قبو. صورة مفتوحة المصدر: unsplash.com

الثورة والجاهلون بموعدها: وحدها السيقان تعرف

منشور الخميس 8 أغسطس 2019

يتحد الإهداء السابق في صفحات الرواية الأولى مع غلافها الذي يصوّر شيخًا معممًا بنظّارة سوداء وأجنحة ملاك، فيعلم القارئ أنه بصدد القراءة عن البصيرة.. صدرت رواية الكاتب والمترجم أحمد عبد اللطيف عن دار العين في مايو الماضي، تحت عنوان "سيقان تعرف وحدها مواعيد الخروج".

 

غلاف رواية سيقان تعرف وحدها مواعيد الخروج

آلة زمن

تبدأ الرواية بمشهد ذروة، حيث يُقاد شيخ عجوز إلى ميدان المملكة، يجرّه الحراس في مشهد مُهين وعلى مرأى من جميع طوائف الشعب، والشيخ ذاته لا يدري ماذا يُفعل به، جاهلًا بمصيره الذي يقرره آخرون وبخطأ لم يرتكبه ليستحق الأذى. يحكي الراوي عن الشيخ في ذلك المشهد "ظن أن سوء فهم قد حدث لكن ليس بوسعه أن يدفع عن نفسه، موهومًا كان بأن السهم الذي فلت سيصيب آخر، غير أنه أصابه هو. وأن الأخطاء قابلة للتصحيح. كان موهومًا".

اختار الحاكم للشيخ منفى، سار إليه محفوفًا بالحرس، تتراءى إليه أحداث ما يجري في الميدان عبر السماء، ويرى شرر كتبه ومخطوطاته تحترق. تسير الرواية بين زمن حالي عن حال الشيخ المنفي وتعود أزمانًا للوراء لتحكي عن المدينة في زمانها الأول، وتشيخ زوجة الشيخ فجأة وينحني ظهرها ويظهر عليها العجز جليّا.

وهكذا يدور القارئ في آلة زمن ذات إيقاع منضبط، يعرف مفاتيحها ووجهاتها الكاتب وحده ولا يخشى على قارئه من الغفلة ولا التخبّط. يقول عبد اللطيف" أثناء الكتابة نفسها، لم أشعر بأي صعوبة على القارئ، خاصة أن الشخصيات قليلة ومتكررة، والأحداث تتكرر كذلك في كلا الزمنين. لكن في المراجعات النهائية حدثت بعض الصعوبة فيما يخص التشظي الزمني والعلاقات بين الشخصيات، لكني كنت أفكر أن العالم السردي يتكوّن على مهل، متشظيًا لكن يمكن جمعه، والقارئ سيجمع قطع البازل هذه دون معاناة. أراهن دومًا على ذكاء القارئ، كما لا أحب كتابة الأدب السهل".

ينقلب الزمن مجددًا، فنجد أنفسنا في حضرة أحمد؛ بطل الزمن الحديث؛ الشخصية الموازية للشيخ. يحكي البطل المعاصر عن والده بُعيد وفاته، وتظهر في الصورة ألبومات صور ومراكب شراعية وزمن حديث جدًا، ونلحظ تشابهًا وتكرارًا بين حياة أحمد والشيخ، فيكتشف أحمد صورة لأمه الحقيقية التي انتزعت أمه الحالية مكانها، وكذا تحكي زوجة الشيخ له أنها قد دبرت لتحل مكان زوجته الأولى.

تتقاطع الأحداث في أبعاد متوازية في إطار الواقعية ذات البعد السحري، وتتخطاه حتى بُعد الأحلام. يقول عبد اللطيف "الأحلام مكوّن رئيسي في كتابتي، وفي حياتي كذلك. وهي منطقة خصبة للكتابة وللألعاب الفنية".

انظر لتُبصر

يرافق الشيخ في قبوه أبو العلاء المعرّي ويُرشده ليبصر عبر عماه، فغياب البصر لا يمنع عن الإنسان البصيرة، "سحب الشيخ أوراقًا وقلمًا وشرع يكتب بالحبر ما لم يرد ذكره في قصة القبو المسحور"، كان ذلك الكتاب هو التقاطع الزمني بين الشيخ وأحمد، الذي وجد الكتاب في مكتبة أبيه فبدأ فيه يتعرف على قصة الشيخ وقبوه/ منفاه المسحور الذي تكشّف له في أحد جدرانه مندلًا أطلعه على حال البلاد بعد رحيله عنها.

في الكتاب يكتشف أحمد قصة المدينة المسحورة، التي أصرّ حاكمها الأعرج على قطع سيقان كل فرد في شعبه ليتساووا وزعيمهم ذو العاهة.  يعلّق عبد اللطيف "المملكة في رواية "سيقان تعرف" ليست محددة لأنها مكررة في التاريخ، وأبو العلاء لم يكن هدف الرواية كشخصية، إنما كأفكار وروح تسري بين بقية الشخصيات. بهذا هي ليست رواية تاريخية، ولا مستقبلية، ربما كنت أسعى لرواية تدوّن التاريخ البشري في علاقته بالسلطة".

في الرواية يقول أحمد؛ "بحسب ما أفهمه من ملحوظات مدونة على حواف الصفحات، فهؤلاء الكُتاب هم أصدقاؤها؛ أبو العلاء وبورخس وطه حسين، وما يجمعهم الثلاثة هو العمى، أو البصيرة كما أعتقد. البصيرة لأني اكتشفت أن البصيرة هي هذه الرؤية المختبئة وراء حاجز من البصر، فلا تنطلق إلا بانطفاء البصر ذاته".

 

في روايته الأخيرة "حصن التراب"، يحكي عبد اللطيف عن غرناطة وتاريخ المورسكيين، وهنا يظهر أبو العلاء ومدائن من أزمان قديمة لها سلاطين ويحميها حرّاس، فالتاريخ فيما يبدو بطل أساسي في وعي عبد اللطيف أو ربما أبطاله.

يوافق عبد اللطيف "التاريخ بالطبع مادة ثرية للأدب، وكثيرًا ما يمتلك مفاتيح لأفكار يمكن العمل عليها، سواء شخصياته أو أحداثه، وهو من قراءاتي المفضلة، فأنا أقرأ في التاريخ أكثر مما أقرأ في الأدب، وتزيد هذه القراءات حين أعمل على رواية لها بعد تاريخي (كما في حصن التراب). لكني في الوقت نفسه لا أصدق التاريخ على إطلاقه، وأعرف أنها رواية من ضمن روايات أخرى، ربما من هنا يأتي تحدي كتابة رواية تأريخية، لا تاريخية، لأن التأريخية تعيد قراءة التاريخ على ضوء الحاضر، بعكس التاريخية التي تؤكد على الحدث وتبحث في الثغرات لتتناوله".

من ديار الفانتازيا والأدب الغرائبي

يقول الكاتب الأرجنتيني، ريكاردو بيجليا "القصة ليست أكثر من استنساخ لنظام العالم؛ نسخة طبق الأصل من الحياة". ترجم أحمد عبد اللطيف مجموعة ريكاردو القصصية؛ الغزو، وقد صدرت مؤخرًا عن سلسلة إبداعات عالمية.

وإذ تنبض "سيقان تعرف وحدها مواعيد الخروج" بمشاهد من العوالم الساحرة والرؤى والكوابيس، والأزمان المتداخلة، نتصور أن اطلاع عبد اللطيف على الأدب اللاتيني قد شحذ رؤيته للخيال فأضحي يتمثل له واضحًا، وأصبح مُلمًا بخيوطه، أو هو ربما تأثير المترجِم الذي يتفنن في إعادة الصياغة ويتخيل النص برؤية العين ليستطيع إيصاله بلغته الخاصة.

لكن يرد عبد اللطيف؛ "لا، إطلاقًا. حين أكتب يختفي المترجِم تمامًا، لا يحضر إلا الكاتب بكل أسئلته وهواجسه، بكل ماضيه وأحلامه، بذكرياته وخيالاته. لكن المترجم، والقارئ قبل أن أكون مترجمًا، فادني في التعرف على ما أريد كتابته، ساعدني في تكوين منظور فني، في العثور على تعريف شخصي لفن الرواية وفن القَص".

ويستطرد "ربما قلت ذلك من قبل، أنا ابن التراث العربي السردي، وقرأت وقائع الزهور في بدائع الدهور لابن إياس، وألف ليلة وليلة، والعديد من أعمال الجاحظ (وهو من كُتّابي المفضلين) ورسالة الغفران، قبل أن أتعرّف على الأدب اللاتيني والأدب الأوروبي. كل ذلك مجتمعًا ترك فيّ أثرًا، ساهم في تكوين ذائقتي الجمالية وانحيازي الأدبي. أظن أن الكاتب ابن لكُتّاب سابقين كثيرين، وهذا ما يجعله ابنًا للا أحد في نفس الوقت. إيجازًا، التراث العربي والأدب اللاتيني الغرائبي ساعداني في فهم أن الأدب هو المجاز".

الجاهلون بموعدها

في البُعد الزمني الحديث، يظهر الميدان، ويكافح أحمد (بطل الرواية) وأقرانه الظلم والظالمين، مستبشرين بالمستقبل أو غافلين عن غدره، تمامًا كاطمئنان الشيخ قبل أن يُساق مكبّلًا إلى محاكمته ومن ثَمّ منفاه. 

يحكي أحمد في البعد الآني من الرواية "واصلتُ السير في قاع القبو حتى وجدتني في ميدان التحرير، وأتجه إلى شارع محمد محمود. كان ثمّة زحام كبير، كانت تبدو مظاهرة كبيرة لكنها صامتة. المتظاهرون رفعوا الشموع، والشرطة أطلقت القنابل المسيلة للدموع ثم الرصاص الحي. كل المحيطين بي سقطوا غارقين في دمائهم".

يُقارن عبد اللطيف الثورة في الزمنين؛ كل بتفاصيله وضروراته ومحظوراته، والحديث هنا يأتي بسلاسة مضفرًا داخل زوايا الحكاية، طبيعيًا كنتيجة للحديث عن السلطة والقوة وتبعات الغضب المكتوم، فلم يبد أن الرواية كُتبت للثورة.

 يقول عبد اللطيف"أفكار الرواية الأولى كانت "الرحلة"، كانت الوصول إلى مكان برزخي من خلاله تنكشف الحقائق. هذه الفكرة طرقتها من قبل في رواية كتاب النحات، لكني لا زلت مشغولًا بها، فظهرت في "سيقان تعرف.." بشكل مختلف. بعد الشروع في كتابة الفصول الأولى، فكّرت في رسالة الغفران والكوميديا الإلهية، فعدت لقراءتهما، ثم أدخلت شخصيات أبو العلاء وبورخس ودانتي كمادة رئيسية في العمل.

مجازي وحالم

يتابع "ثم خطر لي سؤال؛ ما الذي أريد أن يُكشَف عبر هذا المكان البرزخي، عبر القبو؟ هنا تجلت فكرة السنوات الأخيرة، وكانت ثورة يناير وتوابعها هي المسيطرة على وجداني. كل الخيوط، كما ترين، متشابكة؛ الرحلة، الجحيم، الكشف، الثورة، العين المفقوءة، العمى، البصيرة، الماضي البعيد والقريب، المستقبل. والثورة كانت في القلب من ذلك، لأنها أهم حدث عاصرته في حياتي، ولأن أثرها دائم، ولأنها انهزمت".

وعلى ذكر السيقان، والعنوان الطويل؛ "سيقان تعرف وحدها مواعيد الخروج"، الذي هو عنوان تفسره أحداث الرواية وينطبق تمامًا، ولكن القارئ الغريب عن النص، قد يجده غير مفهوم، فهل كان مقصودًا أن يكون بهذه الغرابة والفانتازيا، كإعلان قصير عن محتوى الرواية؟

يعلّق عبد اللطيف "العناوين محيّرة عمومًا، وقد يستغرق الكاتب شهورًا ليستقر على العنوان الأنسب للعمل. هذا ما حدث مع "سيقان تعرف". وضعت عنوانًا مبدئيًا قبل الشروع في كتابتها، ثم وضعت عناوين أخرى افتراضية مع تقدمها، لكن بعد الانتهاء منها، بعد أن تفاجأت أنا نفسي ببعض أحداثها، وجدتني أبحث من جديد عن عنوان يعبّر عن الرواية، يكون اسمها اللائق. "سيقان تعرف وحدها مواعيد الخروج" يمكن أن يكون الإشارة المناسبة لهذا المضمون، ولم تمنعني شاعريته من أن يكون عنوانًا لرواية، ربما لأنني أعتقد أن الثورة فعل شعري، فعل مجازي وحالم".

ما عاد يُسمع عنهم

يحكي الشيخ عن هؤلاء المناضلين المختفين، الذين فُقدوا وما عاد يُسمع عنهم " كان من الممكن أن تسير الحياة على وتيرتها الهادئة في ظاهرها، المضطربة في داخله، غير إنه قرر أن يدون يوميات المملكة، وكان من اليوميات اختفاء الشباب واحدًا وراء واحد، حتى تجاوز العدد المئات، من دون أن يعرف أحد سببًا لذلك، وإن كانت التكهنات تشير بالسبابة إلى السلطة".

لأن حكاية الثورة تاريخ ذو شجون، فربما شعر عبد اللطيف بضرورة نقل شهادته أو وجهة نظره عنها، خوفًا من تزييف الحقائق أو معاداة التاريخ لها محاباة للنظام. يوضّح عبد اللطيف "لو انتصرت الثورة ربما ما ظهرت رواية "سيقان تعرف" أو لظهرت بشكل مختلف".

يتابع "احتجت إلى مرور كل هذه السنوات لأدرك أن الثورة انهزمت، وبالتالي يمكن الكتابة عنها، لأن الأدب في تصوري هو الكتابة عن المهزوم وليس عن المنتصر. لكني لم أفعل ذلك كواجب أخلاقي (لو كان الأمر كذلك لكتبت رواية ترصد الثورة وتوثق لها)، إنما كتبت عن مفهوم الثورة، عن السلطة، عن الهزيمة التي تؤدي إلى انتصار، ورحت إلى المستقبل الذي لن يوقّفه أحد".

ويضيف "أما تزييف الحقائق من أجل محاباة السلطة فمسألة واردة دائمًا، من هنا تأتي الحكاية الشعبية في مواجهة التاريخ الرسمي. في النهاية، "سيقان تعرف" تحمل الكثير من التفاؤل، لكنه ليس التفاؤل الحالم بقدر ما هو التفاؤل بحركة الزمن. ففي نهاية المطاف "الشارع لنا" كما يقول صلاح جاهين".

نعرف بنهاية الرواية عن مصير الأبطال، ومصير ثوراتهم؛ القديمة، والحديثة التي بتنا نعرف كيف انتهت في الأصل وكنا عليها شاهدين. في رحلة غامضة ومتاهة تتحدى الرسائل المباشرة، والأحداث الجليّة، سيتجاوب معها القارئ في لهاث وراء الصفحات يفسر ويخمن ويتخيل، فلا تعده "سيقان تعرف" إلا بنصّ مُمتع وإن شاكسته فلسفته وطالبته بحل ألغازه.

 يفسّر عبد اللطيف وجهة نظره في العلاقة مع القارئ في مرحلة ما قبل الكتابة "أنا أكتب للجميع، لكل من يحب أن يقرأ، أما مسألة التجاوب مع هذه الكتابة أو النفور منها فمسألة ترتبط بثقافة القارئ وصبره وهدفه منها، وربما حالته النفسية وقت القراءة. ما أعرفه أني لا أكتب أدبًا من أجل التسلية، وفي نفس الوقت لا أريد كتابة نص ممل أو معادلات رياضية".

يستطرد "أنا أكتب أدبًا، وشرط الأدب المتعة، غير أن المتعة وحدها ليست كافية لصنع رواية. تصوري عن الرواية أنها تحل محل الفلسفة، وتطرح أسئلتها، وكلما حاول الكاتب التعمق في الذات الإنسانية، وجد صعوبات وتعقيدات، فتكون الرواية انعكاسًا لهذا العالم المعقد. من ناحية أخرى، الرواية الحديثة ليست مجرد حكاية، وإنما حرب مع اللغة، وصراع مع شخصيات شديدة التركيب، ومواجهة لسؤال الموت، الموت الذي يلاحقنا بلا توقف بدون أن نفهمه".