لماذا الأذكياء أكثر عُرضة لتصديق الأخبار الكاذبة؟

منشور السبت 20 أبريل 2019

تنشر المنصة ترجمة هذا المقال المنشور في صحيفة الجارديان بإذن خاص من الكاتب دايـﭭـد روبنسون


هل سمعتَ بالزَّوجَين اللذَين قرّرا تسمية ابنتهما بريكست [1]Brexit؟ أو حقيقة أنّ المناطق الأكثر تصويتًا للانسحاب اتّفقَ أنّها مناطق مُصابة بمرض جنون البقر؟ ماذا عن التصريح الذي يقول، أنّ الإشعاع الصّادر من الهواتف الذّكيّة يتسبب في إلحاق الضرر بالمُخ ويؤدّى لانتشار العتَه؟

كلُّ تلكَ المزاعِمَ كاذبة. ربّما تظنُّ أنّه ينبغي أن تكون أحمقًا حتّى تصدَّق هذا النوع من الأخبار، إلّا أنّ ذلك ضَرْبٌ من سوء الفَهم الخطير فيما يخُصُّ الطريقة التي يعملُ بها الدِّماغ. يظهرُ أحدُ الأبحاث النَّفسية أنّ أساليب التضليل مُصمَّمةٌ بحَذَق؛ بحيثُ تجعلُ العقل يتغاضى عن التحليل المنطقي الدقيق للمعلومات؛ بمعنى أنّ المعلومات الكاذبةِ يمكنها أن تمرّ ولا يلقطها الرادار العقلي، حتى لأكثر النّاس تعلُّمًا وذكاءً.

لا أحد محصن بالكامل عن هذا التأثير. في الوقع، ثمّة شاهدٌ الآن بأنّ الأشخاص الأكثر ذكاءً، ربّما يكونون حتى هم أكثر الناس تأثّرًا بأفكارٍ معيَّنة- بما أنّ طاقات عقولهم الفائقة تُتيحُ لهم ببساطة أن يُعقلِنوا مُعتقداتِهم (الباطِلة). ولحُسن الحظّ، يمنحنا البحثُ كذلك بعض الاستراتيجيّات كي نتغلَّبَ على تلك التّحيُّزات.

دعونا نبدأ بتفحُّص العِلّةِ التي تجعلُ بعض الادّعاءات الباطلة تلتصقُ بالدّماغ. لقد بَيَّنَت العديدُ من الدِّراسات، أنّ الكثيرين منّا نادرًا ما يُعيرون كامل انتباههم وهم يقرأون تصريحاتٍ جديدة. فعلى سبيل المثال، فكِّر مليًّا في السؤال التالي: "كم عدد الحيوانات التي صحبها موسى إلى السَّفينة؟" نوبير شوارز، من جامعة نورث كاليفورنيا، وجد أنّ 12% فقط من التلاميذ تقريبًا قد أجابوا عن السؤال إجابةً صحيحة "والتي هي: صفر". فلقد كانت السفينة طبعًا هي سفينة نوح- وليست سفينة موسى.

حينما يبدو تصريحٌ ما على وجه الخصوص مألوفًا ومنطقيًا ..يعني تسهل مُعالَجته عقليًا.. فإنّنا نميل لئلّا نوجّه تركيزنا إلى التفاصيل، بل نُساير الأمر عِوضًا عن ذلك. ولسوء الحظّ، هناك الكثير من الوسائل البسيطة التي في وسع مُتعهّدي التضليل استخدامها، كي يُطوِّعوا طَرحَهم، حتّى يزدادَ منطق تصريحٍ ما ويزداد شعور الأُلفةِ إزاءه.

مثالٌ آخر: وهو استعمال التشبيهات- والصُّور الخياليّة، كي تُعيننا على تصوُّر التصريحات، والتي يكون القصدُ منها أن يُعالِجها العقل بكونها تعبيراتٍ منطقية- وبالتّالي تبدو لنا حقيقيةً بصورةٍ أكبر. بإمكاننا أن نلحَظَ هذا في القَصص المتعلِّقة بالأمور الطبية: فالنّاسُ أكثرُ مَيلًا إلى تصديق ادّعاءٍ علميٍّ كاذب، إن كان يُصاحبه دليلٌ عقليّ منطقيّ.

 

 

ربّما أكثر وسيلةٍ فعّالةٍ لأجل نشر الادعاءات المضلِّلة هي التكرار الاعتيادي؛ فكلّما كثُرَ سماعُك فكرةً ما، كلّما صِرتَ أكثرَ عُرضةً للتصديق بكونها حقيقة. تكون تلك مشكلةً خطيرة حينما تُقدّمُ طائفةٌ صغيرةٌ ( إنّما من المؤثِّرين على المستوى الصوتي)- لنقُل من مُنكِري التغيُّر المناخى- كمُفوَّضين بالحديث على الراديو وشاشة التلفاز.

بوسعنا النّظر في هذه الوسائل والشُّروع في تأمُّل الكيفية التي يمكن بها هندسة الأخبار المضلّلة، كي تجعل العقل يتغاضى عن التفكير المنطقيّ والتساؤل النَّقدي. لكن، تُرى: هل يُحصِّنُنا مستوى الذكاء وما بلغناه من تعليمٍ ضدّ الادعاءات الكاذبة؟ يُظهر البحثُ الأخير أنّ ذلك يعتمدُ جُزئيًّا على أسلوبك في التفكير.

فبعضُ الناس "بخلاء فِكريًّا"، فعلى سبيل المثال: ربما هم يملكون قدرًا كبيرًا من القدرة العقليّة، تتيحُ لهم حُسن الأداء في الامتحانات، غير أنّهم عادةً ما لا يستخدمونها، مؤْثِرين استخدام البديهة وإحساسهم الدّاخليّ على التفكير التحليليّ التأمُّليّ. يُقاسُ أسلوب التفكير هذا بوسيلةٍ معروفة بـ "اختبار الانعكاس المعرفيّ"، بالاستعانة بأسئلة من نوع: "إن كان يلزم لخمسة ماكيناتٍ، خمسُ دقائق لإنتاج خمس قِطع، فكم يلزمُ مئة ماكينة، لصُنع مئة قطعة؟" الإجابة الصحيحة هي: خمس دقائق، غير أنّ كثيرًا من أصحاب الذّكاء بخلاف هذا يجيبون: مئة دقيقة- وهي الإجابة الأكثر بديهيّةً بالنسبة إليهم.

تكشفُ أبحاثٌ من الولايات المتحدّة، أنّ الأشخاص الذين يسجِّلون نتائج سيّئة في الإجابة عن أسئلةٍ من هذا النوع، يكونون أميلَ أكثر للتأثُّر بالأخبار الكاذبة، نظريّات المؤامرة، والاعتقاد بالأمور الخارقة للطبيعة. أمّا أولئك الذين يُسجِّلون نتائج أفضل، فعلى العكس؛ يكونون أقلّ عُرضةًلخداعهم، لأنّهم يستخدمون ذكاءَهم في تحليل الادعاءات، بدلًا من التعويلِ على إحساسهم الدّاخليّ.

ورغم ذلك، فليست كلُّ الأخبار الكاذبة تُصنعُ بنفس الطريقة على السواء. فبعضُ القصص ربما تكون مضحكةً على نحوٍ يثيرُ الحيرة، كتلك العائلة التي سَمّت وليدتها بريكست-وأيًّا كانت خلفيتُك عن الأمر، فلستَ في حاجةٍ لتصديق الأمر لأنّه يدعمُ تصوُّركَ عن العالم. غير أنّ قصصًا أُخرى ربّما توافق هُويَّتَك الأيدلوجيّة على نحوٍ مُحكم إلى حدٍ بعيد.

وبالنسبة لتلك المزاعم  التي تخاطب الجانب العاطفيّ، ومستوى الذكاء والتعليم، ربّما تجعلكُ تلك الأشياء فِعلًا أكثر عُرضًا لتصديق الأخبار الكاذبة، وذلك بِفعل عمليّة تُسمّى: العقلَنَةُ الـمُعزَّزة. فلتتأمل مليًا نظرية النّشأة التي تقول أنّ باراك أوباما لم يولَد في الولايات المتحدة. لقد فُضِحَ زيفُها مرارًا وتكرارًا، إلّا أنّها صارت مغروسةً بقدرٍ كبير في الوعي الأيديولوجي السياسي لدى الكثير من الناس.

ولم تحُلْ القدرات العقلية العظمى دون التصديق بهذه القصّة، في الواقع، لقد عزّزت بالفعل سرعةَ تصديق ذلك الادعاء. في دراسةٍ مثلًا قامت بها آشلي جاردينا بجامعة دوك بنورث كارولينا.. قامت بإجراء استطلاع لآراء أكثر الجمهوريين البيض المحافظين- وهم من الطائفة التي كانت ترى أنّ الرئيس السّابق شخصًا منفِّرًا إلى أقصى الحدود. وُجِدَ أنّ الآراء التي تعتقدُ بنظرية نشأة أوباما خارج الولايات المتحدة أقوى بين المشاركين الذين كانوا يملكون مستوى مرتفع من المعرفة السياسية.

نمطٌ آخر بالإمكان مُلاحظتُه فيما يخصُّ الاعتقادات، بأنّ أوباما كان مسلمًا، وتلك المزاعم بأنّ إصلاحاته في جانب الرعاية الصحيّة لسوف تُفضي إلى ظهور "هيئة الموت"[2] التي تقرِّر مَن يحيا ومَن يموت. ما يجعل الأمور أكثر سوءًا؛ هو أنّ مزيدًا من المشاركين من المتعلِّمين كذلك، بدا أنّهم على الأرجح أقلَّ ميلًا لتجديد معتقداتهم بعد أن كُشِفَ زَيفُها، وعِوضًا عن ذلك؛ فقد صاروا أكثر يقينًا بأنّهم كانوا على حَقّ. وبشكلٍ ما، فَوّضتهم معرفتهم الكبيرة بأن ينصرِفوا عن المعلومات الجديدة، واستمسكوا بمواقفهم في عناد.

لقد تمحورت الدراسات التي تتعلَّقُ بالعَقلَنةِ المعزَّزة حول الولايات المتحدة إلى حدٍ كبير. ولكن بالنّظر إلى تلك النتائج؛ فإنّني لأُراهن بأنّ تلك العمليات نفسها لتُشكِّلُ استجابات البريطانيين نحو البريكست. فبالنسبة لأي قضيّةٍ تضربُ جوهر كياننا وما نعتقد، فربما يكون نفع قُدراتنا العقلية العظمى تلك حينها هي حماية تلك الهُوية، على حساب الحقيقة.

إنّ ذلك الفهم الجديد لعملية التضليل ينبغي أن يُغيِّر من الطريقة التي نطوف بها بين الأخبار لنكشف زيف الأكاذيب. ففي الماضي، كان الافتراض هو أنّه في وسعك أن تورِدَ الحقائق على الناس، وفي الأخير سوف ينغمسون فيها ويصدّقون.

لكن بدلًا عن ذلك، بعض الخبراء الدّارسين لقضية التضليل يفضِّلون الآن تبنّي شكّلًا من أشكال "التطعيم". واحدٌ من تلك البراهين المفحمة على ذلك  يأتي به جون كوك، من جامعة جورج ماسون، وستيفن لواندوفسكي من جامعة برستول. كانت غايتهما إيجادُ طريقةٍ لأجل صَون النّاس من التضليل المنتشر، فيما يتعلّق بقضية التغيُّر المناخيّ- بما فيها الادعاءات الملفَّقة التي تُظهر المعارضة المنتشرة بين العلماء، فيما يخصُّ الأسباب الحقيقة لظاهرة الاحتباس الحراري.

وعوضًا عن الإمساك بمنابت تلك المزاعم، أظهر كلٌّ من كوك و ليوانوفسكي أولًا للمشاركين تقريرًا عن المحاولات السابقة في صناعة التبغ، التي كانت تهدف لنشر المعلومات المضلّلة، والتي كانت تتضمّنُ كذلك استخدام خبراء زائفين، كي يُشكِّكوا في الأبحاث العلمية التي تربط بين التدخين، وبين سرطان الرئة.

كانت الاسترايجيّةُ ناجعة. حين قرأ المشاركون عن تكتيكات صُنّاع التبغ، صاروا أكثر ميلًا للشكّ في الادّعاءات المتعلّقة  بالتغيُّر المناخي. كان ذلك واقعًا على نحوٍ حاسم، حتى من جانب المشاركين الأكثر يمِينيّةً، الذين كانوا بعفويّةٍ أكثر مَيًلا نحو كفّة إنكار وجود تغيُّرٍ مُناخيّ.

بالنظر إلى الانتشار الظّاهر للتضليل من حولنا، أؤمنُ أنّ وسائل كَشفه، والتفكير النَّقدي مجتمعين، ينبغي أن يُدرَّسوا بجميع المدارس في وقتنا هذا. فبعد كلّ ذلك، ليست الأخبار السياسيةُ الزائفة وحدها هي ما نحتاجُ تفاديه، إنّما كذلك الحِيَل التي تتعلَّقُ بالصِّحة والألاعيب التي تتعلَّق بالمال. فالتأسيسُ الراسخُ للاستدلال عن طريق الشّكّ من شأنه أن يعين الجميع- مهما بلغوا من مقياس الذكاء IQ- كي ينتفعوا من ذكائهم، حتى يصدروا أحكامًا أكثر رُشدا.

 


[1] مصطلح يشير إلى انسحاب المملكة البريطانية من الاتحاد الأوربّي.

[2] هيئة الموت: مصطلَح سياسي صكّته ساره بالين، حاكمة ولاية ألاسكا، عام 2009، ليصف مجموعة الأشخاص الذين يقضون في أمر المرضى، إذا ما كانوا يستحقّون الرعاية الصِّحية أم لا.