسكرية خلال الانتفاضات الثورية على المصالح الشخصية او المؤسسية. وفقًا لهذا المنطق، تثير المظالم صغار الضباط، ويأملون في وضع أفضل تحت نظام سياسي جديد. بينما يسعى الموالون وفق لذلك للحفاظ على امتيازاتهم.

وراء تلك الواقعية الهوبزية الصارمة، تبقى الحجة بسيطة؛ يعمل الناس لأجل مصالحهم. ويظل هذ الادعاء أكثر جاذبية عندما يكون من بعيد، مع وجود فرصة للتأمل.

ولكن هذا التفسير يصعب الاعتماد عليه لشرح كيف أن رجالًا كرسوا حياتهم المهنية لخدمة الحكومة وصاغوا هويتهم المهنية على أساس من الانضباط، سينتهي الأمر بهم إلى العصيان. لا تقدم لنا تلك الحجة أي تفسير لقيام أفراد من قوات الأمن بتغيير فهمهم لمصالحهم عند مواجهة اضطرابات جماعية.

سيظل قرار التمرد بعيدًا عن السعي لمصالح مادية واضحة ومفهومة. من السهل أيضًا أن نتغاضى عن المعضلة الأخلاقية العميقة التي يسببها القمع الجماعي للجنود ورجال الشرطة المحترفين. مع الوضع في الاعتبار وضع بلد في خضم انتفاضة واسعة النطاق حيث عشرات أو مئات الآلاف من المحتجين يملؤون شوارع العاصمة، ولم يعد باستطاعة النظام الاستبدادى الاعتماد على الشرطة السرية وقوات مكافحة الشغب.

وقتها يجب على النظام تعبئة قوات احتياط، مسلحة بذخيرة حية ولم تحصل على تدريب كاف للتعامل مع الحشود في مواقف كتلك. يواجه هؤلاء الرجال خيارًا صعبًا؛ الدفاع عن النظام مع حمام دم، أو العصيان مع التهديد بالمحاكمة العسكرية أو الموت.

حتى بالنسبة لأولئك الذين لديهم خبرة في القمع، فإن قتل عشرات أو مئات الإبرياء ليس خيارًا سعيدًا. تكون المعضلة في البداية أخلاقية أو شخصية. خيار مر بين خدمة الحكومة وخدمة الوطن. ولكن المعضلة تنتقل من الفردية إلى الجماعية سريعًا، عندما يدرك الضابط انه ليس وحيدًا في حيرته، يتساءل إذا كان زملائه سيتبعون الأوامر. وسط هذا الشك يبرز احتمال عصيانه.

من النادر أن يحدث العصيان في وجه المظاهرات الصغيرة، ولكنه سيحدث بالتأكيد عندما تبلغ المظاهرات نقطة حرجة، يصبح معها القتل اللا أخلاقى واسع النطاق هو الخيار الوحيد للحكومة. هذا العام تحدى المتظاهرون قوات الأمن لأكثر من ثلاثة شهور في السودان دون حدوث انشقاقات كبيرة، ولكن حينما تجمع عدد كبير من المتظاهرين أمام قيادة القوات المسلحة ارتد الجنود، وفي اليوم التالي قام الجنود بحماية المتظاهرين من بطش الميليشيا الموالية. وفي 12 أبريل/ نيسان، انقلب الجيش ضد الرئيس عمر البشير.

غالبا تنتشر التمردات التي تنشأ أثناء الانتفاضات في الأجهزة العسكرية والأمنية كالنار في الهشيم. يقول المؤرخ السوفيتى إي إن بوردزهالوف "بدأت الثورة الروسية عام 1917 عندما رفض فوج الحرس الشخصي في فولنسكي العمل كجلادين بعد الآن وسرعان ما انتشر العصيان إلى أفواج مجاورة في بتروجراد". كتب بوردزهالوف "بحلول المساء لم يعد في استطاعة جنرالٍ موالٍ للقيصر فعل أي شيء لإنقاذ الأتوقراطية".

ومع ذلك سيكون من الخطأ أن نقرأ تلك الآليات في المقام الأول باعتبارها شعور بالظلم المتراكم لمدة طويلة داخل القوات المسلحة وقوات الأمن، ولكنها تعتمد اكثر على الضباط الذين يصطفون خلف قائد آخر. بمجرد ان يبدأ العصيان، يقض خطر الشقاق بين الموالين والمتمردين مضاجع الضباط، وغالبًا ما يواكب الموالون تمردًا تجنبًا لقتال داخلي. في تونس، تظاهر قائد التمرد ضد بن على بعمل وحدتيه وفق الأوامر، وعندما أدرك زملاؤه أنه كان يكذب، انحازوا إلى جانبه بدلًا من القتال ضده. بعد دقائق أقنع قائد الأمن الموالي لبن على الرئيس بمغادرة البلاد للسعودية خشية وقوع حمام دم.

في حالات أخرى يخشى "المحتمل تمردهم" الانضمام إلى تمرد إذا اعتقد انه سيفشل.

في الصين، تودد الجنود للمتظاهرين في ميدان تيانينمين في عام 1989 كما أدان ضباط ادانوا قرار الحكومة اعلان الطوارئ. ولكن رغم ذلك لم يبادر أي ضابط بتمرد مفتوح. استعادت الحكومة زمام المبادرة وسحقت الانتفاضة بحسم.

هذا التمرد يعد نمطًا من أنماط تنسيق المواقف حيث يسعى الأفراد لاتباع السلوك الجمعي على حساب اختيارتهم الخاصة، لأن التصرف بشكل فردي دون تنسيق يتسبب في نتائج وخيمة للجميع. يجب أن يحاول كل طرف أن يعرف ما سيفعله الآخرون، وهذا هو السبب في دور التوقعات أو المعتقدات المتبادلة بشأن المستقبل في تطور الأحداث وتوجيه السلوك. وهكذا ينجح التمرد أو يفشل حسب قدرة المتمردين على خلق انطباع بأنهم سينجحون، أكثر من كونه عائد للإحساس بالظلم الموجود مسبقًا بين زملائهم.

هذه النقطة لها آثار معرفية عميقة بالنسبة لفهمنا للنتائج الثورية.

عادة ما تبدأ الانتفاضات بشكل متشابه، ولكنه سرعان ما تتطور باتجاهات مختلفة بداية من الثورات الاجتماعية، أو استعادة النظام القديم، أو الحرب الأهلية والثورات الاجتماعية. تسعى التحليلات العلمية الاجتماعية للثورات عادة إلى تجاوز الاضطرابات نفسها للكشف عن الأنماط الخفية والعلاقات المسببة للعوامل الطويلة الأمد، مثل بنية الطبقات الاجتماعية وبنية الدولة والظروف الاقتصادية التي تؤدي إلى نتائج مختلفة.

ولكن إذا قامت القوات المسلحة بثورة أو سحقت واحدة، وكان موقفها مبنيًا على أحداث وقعت في مدىً زمنيٍّ ضيق، ساعات أو حتى دقائق، فإن التحليلات الهيكلية تفقد الكثير من قيمتها. ولكي نفسر لماذا تتباين الدول، نحتاج بدلًا من ذلك لتطوير نظريات فيما يتعلق بتأثير الاحداث الثورية النموذجية مثل الاحتجاجات الجماعية أو الانشقاقات والتمردات.


تنشر المنصة هذه الترجمة برخصة المشاع الإبداعي التي تتيح إعادة النشر مع ذكر المصدر.