مشهد جانبي لزياد العليمي

منشور الأربعاء 21 أغسطس 2019

 

- ألو.. عليمي، الناس بيتقبض عليها من التحرير، خلي بالك من نفسك ولو تعرف تطلع على القسم تساعد يكون كويس.

= أيوه يا زياد، ما أنا عرفت، وحاليًا في البوكس مقبوض عليّ معاهم أنا وجمال عيد. شوف محامي يحضر مع الناس التحقيق، وحاول تشوف مين تاني مقبوض عليه، واعمل قايمة بالأسماء ودوّرها، وابتدي شوف ناس عشان الاعاشة.

نص مكالمتي مع زياد العليمي يوم 20 مارس 2003، بعد مظاهرة حاشدة احتجاجًا على غزو العراق.

 هذه المكالمة تلخص علاقتي الممتدة بزياد العليمي لأكثر من ربع قرن، 25 عامًا يمثل فيها العليمي لي مصدر الطاقة المحركة للعمل حتى في أحلك الأوقات، الصديق القادر على إيجاد المخرَج من الأزمة مهما احتدت، البارع في تبسيط الخطاب السياسي واختلافات التوجهات السياسية لغير المختصين والشباب المهتمين بالشأن العام، والأهم أنه كان دائمًا يملك القدرة الفريدة على توحيد الصف رغم الخلاف، وبث روح الصمود والمقاومة والأمل لمواجهة القهر والخذلان.

في تلك الليلة، كانت هذه مكالمتنا الأخيرة قبل أن يبدأ استعراض الضباط والجنود والمخبرين لمهارتهم القتالية وقدرتهم الوحشية على التعذيب على أجسام المقبوض عليهم من المظاهرة، ولم أكن اندهش إذا أخبرني أصدقائنا الذين احتجزوا معه كيف كان يتلقى اللكمات والركلات ضاحكًا، فهكذا عهدته، قادرًا على الاحتفاظ بالبسمة على وجهه مهما قاسى، مشفقًا على معذبيه من تلذذهم الحيواني بتعذيب الأحرار.

عرفت زياد للمرة الأولى في المدرسة، مرحلة تشكيل الوعي، كنا نبحث وقتها عن متنفس لطاقة التمرد داخلنا، وسياق يسمح لنا بالنقاش الحر والتعبير عن الرأي دون استخفاف أو تهميش، ولعل هذا كان، ولا يزال، الرابط بيننا.

وفي رحلة البحث عن هذا السياق الحر تطورت العلاقة من زمالة إلى صداقة حتى أصبح زياد هو "قريني" الذي يحمل اسمي وطبعي، نختلف سياسيًا أحيانًا ونتفق في دفاعنا عن الاختلاف في كل الأوقات. فزياد العليمي يتبنى الفكر اليساري. سياسي ماركسي الهوى دائمًا، أما أنا فأقرب للفكر الاشتراكي الديمقراطي، نختلف سياسيًا لكنه يدفعني دائمًا لحسم الخيارات السياسية لصالح الاتجاه الاجتماعي. فاعتبرته بوصلتي.

تقبل الاختلاف؟ إذن أنت صديقي

وعلى مدى سنوات طويلة، وفي مراحل مختلفة، كنت شاهدًا على تطور وتشكّل وجدانه، وكيف تحول من الشاب الثائر على الظلم، المهتم بشؤون الناس، إلى قيادة سياسية جريئة وملهمة، ليس لي فقط، وإنما للعديد من الصديقات والأصدقاء من نفس الجيل، ومن تيارات سياسية مختلفة. إذ كنت اندهش من قدرته الفريدة على الجمع بين اليسار واليمين في صداقاته، وسعيه الدؤوب لإيجاد "الأرض المشتركة" بين الجميع من أجل توحيد الصف. ولعل هذا كان أكثر ما يميز انخراطه في الحركة الطلابية في جامعة القاهرة.  

كان، ولا يزال، المعيار الوحيد للصداقة عند العليمي هو قدرة الشخص على تقبل الآخر مهما كان مختلفًا، فكان من الطبيعي أن تضم قائمة أصدقائه مناضلات ومناضلين منتمين لليسار، وآخرين من التيار الليبرالي، وإسلاميين، وحتى من أتباع الحزب الوطني، وفي كل هذا لا يهم ميول وانتماءات الشخص الجندرية أو الإثنية أو الدينية أو الطبقية.. فالكل أحرار، شركاء في الوطن وفي تحدي مواجهة الظلم.

الخروج إلى الشارع الكبير

لذا كان من الضروري، بالنسبة لزياد، أن تخرج النقاشات والهموم والأحلام للجميع إلى الشارع لتجمع مؤيديها، وتستفز معارضيها فتصنع نقاشًا وحراكًا. ومن ثم كان العليمي طالب الحقوق بجامعة القاهرة صاحب أكبر عدد من المبادرات الطلابية، والكثير من المبادرات السياسية والشعبية منذ عام 2003 وحتى أصبح المنسق العام للحملة الشعبية لدعم البرادعي عام 2010. 

منذ لحظة القبض للمرة الثانية على زياد العليمي في يونيو الماضي؛ دوّن العديد من الأصدقاء على مواقع التواصل مواقفهم الشخصية والإنسانية معه، بعضهم لم أعرفهم من قبل رغم قربي الشديد من زياد، ومنهم مَن لم يلتق بالعليمي سوى مرة واحدة ولكن جميعهم في تفاصيل قصصهم اتفقوا على طبيعته البسيطة السجية، وتلك الحميمية التي تشعرك أنكم أصدقاء منذ الطفولة.

ينصت باهتمام بالغ لأصغر التفاصيل، ويجيب على كل الاستفسارات، ويبدي استعدادًا دائمًا للمساعدة.

قصص عديدة شديدة التنوع: هؤلاء شاركوا في أول مظاهرة في حياتهم بعد لقائه وكلامه. آخرون ساعدهم لتخطي تجربة الحبس وآثاره. وهؤلاء ساعدهم في إعداد حملتهم الناجحة. آخرون تبدلت مواقفهم السياسية المتشددة وصاروا أكثر تسامحًا، وغيرهم تغيرت حياتهم بعدما مروا بتجارب قاسية كان زياد لهم فيها خير عون. قصص كثيرة أبطالها من أجيال مختلفة، وانتماءات متباينة، اجتمعت على شخصه.

هذه البساطة والتلقائية التي عرفها الجميع عن زياد، امتزجت بحنكة سياسية خاصة، ساعدته على فهم وتبسيط خطاب المجموعات السياسية المختلفة وشرحه للجميع، مستغلًا ما يحظى به من قبول وبساطة، ولكن الأهم بالنسبة له أن يعرف الناس حقوقهم جيدًا ويدافعوا عنها باستماته حتى يبلغوها وهم على استعداد لأن يدفعوا ثمن ذلك. فكان يرفض الوصاية السياسية على الشعب وادعاء المعرفة، مؤمنًا أن الوصول للمعرفة هو النضال الأهم لتحقيق الديمقراطية الحقيقية في مصر.

.. ثم جاءت يناير

في 25 يناير 2011، في ميدان ناهيا وبعدما حاصرت قوات الأمن مجموعات المتظاهرين، بدأ زياد يشعر بتسرب القلق والخوف للمتظاهرين، وفتور حماسهم، فبدأ يستعد لممارسة دوره المعهود في تجديد الأمل.

كنت قد أصابني ما أصاب غيري من القلق فقلت له "خلاص يا زياد، إحنا اتحاصرنا ولازم نفكر في طريقة نخرج بيها من هنا" فرد بحماس وثقة "مش حنخرج من غير لما نقول لكل واحد ماشي  إحنا هنا ليه، ولو حتى ثمن ده إنهم يقتلونا". ورفع مكبر الصوت قائلا "مَشينا جنب الحيط ما رحمناش من إننا نموت محروقين في القطر، ما رحمناش من إننا نموت مش لاقيين الدواء، ما رحمناش من إننا ما نلاقيش ناكل.. عشان كده إحنا هنا، عشان نقول للحكومة المصرية إننا مش حنسكت تاني، مش حنسكت ع الظلم مش حنسكت ع الجوع والخوف، والفقر والمرض، إن الشعب المصري يستاهل أحسن من ده، نستاهل إننا ما نمٌتش في الأقسام.. النهاردة يا إما نقدر نقف جنب بعض وناخد حقنا يا إما معندناش فرص كتير جايه".

ألهبت كلمات زياد قلوب الجميع وأشعلت حماسهم، فعلى الهتاف برحيل مبارك، وغاب الخوف، وتوحد الصف وشق الكردون الأمني وتخطى الحواجز، لينطلق "تسونامي الحرية" إلى ميدان التحرير.

إئتلاف في مواجهة التناحر

شكّل زياد وآخرين ائتلاف شباب الثورة، مستغلًا موهبته في تجديد الأمل وجمع الشتات، فحرصه الشديد على خلق المساحات المشتركة كان صمام الأمان لصمود هذا الائتلاف طول أيام الثورة في مواجهة تناحر سياسي مرعب وتضارب مخيف في الرؤى والاتجاهات وتباين واضح في الأهداف والأولويات، ولولا هذه القدرة الخاصة على استيعاب وإدارة الخلاف والاختلاف ما كان لهذه التجربة الشبابية الجدية الأولى من نوعها أن تنجح في تخطي عقبة التشرذم والتناحر والاستقطاب، ولا كان لها أن تتوحد للحيلولة دون مصير تعيس كان في انتظار الجميع عقب الثورة. 

فلنجرّب الصناديق

كان حلم زياد طوال الوقت ان تكون كل السلطات في مصر منتخبة ديمقراطيًا، خاضعة للمراقبة الشعبية، مسؤولة مسؤولية كاملة أمام الشعب. كما كان يطمح أن تكون في مصر حياة نيابية وحزبية حقيقية تتبارى فيها الأحزاب على طرح أفكار وخطط تخدم مصالح الشعب، وليست مصالح طبقة سياسية أو اجتماعية ما، أو تنظيم أو طائفة.

وعليه ساهم زياد في تأسيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي كمظلة جامعة لجميع التيارات السياسية المتفقة على قيم المواطنة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية كركيزة لمواجهة التيارات المحافظة الأخرى التي تتبنى أفكاراً رجعية لا تتفق مع القيم التي عبرت عنها ثورة يناير. 

نجاح العليمي في تأسيس الحزب مع رفاقه، ونجاحه في الترشح في الانتخابات النيابية بعد الثورة وفوزه فيها كانت علامة فارقة في تاريخ تطور الثورة المصرية، وكانت بادرة يراها زياد مواتية لإمكانية إحداث التغيير من داخل النظام نفسه، بما يسمح به النظام الديمقراطي بوصول تلك الأحزاب إلى السلطة من خلال آليات التغيير الطبيعي (تصويت الناخبين).

لماذا وصل إلى "مخطط الأمل"

هذا الأمل الذي دفع بزياد للانطلاق إلى محافظات مصر كلها على مدار الأعوام السبعة السابقة لبث الأمل في بلوغ التغييرات الاجتماعية المنشودة. على الرغم من تواري الأمل بعد غلق حكومات الرئيس عبد الفتاح السيسي المتعاقبة للمجال العام، وانتشار الخوف واليأس نتيجة للممارسات السلطوية للنخبة الحاكمة التي جعلت الواقع السياسي والاجتماعي بائسًا، وحصرت الأمل في التغيير في الخروج على النظام والعمل على إسقاطه.

ورغم ذلك لم يتوقف زياد عن إيجاد مخارج أقل كلفة للشعب وللنظام لإعادة فتح المجال العام، ومن هنا ولدت خطة الأمل. آخر محاولة جادة من النخبة السياسية، التي تضم زياد، لإيجاد مخرج لأزمات الوطن المتلاحقة. 

الأمل للقادمين

منذ 9 سنوات أصبح زياد أبًا لأول مرة. وقتها أتذكر أني سألته هل سيتمسك بالعمل السياسي وهو الآن أمام مسؤولية جديدة، وحتى الآن مازالت أسمع صدى رده علي "أنا همي إزاي أضمن إن ابني ما يتعرضش للظلم ويتعلم ويكون قادر إنه يحقق أحلامه أيًا كانت. أنا نفسي ولادنا تعيش في مجتمع عادل وبس".

زياد لم يرتكب جريمة، وإنما فعل ما اعتاد عليه، بحث عن الأمل واتبع خطاه، من أجل ابنه وأبناء جيلنا وحتى أبناء أعدائه السياسيين وسجانيه وجلاديه.