مناقشة رواية غرفة 304 من الصفحة الشخصية للكاتب. تصوير: مصطفى الطيب

ما بدى لي في كتاب غرفة 304: أو كيف اختبأت من أبي العزيز 35 عامًا

منشور الاثنين 15 أبريل 2019

من التدوين إلى الرواية

في 20 سبتمبر 2005، كان أول ما كتبه عمرو عزت في مدونته ما بدا لي سؤالًا، تحت عنوان "ثانيًا"، بحث له عن إجابه ترضيه؛ "كيف لي أن أتبين ذلك الخيط الرفيع المسمى أنا ويجمع هؤلاء جميعًا.. كيف لي أن أتبين ما كنته ولكنه لم يكن أنا، وإنما تورطت فيه مثلما يتورط الناس".

ربما وجد عمرو إجابة على سؤاله في كتابه الجديد "غرفة 304 أو كيف اختبأت من أبي العزيز 35 عامًا"، الصادر مؤخرًا عن دار الشروق.

نشر الكتاب لأول مرَّة بالإنجليزية مع مشروع "60 pages" في برلين في فبراير 2018، ويفرد عمرو في صفحاته ما يشبه السيرة الذاتية لأيام ولحظات مهمة من حياته بشكل عام، ومع أبيه بشكل خاص.

لا تخلو الكتب التي تتناول علاقة الأبوة والبنوة من الصعوبة في كتابتها، لكن تجربة عمرو الشخصية وعلاقته مع أبيه، خرجت في هذا الكتاب بسلاسة ومتعة يشعر قارئها أنه جزء من تلك العلاقة، هذا رغم صعوبة التجربة نفسها. فعلاقة الآباء والأبناء لا تقوم على الصدق، لذا كان الاختباء حلًا سهلًا في بعض الأحيان.

يقول عمرو للمنصة إنه ركز في الكتاب على التجارب الإنسانية، خرجت نواة الكتاب الأولى من المدونة (ما بدا لي)، فالمدونة كانت قائمة على سرد التجارب الشخصية، قصص من الحياة اليومية، الوضع السياسي، الصحافة أيضًا، وعن طريق المدونة كتب عمرو عن مشكلة والده حين كان يرأس شركة عمر أفندي، النقطة التي انطلق منها للصحافة بشكل أوسع، الكتاب امتداد لموضوع التدوين، وعمرو بدأ في كتابته تحديدًا سنة 2015.

يعمل عمرو باحثًا وصحفيًا، ويشغل منصب مدير وحدة الحريات الدينية في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، ينوّه إلى أن هذا لم يشكل عائقًا في كتابة (غرفة 304)، بالعكس كان يعطيه مزيدًا من الصخب للكتابة.

"الأصدقاء آباء جدد، الآباء أصدقاء قدامى"

لا يقتصر الكتاب فقط على السيرة الذاتية وإنما يتناول وجهة نظر فلسفية تبناها عمرو في حياته، مثل تحليلات سياسية لفترة ما قبل الثورة وأثنائها في مقابل وجهة النظر المتعارضه لوالده، والتي تبناها كثير من الآباء حيث انطلقت من الرغبة في الشعور بالأمان.

"الأبوة هي الضامن الأساسي لكي يكون الكائن الجديد إنسانا، إن مجموع الآباء ونوازعهم هم من يشكلون ما يتم تسميته بـ المجتمع ".

عمرو عزت من مواليد الثمانينات، المرحلة التي شهدت تغير كبير في كل نواحي الحياة، من هذه الفترة وما بعدها، يبدأ عمرو في سرد أحداث السيرة، من يوم مولده، وعلى عكس الكل، لم يكن هو الذي يبكي، كانت والدته، خوفًا من تلك العلامة الحمراء الموجودة في جبهته، التي سوف تستمر معه طوال حياته.

تطرق عمرو من خلال كتابه إلى المشكلة الأزلية في كل بيت، وجد فيه أب وابن، الصراع بين الأبوة والبنوة كأنه صراع على السلطة، والرسالة التي يود أن يوجهها من سيرته هذه هي هل يمكن أن نقول لآبائنا أنكم لن تفهموا ما نريده بعيدًا عنكم، وعن رضاكم، بنفس المنظور الذي يتبنوه، ولكن معكوسًا، عندما لن تعودوا آباء ستفهموننا؟

"مِش عاوز أبقى زيك"

من الصعب على الآباء أن يتجاوزوا النزعة الإلهية في أن يكون أبنائهم كما يريدون، الألوهية نفسها تجد طريقها المستمر إلى الناس عبر الأبوة. ورغبة الابن في تصور مستقبله بعيدًا عن أبيه، ليس عيبًا، أو معناه الخروج من كنفه، بل هي محاولة لوضع تصور مناسب لحياته القادمة، جملة (مِش عاوز أبقى زيك) لم تكن يومًا تقليلًا من الأبوة، هي طريقة نقول بها أن هناك طريق آخر يجب علينا أن نسلكه، لا أن يُكتب علينا طريق واحد، لا نحيد عنه أبدًا.

"مسافة واسعة بين تنظيراتي التي رسمت صورة للأبوة باعتبارها موقف المحافظة المتخوف من الشغف والحيوية والمغامرة، والموقف الراغب في الاستمرار والأمان بوصفه هدفا، وبين صورة أبي الحيّة النابضة بالحيوية والتجارب والشغف دائم الحضور بالناس والأشياء. هي المسافة بين الفرد باعتباره أبا وبين ذلك الأب نفسه باعتباره فردا".

الأب في الأدب يُطرح كمجاز للسلطة دائمًا، لكن في غرفة 304، تجاوز عمرو هذا الطرح، وقدم الأب من خلال وجهة نظره هو، من خلال حكاياته مع والده، الحكايات الشخصية التي تصف الصراع بين الأجيال المختلفة، التحول من الامتثال التام للأبوة إلى الاختباء منها، يحكي عمرو عن الطبقة متوسطة الحال، الطبقة الوسطى التي هدفها الأول دائمًا من وجهة نظر أبوية أن تأمين الحياة، والبعد بكل قوة عن الشغف والمغامرة، رافضة أن يحيد أبنائها عن طريق آبائهم.

"نظرية أخرى بخصوص ملة هذا البيت كموطن للأبوة، ملة هذا البيت هو الاستمرار لا الانقطاع، لماذا لا يكون أبناؤنا مثلنا؟ لماذا يريدون الذهاب بعيدا؟".

حتى في التدين يكون تدينه وسطي مثلهم، مثل الطبقة التي هو منها، وألا يدرس الفن، ولا يبدي رغبة المشاركة فيه، وإذا أراد الحديث أو الانشغال بالسياسة يكن من خلال الداخل لا الخارج، فالهدف الرئيسي للأبوة هو الاستمرارية، أن يصبح الأبناء مثل آبائهم.

"الآباء المؤمنون يورثون أبنائهم الإيمان"

فكرة أن تجد أب يعطي الحرية الكاملة لأبنائه غير موجودة تمامًا في قاموس الأبوة العربي، وأحيانًا تكون التربية موروثة، مثل الإيمان، لا يجب أن يحيد الابن عن إيمان أبوه الذي وجد نفسه عليه. كذلك فإن رضا الأب على ابنه وأولاده خطوة تسهل عليهم الحياة، وغضبه وعدم رضاه ينزع عنهم سلم ورخاء حياتهم.

ما حدث في الحكاية بين عمرو ووالده، لم يكن استسلامًا ولا تمردًا إنما اختباء ظاهريًا، لعب عمرو عليه طيلة 35 عامًا.

السؤال الذي يسأله عمرو هنا هو؛ هل يجب علينا أن ننقل ما وجدناه في ذاكرة آبائنا إلى من يأتوا بعدنا، هل ينبغي أن تكون حتى الذاكرة موروثة بما فيها من عادات وتقاليد، وأسس محافظة؟

"الآباء هم ضمان الذاكرة الأزلية وحاملوها".

إذا خرجنا عن ذاكرة آبائنا، يعني أن يكون لدينا ذاكرة خاصة بنا، نكونها بما نتعلمه، ونختبره في الحياة، هذا هو الأمر، أن نحيا حياتنا نحن، لا حياة آبائنا.

"بدا لي ذلك جذر الفكرة المحافظة، فكرة السلطة عن نفسها باعتبارها مصدر استمرارية الحياة الإنسانية في اتجاهها الراهن".

"أنا اللي جبتك".. هذه الجملة أول وقعها على الأذن، يوحي لقائلها، شعورًا بالنفوذ والسلطة، تلك الجملة التي يستخدمها الآباء دائمًا في أي نقاش، أو حديث عابر، تأكيدًا على سلطته ونفوذه، وفي نفس الوقت هي تأكيد على أنها لم تكن إلَّا إرادة الأب نفسه، لا الابن، وأن محاولة الرد عليها لمجابهة هذه الحجة أن هذه لم تكن يومًا إرادة الابن، بل كانت إرادة الأب، "أنت المسئول يا أبي عن وجودي هنا".

"ليس لنا ونحن كائنات مولودة للتو ولفترة طويلة بعدها أي خيار"

الصدام أم الاختباء؟

عمرو في تجربته اختار الاختباء 35 عامًا في غرفته، بين مراحل عمرية مختلفة، وتجارب كثيرة، وأنا وغيري فعلنا مثله، سواء من جيله، أو الجيل الذي يليه، لأن المشكلة أزلية، مرحلة الثانوية العامة كانت المرحلة الفعلية التي زاد فيها الاختباء بالغرفة، التي لأول مرَّة صار له فيها غرفة مستقلة، مثل الكثير، الغرفة والاختباء ساعدا عمرو على التركيز في كل ما أصابه من تشوش وقتها.

"تحكي أمي ذات الحجاب الصارم الآن كيف كان صادمًا ومثيرًا أنها كانت من أوائل الفتيات اللاتي ارتدين الجينز في إمبابة، يحكي أبي كيف استطاعت غيرته وصرامته أن تجعلاها تتخلى عن حبها للموضة لتعود إلى أزياء أكثر محافظة".

مرحلة الثانوية العامة، المرحلة الممتلئة بالكثير من التشوش، والتحولات، كانت الفترة التي اتجه فيها عمرو للسلفيين، وهي الفترة التي يؤرخ لها عمرو جيدًا، يشرّحها من كل النواحي، سيطرة السلفيين على مساجد المنطقة بالكامل، الدروس العلنية في المساجد، والانتقال للدروس الخاصة في المنازل.

بدا التغير الواضح على عمرو سواء عن طريق الكتب الموجودة في الغرفة، وزيادة اختباءه أكثر، أو تخيله أنه سوف يقبض عليه، ويصبح لديه ملف في أمن الدولة، وكان نوعًا من الترغيب والترهيب، فهؤلاء في مرحلة الثانوية العامة، لم يختبروا شيئًا محددًا، ولديهم طاقة كبيرة، الجماعة السلفية كانت تعي هذا الأمر جيدًا، وعمرو وجد في ذلك مغامرة لم يكن مسموحًا له خوضها.

ما شد عمرو للسلفية في تلك اللحظة، الوقت الذي كان فيه نهمًا للموسيقى والأدب والفن والرياضة، على حد تعبيره هو "تلك الكذبة الراديكالية التي تريد تشكيل العالم بصرامة".

"ما تبديه السلفية من صلابة وتماسك في مواجهة التدين التقليدي الذي يحبه المجتمع وتحبه السلطات هو تحديدًا ما كان جذابًا".

ذلك ما جذب عمرو، وجذب غيره، وفي البيت تعاملت الأم مع الأمر باستياء شديد، كانت ترمي شرائط شيوخ السلفية هنا وهناك باستياء شديد، أم الأب كان يصب غضبه على السواك أمام فرشاة الأسنان، وبترغيب وترهيب حاول أن يشد عمرو لمنطقة آمنة.

أما أول مواجهة لعمرو مع السلفية كانت من خلال بحثه العميق عن وجود فتاوى لا تحرم الموسيقى، بحث طويل من عشرين صفحة، فتاوى لشيوخ تناساها السلفيين عن عمد، متكئيين على نسيان أصحابها وكتبهم، بعد أن عرض عمرو بحثه اقتنع بعض الشباب برأيه، لكن شيخه قال له

"يعني أول بحث طويل تكتبه من نفسك يكون إثارة للشبهات واتباعا للشهوات! حرام عليك ده أنا لقيت إخوة لحيتهم لحد ركبهم بقوا يسمعوا سميرة سعيد".

حين تفوق عمرو في درسته وحصل على مجموع كبير، طلب من والده أن تكون هديته مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، المنظر الأكبر والأب الروحي للسلفية، الأب تعامل حينها مع الأمر بنوع من التردد، لكن سبقته فرحته بنجاح ابنه.

"السلفية عربة على شريط قطار تخترق الخرائط والتضاريس وتذهب بأولادهم بعيدًا".

درس عمرو الهندسة والفلسفة، وتخصص في الانشاءات الهندسية، وهو تخصص قريب من تخصص والده، خريج الفنون الجميلة الذي يعمل بالديكور، ويمتلك عمله الخاص، حاول عمرو الابتعاد عنه قدر المستطاع، وإن وصل الأمر للهرب منه.

"الطفل الذي كان ينهى عن شيء فينتهي أو يؤمر بشيء فيفعله أصبح يمتثل ظاهرًا أو يختبئ ليلبي أهواءه الخاصة".

من السلفية للإخوان المسلمين، مسار خاضه أغلب جيل الثمانينات، وأوائل التسعينات، لا عمرو عزت فقط، وهو مسار فارق في حياة الكثير، المرحلة التي اختار فيها الاخوان العمل السياسي في الجامعة تحت اسم التيار الإسلامي، التنظيم الوحيد الذي عمل في السياسة، مُجتذبًا عمرو.

"لم ينتشلني من الافتقاد الكامل للشغف إلَّا قراري بالانضمام إلى الإخوان المسلمين".

لم يكن السلفيين بطلابهم في الجامعة يخوضون عملًا سياسيًا، كان عملًا دعويًا يقتصر على انتشال الطلبة من المحرمات الواقعين فيها، طبقًا لوجهة نظرهم، أما الإخوان المسلمين كانوا عكس ذلك تمامًا، يخوضوا العمل الدعوي والسياسي في نفس الوقت، والسياسي أكثر من أي عمل آخر، وهو ما اجتذب عمرو، ما جعله يذهب للإخوان بنفسه ويتعرف عليهم، كانوا مسيطرين على لجان كثيرة في الجامعة ليس فقط في كلية الهندسة، كان عملًا ممنهجًا ومنظمًا، لكل عنصر فيه دور محدود إذا خرج عنه، سوف يقذف به بعيدًا.

كانت اللجنة الإعلامية لأسرة المنارة بكلية الهندسة بمثابة السلم الذي ترقى منه عمرو ليكون عضوًا مرموقًا في اللجنة الإعلامية للتيار الإسلامي بجامعة القاهرة، استقطب الإخوان كل الفئات لا فئة واحدة، فقراء، متوسطي الحال، أغنياء، ولمدة عامين كان كفيلًا لعمرو أن يترشح لرئاسة تحرير أحد مطبوعات الإخوان في الجامعة، الذي لم يستمر إلَّا عدد وحيد وتمت مصادرته من الداخل قبل طباعته، كانت الحجة أن أفكار عمرو تناسب اليسار أكثر.

"كنت قد قطعت شوطًا كبيرًا ناحية اليسار بالفعل، فشكرتهم ووعدتهم أن أذهب للعمل مع اليسار".

اكتشف عمرو أن الأبوة التي هرب منها في غرفته، كانت موجودة داخل الجماعة، من خلال الأسر، حيث يتحول الأمر من زملاء وشركاء نشاط طلابي، إلى أباء، شخص على أعتاب الخمسينات يتولى مجموعة من الشباب تربويًا، وهذا ما لم يرضى به عمرو، وفي رأيي أن سلطة الأبوة داخل الجماعة لا تختلف عن سلطة الأبوة في البيت، لا فرق بين الاثنين في كلتا الحالتين.

لا يقارن عمرو بين الأبوة الموجودة في السلفية والإخوان واليسار، ففي كل مرحلة منهم وجد آباء، السلفية مثلًا كانت الأبوة فيها من خلال الشيخ الذي يتولى تعليمك، على عكس التنظيمات الأخرى، والإخوان كانت الأبوة لديهم موجودة أكثر في الناحية التربوية أثناء حضور الدروس، أما اليسار كذلك كان تدخله الأبوة.

الكتاب كله ليس مجرد مقارنة بين علاقة الأبوة والسلطة، هو يتجاوز هذا الطرح، هو يناقش الفكرة، وما تعرض له من تجارب مختلفة، ويحاول طرح بعض الأسئلة ربما لها إجابة وربما لا.

"في جانب من الأمر يمكنني أن أقول إن علاقتي بأبي  كأب كانت عبارة عن جزع من ميزان القوة المختل بينه وبيني".


اقرأ أيضًا: في صناديق الانتخاب.. "بصيرة" الشعوب تلاحق "عمى" السلطة