المنصة
تصميم: يوسف أيمن

ما وراء الأبجدية: حظك ومستقبلك ورزقك في حروف اسمك

منشور الثلاثاء 11 يونيو 2019

مثلما يتابع البعض طالعه اليومي في الصحيفة حسب برجه، هناك في صعيد مصر من يتوقعون حظهم وما يخفيه القدر عن طريق عدّ حروف أسمائهم بطريقة شعبية اسمها "الأوفاق"، حيث تجتمع أسرار المستقبل والحياة والرزق وتختبئ خلف الحروف في تطبيق عملي للمثل القائل إن لكل امرئ من اسمه نصيب. 

تعتمد تلك الحسابات التخمينية بشكل رئيس على "حساب الجُمَّل" وهو علم يطلق عليه أيضًا اسم "أسرار الحروف"؛ الأوفاق إحدى فروعه، وتعني -باختصار- وضع مكافئ رقمي لكل حرف من حروف الأبجدية. حساب الجمل هذا أقحم بشكل مباشر في عدة ممارسات أخرى، مثل التنجيم، وعلم التعمية، وبعض التفسيرات الباطنية للقرآن، فضلا عما اعتقده الناس في السحر والشعوذة والأعمال الخارقة.

أقدم مثال لاستخدام "حساب الجُمَّل" في التأريخ يرجع إلى عصر الخليفة العباسي المستنجد بالله (1160- 1170م) عندما مدحه أحد الشعراء بقول "أصبحتَ لُب بني العباس كُلهم/ إن عددت بحروف الجُمَّلِ الخَلفَا" ولفظة "لُب" تساوي في حساب الجمل 32، أي أن المستنجد بالله هو الخليفة العباسي الثاني والثلاثين، بحسب داليا حسن، في بحثها "التأريخ بحساب الجمل" المنشور بجامعة عين شمس 2016.

الجدول أدناه يوضح مكافئات الحروف الأبجدية في حساب الجمل، وهي نفسها التي تستخدم في الأوفاق والكسر والبسط والتنجيم، وغيرهم من العلوم والممارسات.

 

التأريخ بحساب الجمَّل - عن مجلة الدراسات البردية والنقوش - جامعة عين شمس

حساب الأوفاق

من بين عدة ممارسات تعتمد على حساب الجمّل، تبرز "الأوفاق" بممارسات وطرق شتى بعضها عصيّ على الاستيعاب. والذين يمارسون هذا الفن لا يكتفون بالنقل من الكتب، بل إن الكتب لا تساوي شيئًا أمام الخبرات التي يتناقلونها عن ممارسين أقدم.

المنصة تواصلت مع  بعض ممارسي هذا الفن، في الصعيد بين سوهاج وقنا، وفي القاهرة والجيزة، أكثرهم امتنع عن الحديث في هذا الأمر، باعتباره "من الأسرار التي لا ينبغي أن يعلمها العامة" وخشي بعضهم من "التشهير" أو "نشر السر"، أو "دا علم لا تنقله الأقلام"، لكن إمام مسجد يمارس الأوفاق وافق على الحديث على أن يشار إليه باستخدام الأحرف الأولى من اسمه؛ (ع.أ) قائلًا "الأرقام مش هي  بس اللي تفسر، أضف عليها رائحة الإنسان".

بعض ممارسي هذا الفن- خاصة في الصعيد- يعتبرونه هواية لا أكثر، وبعضهم الآخر يحترفه ويتخذ منه مهنة يتكسب منها رزقه، وإن كان جميعهم يتناقلون هذا الاهتمام من الأجيال السابقة لهم إلى الأجيال التالية، وهم متفاوتون في إتقان تلك الطريقة، التي تأخذ- أحيانًا- جانبًا صوفيًا خالصًا، إذ يعتبرها البعض قراءة باطنية لحياة الشخص.

تتنوع طرق قياس الأوفاق لكنها جميعا تعتمد على أساس واحد. حروف اسم الشخص تفسر خبايا حياته، وللحروف أسرار لا يعرفها إلا بعض الناس "الخواص"، بعض هذه الطرق هي حساب حروف اسم الشخص واسم والدته معًا باستخدم جدول حساب الجمل، لأنهم يعتقدون أن هذين الاسمين معًا من الصعب أن يكون لهما شبه على نفس الترتيب، كما أنهم يعتمدون على اسم شهرة الشخص إذا خالف اسمه الحقيقي، باعتبار  أن لكل امرئ من اسمه نصيب.

أحمد بريري (35 سنة) محامٍ وأيضًا أحد المهتمين بالأوفاق إذ يمارسها كهواية، يرى أن الأوفاق على اختلاف طرقها، فن شعبي يفتقد شروط العلم والقياس، لكنها مثل ممارسات شعبية عدة يعتقدها الناس ويسلمون بصحتها، لا يمكن إخضاعها للمنطق.

يقول بريري لـ المنصة إن هناك عدة طرق للأوفاق، إحدى هذه الطرق، هو تحويل حروف اسم الشخص واسم والدته إلى أرقام، باستخدام حساب الجمل، ثم نجمع هذه الأرقام سويًا، ونظل نجمعها إلى أن يصل الناتج إلى رقم يقع بين 1 و9، ثم نحسب طاقة كل حرف.

مثلا، يوضح بريري، اسم أحمد ستصبح حروفه 1 و8 و40 و4، فإذا جمعنا هذه الأرقام أصبح الناتج 53، فنعيد جمعه ليكون الناتج 8. ولكل رقم صفات معينة، على حد قوله.

يعتقد بريري أن "الحرف في أي اسم مثل الجسد، أما الرقم فهو الروح والطاقة التي تعبر عنه"، مشيرًا إلى أن هناك طرق أخرى لحساب الأوفاق تستخدم غالبًا قبل الإقدام على الزواج، وهي حساب اسم الشخص، واسم التي ينوي الارتباط بها، ثم قسمة الناتج على 9 إلى أن نصل إلى أقرب رقم بين 1 إلى 9، ويشير كل رقم إلى أمر مختلف، فمثلا 5 يعني أن فرص الإنجاب ستكون أقوى، و7 يعني "سعد السعود" الذي يحمل "أكبر فرصة للتوفيق بينهما"، بحسب قوله.

ورغم من أن الاستخدام الرئيسي للأوفاق يكون قبل الزواج، إلا أن هناك استخدامات أخرى متنوعة كتأخر الفتيات في الزواج، أو وقوع شجار بين زوجين، وعندما يدخل رجل في نزاع مع آخر، إذ يمكن أن تتنبأ تلك الطريقة بمن ستكون له الغَلبَة في النهاية، وأيضا عندما يمرض أحدهم، يمكن للأوفاق التنبؤ بنوع المرض.

عمار أحمد المهندس الزراعي بقنا، أحد ممارسي علم الأوفاق، لكنه لا يعرف أصل هذا الممارسة التي أتقنها وتعلمها على يد بعض المشايخ وكبار السن. يعتبر أحمد علم الأوفاق "علمًا واسعًا"، وما جربه وجده حقًا بنسبة تصل إلى 70%، أما 30% الباقية فترجع إلى الظروف البيئية والاقتصادية والتربية، ويعتقد أن هذه الحسابات ربما تفسر مقولة أن "لكل امرئ من اسمه نصيب".

يقول عمار  لـ المنصة إن "الأوفاق" تشبه صفات الأبراج "لكنها أكثر دقة، وجزء مما أفعله هو معرفة طبائع الناس ومدى توافقها، وتنقسم تلك الطباع إلى أربعة على الترتيب: ناري وترابي وهوائي ومائي".

يشرح أكثر "تنقسم الطباع إلى أربعة، ولكل طبع ثلاث خصال، ليصبح لدينا 12 خصلة، وعندما نشرع في معرفة أوفاق شخص، نحسب حروف اسم مع حروف اسم والدته، ونظل نقسم على 12 إلى أن نصل إلى رقم أقل من 12، فإذا ضم الرقم كسرًا عشريًا تركنا الرقم وأهملنا الكسر (3.4 مثلًا تصبح 3)، ثم نبحث في جدول محفوظ عن الطباع، ويتبقي للشيخ نظرة وتقدير أيضًا". والمقصود بالشيخ هنا هو الشيخ الذي يمارس الأوفاق، حسبما يسميه أهل الصعيد. 

كل رقم متبقٍ من ناتج القسمة يشير إلى خصال معينة، وهي الخصال الـ 12 التي تحدث عنها عمار، فإذا كان المتبقي أحد أرقام 1 أو 5 أو 9، فصاحبه يحمل الطبع الناري، ويأخذ صفات أبراج الحمل والأسد والقوس، أما إذا كان المتبقي أحد أرقام 2 أو 6 أو 10، فهو  ترابي، ويأخذ صفات أبراج الثور والعذراء والجدي.

أما إذا كان الناتج واحدًا من 3 أو 7  أو 11 فإن صاحبنا هوائي أقرب إلى صفات أبراج الجوزاء والميزان والدلو، وأخيرًا فالأبراج المائية المتبقية وهي السرطان والعقرب والحوت تبقى مِن نصيب مَن كان ناتج حروف أسمائهم أحد أرقام 4 أو 8 أو 12. 

يختلف تفسير قراء الأوفاق للأبراج الفلكية، فهم يعتبرون أن صفات تلك الأبراج التي تقع في نطاق كل طبع، بمثابة درجات من الطبع نفسه، وقد يقدم قارئ الأوفاق نصائحه اعتمادًا على طبعك، من نوعية لا تشرب ماء في وقت متأخر، أو لا تتعجل الحكم على الناس، أو لا تجلس وحيدا في الأماكن المظلمة، أو اقرأ سورة طه أو يس، وهكذا. 

أبجد هوز.. ملوك العرب

قبل الإسلام، استخدمت العرب مكافئات رقمية لكل حرف أبجدي، وجمعت حروف الأبجدية في ألفاظ عشوائية لا تفيد معنىً معينًا، بغية ترتيبها، فكانت أبجد هوز حطي كلمن صفعس قرشت ثخذ ضظغ، وهو ما أُطلق عليه "حساب الجُمَّل"، وهو نفس الرأي الذي ذكره الخوارزمي (توفى781م)  بإيجاز في كتابه "مفاتيح العلوم".

لكن تقي الدين المقريزي، في خططه، يذكر أن أحرف الجمل تلك "أبجد، هوز..." هي أسماء ملوك قدامى، ويروي أن أبجد كان ملك مكة والحجاز، أما "هوّز" و"حطي"، فكانا ملِكَين بالطائف ونجد، و"كلمن" و"سعفص" و"قرشت"، ملوك بمدين، وقيل بمصر، حسب المقريزي.

وعلى أي حال، استُخدِم حساب الجمل على هذا النحو في التقويم والتعمية، وبالغ آخرون واعتبروه جزءًا من علم أطلق عليه "أسرار الحروف"، الذي عُد علمًا محضًا، يندرج تحته 184علمًا آخر، منها علم خواص الحروف وعلم الخواص الروحانية وعلم الأوفاق وعلم التصريف وعلم الكسر والبسط، كما يذكر صديق القنوجي في أبجد العلوم.

ويرى الدكتور عبد الله العزباوي، في كتاب الفكر المصري في القرن 18، أن المصريين حتى أواخر القرن الثامن عشر، كانوا يستخدمون حسابات معينة، لتحديد "أوقات السعد" للمواليد، وحسابات أخرى في حال إقدام اثنين على الزواج، لمعرفة نسبة "التوفيق" بينهما.

أرقام وحروف مقدسة

تأخذ أرقام وحروف معينة جانبًا مقدسًا عند المسلمين، مثل أسماء الله الحسنى الـ99، والتي يربط بينها، وبين الرقم 33 عدد مرات التسبيح والتحميد والتكبير عقب الصلوات الخمس، ليصبح المجموع 99.

ويرى إدريس شاه في كتابه "الصوفيون"، أن السر الذي يجمع بين الرقمين 99، و33، هو أن الأخير ثلث الأول، وطبقا لحساب الجمل يتحول إلى 30= ل، و3= ج، ليصبحا لج بمعنى ألح في الأمر، أو جل بعنى الجليل، لكن إدريس شاه لم يعلق على معنى اللفظين أو المقصود منهما، أو حتى صلتهما بالرقم 99.

هذا المثال الذي يسوقه إدريس شاه، خلفه باب واسع من التأويلات، فإلى جانب الأذكار التي تواتر الحض على ذكرها في الأحاديث النبوية بأعداد معينة، هناك أيضًا تلاوة سور (كالفاتحة والإخلاص ويس) وأذكار عددًا معينًا من المرات، أو اللجوء إلى الحروف المقطعة في أوائل السور، كل ذلك بغية التوفيق وقضاء الحاجات- حسبما يُعتقد.

ويعتقد الصوفيون أن هناك معانٍ خفية وراء الحروف المقطعة التي افتتحت 29 سورة من القرآن، التي جمعوها في جملة "نص حكيم قاطع له سر"، وبذل علماء المسلمين جهدًا كبيرًا لفهم تلك الأسرار على مدار قرون، بل اعتبروا أن وراء تلك الحروف علم غامض تُمنح أسراره لأشخاص استثناثيين مثل "الأولياء".

لكن ثمة تفسير ينقله المستشرق الألماني تيودور نولدكه في كتابه تاريخ القرآن إذ يقول إن الحروف إشارات الى الأرقام، مثل الم = 71 سنة، المر = 271، وإن بعض التفسيرات اعتقدت أن لهذه الأرقام دلالة خاصة، لا يعقلها إلا الخواص.

أحد علماء القرن الرابع عشر الميلادي، بدر الدين الزركشي، في مصنفه الضخم البرهان في علوم القرآن يبرز صورة أكثر مبالغة لما نقله نولدكه، إذ يقول إن هذه الأرقام "ليس منها حرف إلا هو مفتاح اسم لله أو آلائه أو بلائه أو مدة قوم أو آجالهم"، ويدلل على ذلك أن بعض الأئمة استخرجوا منها وقت فتوح بيت المقدس وبعض الأحداث الأخرى.

ويذكر حسن المصري (40 سنة)، أحد الممارسين والمعتقدين في الروحانيات، أن لكل حرف في الأبجدية قيمة عددية، وله أيضًا "خادم"- باعتبار أن اللغة العربية لغة مقدسة، ويمكن أن يحل الرقم محل الحرف لنكتب اسمًا أو جملة كاملة من الحروف، كما يحدث في الأحجبة والطلاسم والمربعات السحرية.

المهتمون والممارسون لهذه الروحيانات لم يقدموا تفسيرًا واحدًا للمقصود من "خادم الحرف"، بعضهم ذهب إلى أنه "جن موكل بخدمة الحرف"، وآخرون قالوا إنه "أحد الملائكة"، وحاول بعضهم أن يكون أكثر منطقية فوصفه بأنه "طاقة غير مرئية".

البيوت السحرية التسعة

تقول الأسطورة إن أحد أباطرة الصين خلال رحلاته في البحر الأصفر قبل الميلاد بألفي سنة، شاهد على ظهر سلحفاة مربعات مدونًا بداخلها أرقام، فُسرت تلك المربعات فيما بعد على أنها مقدسة، وخلال العصر الوسيط، اجتهد علماء العرب والمسلمين في بث الروح إلى تلك الأسطورة مجددًا.

وضع علماء العرب والمسلمين مربعات تتكون من خانات على نفس نمط رقعة الشطرنج، أصغر تلك المربعات كان يتكون من تسعة بيوت (خانات)، واعتقد العلماء آنذاك أن هذه المربعات لها أسرار غريبة، وروحانيات قوية، من هنا شقت هذه المربعات طريقها إلى السحر، وارتبطت بالطلاسم والشعوذة.

https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/d/d8/Secret_of_secrets_a.jpg

يوضح الدكتور جلال شوقي في بحث نشرته مجلة الوثائق والدراسات الإنسانية 1991، أن أول مربع سحري ظهر في الحضارة الإسلامية، كان على يد جابر بن حيان، في إحدى رسائله "إخراج ما في القوة إلى الفعل"، وأشار ابن حيان إلى خانات تلك المربع بـ"البيوت التسعة".

نال هذا الفن أهمية كبيرة خلال العصور الوسطى، حتى قيل إن المؤلفات التي تناولت شرحه والاستفادة منه فاقت المائة، واعتقد علماء العصر الوسيط، أن تلك المربعات، وراءها "بحر علوم لا ساحل له".


اقرأ أيضًا: طائفة الشحاذين.. موجز تاريخ فشل دولة


ومع أن هناك محاولات طويلة لربط أسرار الحروف بأمور ومعارف غيبية، ومنحه صفة العلم الغامض، ومحاولة إلصاقه بأشخاص استثنائيين مثل الأنبياء والأولياء والصالحين ومشاهير المتصوفيين، من أجل إكسابه شرعية، إلا أنه يظل "عسيرًا على الفهم ولا يخضع للقياس"، بحسب ابن خلدون.