مصدر الصورة: Pixabay

عن علاء وعبد الفتاح والقهوة البلدي.. كيف يعمل النظام الوظيفي؟

منشور السبت 6 أبريل 2019

لنبدأ باعتراف كنت أخجل منه حتى وقت ليس ببعيد، دخلت إلى القراءة من أبوابها التي قد يرى البعض أنها سيئة السمعة.. إبراهيم الفقي، وكيف توقظ المارد الذي بداخلك، كن مليونيرا في سبعة حجلات، وامتلك العالم في دقيقة ونصف، تمارين للتركيز، وتدريبات لترى بكل خيال يمر بجانبك زبونا محتملا وجنيهات "مُسَتَّفَةً" في حسابك البنكي.

كنت ضمن جيل اعتبر نفسه المورد الأهم في عملية الإنتاج، وغذت فيه قصص النجاح الملهمة تلك الصورة عن نفسه. رأينا منظمات كبيرة تدخل إلى الحرم الجامعي لتنظم يوما للتوظيف كل عام، وجمعيات ذات أسامٍ أجنبية، شبابا نظيفين يرتدون بدلات سوداء وأحذية لامعة، وشابات طويلات الرمش جارحات تفوح من رقابهن روائح وردية كمستقبلنا المنتظر. 

كنت في عامي الجامعي الأول بكلية الصيدلة، حيث سمعت لأول مرة بوظيفة الممثل الطبي، أو بمعناها الأوضح.. مندوب الأدوية، وقتها كانت شركات عدة تنظيم يوما للتوظيف، بينما وقفت أستمع لأحد هؤلاء الشبان الذي استرسل في حديثه إلي قائلا: الحياة العملية ما بتقفش لحد، لو مكنتش تقدر تسوق نفسك عند الراجل اللي هناك دا في دقيقة واحدة هتموت م الجوع. كان ذلك الشاب موظف موارد بشرية في شركة كبيرة وكان الراجل اللي هناك المدير الإقليمي لنفس الشركة، وكانت تلك شرارة القلق الأولى التي انطوت على السؤال المؤلم وقتها: ماذا أملك لأعرض؟

لكن الإجابة لم تكن صعبة كما تصورت، هناك وصفة جاهزة سيتفق الجميع عليها ضمنا؛ سعادتك أنا حمار شغل وبياع ميعرفش أبوه. 


إقرأ أيضا: ما لا يخبرونك به عن العمل في الـ "ستارت أب"


تلك اللحظة كانت تأسيسية في حياتي، آمنت بعدها بفلسفة النظام الوظيفي، وحشدت كل إمكاناتي المعرفية والمادية في سبيل الدخول إلى سوق العمل من أوسع أبوابه، انتظمت في برامج تدريبية مكثفة لاكتساب مهارات التواصل والتفاوض والبيع، وبرامج تدريب صيفية في شركات محلية ثم متعددة الجنسيات.

توسعت في قراءاتي فيما بعد لتشمل علم النفس، محاولا توظيف كل معلومة باعتبارها حيلة نفسية محتملة، ذاكرت قصص نجاح مادية، وحتى قصص النجاح الدينية راجعتها كمنتم قديم لعمرو خالد وكتابع مخلص تشبع بخطابه عن النهضة والحلم وصناع الحياة، استدعيتها ووظفتها في هدفي الجديد: أن أكون صاحب شركة أدوية كبيرة وأن أتقاعد في الخامسة والثلاثين متفرغا للاستمتاع بأموالي، واتخذت من اللحظة التي وقفت فيها استمع لهذا الشاب لحظة الولادة الجديدة التي سأتحدث عنها في المستقبل لإلهام العالم.

 

مصدر الصورة: pixabay.

خطوة بعد خطوة أنهيت دراستي الجامعية، توظفت بإحدى الشركات، الكل معجبا بذكائي وقدراتي الاستثنائية على الإتيان بالقرش من حنك السبع، كنت أفضل المندوبين تحقيقا للتارجيت بنسب وصلت إلى 120%، لم أجد شيئا ممتعا بحياتي أكثر من لحظة إعلان أرقام المبيعات، وما يصاحبها من نظرات إعجاب لي. 

كيف تعمل الشركة؟

هنا سينتهي الجزء الأول من الصورة، سردية الشاب ذو الثلاث وعشرين عاما، الملتحق حديثا بشركة متعددة الجنسيات. لكن لفهم القصة بشكل أوسع علينا أن نرجع بضع خطوات للخلف لنتأمل الخطاب المُصدَّر للعامل من قبل أصحاب العمل، ولنسأل: هل هو خطاب يعلن ببساطة طلبه لاستئجار جهد العامل؟ أم أنه يتعدى في طلبه لما هو أبعد؟

تألفت الشركة التي عمل بها ذلك الشاب، في البداية من مصانع الدواء، ثم أقسام ما بعد الإنتاج: التسويق وهو القسم المنوط به وضع خطة الشركة الدعائية، ثم قسم المبيعات المتكفل بتنفيذ الخطة على أرض الواقع، وبين القسمين يأتي قسم إدارة الموارد البشرية ليلعب دور المبرمج الذي يهيئ الأفراد لاستيعاب طموحات الشركة.

إدارة الموارد البشرية هي بمثابة وزارة التربية والتعليم بالنسبة للشركة، لذلك إذا كانت هناك أموالا ضخمة يتم وضعها تحت تصرف هذه الإدارة لتدريب وتقييم الموظفين بفعالية وكفاءة، فإن أموالا أضخم تنفق في وضع مناهج تلك الإدارة والتي على أساسها يتشكل خطابها المصدر للعامل. هذا القسم هو تجلي لاختصاص كامل بهذا الصدد اسمه علم النفس الصناعة والتنظيم يبحث فقط في كيفية انسجام بيئة العمل. 

هكذا نبني الانتماء

في ورقة بحثية يقول البروفيسور ديفيد إ.جيست من king's college London  «إن القائمين على إدارة الموارد البشرية يروجون لرؤيتها كنظام، ما يتضمن عدم اكتفاءها بعمليات الاختيار، التدريب، المكافأة، أو تصميم المهام الوظيفية، وإنما من الضروري لها أن ترى مجموع نشاط الموارد البشرية كوحدة متكاملة، تضمن وجود تجانس داخلي، ليُرى المجموع في النهاية أكبر من أجزاءه» 

 في الحقيقة إدارة الموارد البشرية بالشركة المذكورة كانت محترفة، تعلم كيف تجعل الموظف متماه مع  رؤية وأهداف الشركة وخطة المبيعات، كما أنها تجاوزت ذلك لتنشئ علاقات اجتماعية ناجحة بين موظفيها، بمنحهم اشتراكات مخفضة لنفس النادي الاجتماعي، ومصايف بشاليهات الشركة في العين السخنة، برتوكول مع حضانة واحدة لأطفال موظفي وموظفات الشركة.

هكذا تكون الوظيفة في النهاية هي الحياة، وما زاد عليها هي الهوامش، ذلك بخلاف المجتمع الأكبر لمندوبي الأدوية الذي تختلط به رغما عنك في الحياة اليومية للعمل والاجتماعات الدورية للشركة، والذي هو مجتمع لا يخلو من التراتبية، مندوبي الشركات متعددة الجنسية في الطبقة العليا، ثم المحلية السوبر، ثم محلية بير السلم، وكلما تحصلت على هوية أعلى في الترتيب كلما زاد انتماءك للشركة، للوظيفة وللمجتمع البديل.

سنجد من ضمن الكلمات المتداولة على ألسنة وبإحصائيات وتقارير الباحثين في علم النفس التنظيمي كلمة مثل engaged employee وترجمتها الحرفية ( الموظف المرتبط/المخطوب/ المتورط) ونجد إحصائيات وتقارير أخرى تقيس مدى ذلك الارتباط ومدى رضى أصحاب العمل عنه.

محليًا.. الأمر يختلف

خطوة في اتجاه مواز، في شركة أدوية محلية، حيث لا فرق من ناحية البدل السوداء والشعر اللامع والسيارات الجديدة، لكن يتضح الفارق في عملية إدماج الموظف، الشركة المحلية لا توظف عادة قسما للموارد البشرية، وتسند لمديري المبيعات مهمة الاختيار، التدريب والتوظيف، باستخدام الفهلوة وخبرة السوق.

رغم ذلك تطالب الموظف بنفس الاندماج ونفس الاحترافية، وحينما يحيد الموظف عن رؤية الشركة الاستراتيجية.. إذا كان ثمة رؤية أصلا.. فإنها تتعامل بهيستيريا مع موظفيها، مُمَرِّرَة لهم مفهوم الاحتراف الوظيفي كشيء مرتبط بالصوت العالي والعصبية والعقاب غير المدروس على كل صغيرة وكبيرة.

تساؤلات شبه منطقية.. بعد مقدمات طويلة

الآن لنتساءل حول رد فعل الموظف الأول إذا هدد أحد ما وظيفته، ألا يمثل ذلك تهديدا لوجوده؟ لأي مدى قد يؤثر ذلك في قرارات تصويته بأي انتخاب مباشر؟ بالأخص إذا صدر خطاب النظام السياسي نفسه كحام لوظيفته، و أيضا كخصم لكل "أهل الشر" الذين يحيلون بينه وبين تلك الوظيفة؟

على الجانب الآخر كيف تتشكل صورة المنصب القيادي في ذهن الموظف من النوع الثاني؟ الذي لا يبتعد مديره عن صورة الأب العصبي سيئ المزاج؟ هل سيترجم ذلك باختيار سياسي له نفس الصفات؟ ومن ثم، هل للنظام الوظيفي علاقة بانتخاب سياسيي اليمين الشعبوي  بقسوتهم ولامبالاتهم بالآخر؟

بالتأكيد توجد سياقات عدة أدت لشعبية اليمين، تاريخية واجتماعية وسياسية،  لكن دعونا هنا نتحدث عن جانب مُغْفَل بين تلك السياقات، هو النظام الوظيفي، في شكله الاحترافي، وفي احترافيته المتوهَّمة، النظام الذي يضم في ثلاث مستويات.. موظف، مدير وحتى رأس الدولة.

المدير.. السلطة في الاحتراف الكلاسيكي

نحن الآن في ألمانيا عام 1963، تكتب الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت كتابها "أيخمان في القدس، تقرير حول تفاهة الشر" والذي تسجل فيه متابعتها لمحاكمة أدولف إيخمان، أحد كبار المسؤولين عن عمليات إبادة اليهود في الحرب العالمية الثانية، وعلى عكس الانطباع الأولي الذي قد يفترض وجود الشر كصفة أصيلة في مجرم حرب كإيخمان، تتوصل أردنت إلى أن الشر أكثر تفاهة من أن يكون أصيلا في أي إنسان.

بحسب أرندت لم يجد الأطباء أيخمان مختلا، على العكس كان رجلا شديد العادية، ولم يندم على أي من أفعاله، كان لآخر لحظة مخلصا للفكرة النازية، ومواليا لهتلر، ومدعيا أن «التوبة للأطفال الصغار»

أيخمان رأى نفسه موظفا محترفا وبالتالي وجبت عليه طاعة الأوامر، لذلك لم يفهم الغاية من محاسبته على أفعال استدعتها وظيفته.


نحن الآن في مصر أغسطس 2013، من داخل عربة ترحيلات بسجن ابو زعبل، في صيف القاهرة الملتهب، ومن بين 45 محتجزا في مكان سعته القصوى 24 شخصا، يصرخ أحد المحتجزين متوسلا للضباط أن يفتحوا هوايات العربة، حالات اختناق، وفقدان للوعي، صراخ، وضربات مستمرة على الجسم الداخلي للعربة، حتى يمل الضباط الضجيج يلقي على المحتجزين قنبلة غاز لإسكاتهم، فيقتل 37 محتجزا بالاختناق.

بعدها يُحاكم الضباط، يحكم على المتهم الأول بعشر سنوات مع الشغل وعلى الآخرين بسنة مع إيقاف التنفيذ، ثم يُلغى الحكم فيظهر الضباط المتهمين في قاعة المحكمة، وهم يبتسمون، ويهتفون «يحيا العدل»، يصدر الحكم النهائي بتخفيض حكم المتهم الأول بالسجن خمسة سنوات، وباقي المتهمين بسنة مع إيقاف التنفيذ.

إيخمان، أو ضباط عربة الترحيلات لم يكونوا إذن سوى أجزاء من منظومة بيروقراطية، موظفين محترفين استدعت احترافيتهم القيام بأفعال شريرة، غير أنها رُوضَت من فجاجتها لتصبح ضمن النظام البيروقراطي أفعالا شديدة العادية. 

ويبدو من المتكرر وجود أفعال على نحو مشابه في الجيوش والمؤسسات التي تحتكر القوة والسلطة، لكن لأي درجة يظل ذلك بعيدا عن المواطن العادي؟.

الموظف المعاصر والأنا الوظيفية

بعيدا عن الأنظمة السلطوية، وضمن مناخ يدعي حرية الاختيار والانتقال من عمل لآخر، لنلقي نظرة على نموذج للموظف المثالي. 

بحسب فلسفة سوق العمل المعاصر، وفي أقل بيئات العمل سمِّيةً، فإن الموظف المثالي مفترض به أن يكون ذو خبرة في مجال عمله، خلاق، يفكر خارج الصندوق، يحب العمل، منضبط، يتسم بالذكاء الاجتماعي والسمعة الوظيفية الجيدة.

هذا الموظف المثالي هو كأي موظف آخر لديه أيضا اهتمامات وأفكار أخرى تمثل أنوات بديلة غير تلك المطلوبة في العمل، إلا أنه وبمهارة العامل المجتهد، يوظف تلك الاهتمامات والأفكار لتخدم العمل، إن كان يحب القراءة فهو يقرأ في مجال اختصاصه، وإن كان يحب لعب كرة الريشة فسيلعبها مع مديريه محاولا استغلالها لكسب علاقة اجتماعية معهم، هكذا سيقرأ عن أثر الفراشة ثم تفتنه مقاربة الفراشة والريشة فيستخدمها في محاضرته كرائد أعمال لجمهوره في تيد إكس. 

يلعب ذلك الموظف المثالي شبح الأنا العليا بالنسبة للموظف العادي الذي يرى طريق النجاح في إلغاء أي ذوات محتملة أخرى ومراكمتها في ذات واحدة هي ذات الموظف.

هذه الأنا العليا تتطلب من الموظف تكييف نفسه ليلاقي فلسفة سوق العمل الحديثة، فلسفة.. "أنت لا تعمل ولكنك تتنزه في مكان العمل".. "لا تعمل على مكتب، واعمل على بين باج".. "انظر إلى السماء وفكر خارج الصندوق".. هذه الفلسفة تبدو نبيلة تماما، تلعب دور الجدة الطيبة التي تحاول إرضاء الجميع، إرضاء صاحب العمل بتمكينه ليس من جهد الموظف فحسب لكن من عقله وشغفه وأحلامه. وكذلك إرضاء الموظف بإيهامه القدرة على الابداع والإتيان بـ "الديب من ديله". 

كذلك تتطلب الأنا الوظيفية العليا حربا لإثبات الذات، الطاعة والانضباط وتقبل النقد، وكذلك كل ما يأتي تحت وصف «النقد».

المشكلة أن تلك الأشياء غير قابلة للقياس أو الاتفاق عليها ضمن أي نوع من العقود. ذلك بالإضافة لهاجس السمعة الوظيفية، التي لم تعد استمارة تقديم أي شركة تخلو من السؤال عنها في خانة: مديرك السابق/ الحالي ورقم هاتفه. من أجل معرفة تاريخك السابق.

في الهند مثلا يقوم الباحث هارولد أندرو باستقصاء بعنوان« العقد النفسي وعلاقات التوظيف» يعرف فيه العقد النفسي بأنه مجموع العلاقات المشتركة غير المكتوبة بين الموظَّف والموظِّف. يتم البحث في 15 شركة على 202 موظف، وتدرس الأسئلة طبيعة العقود النفسية ومدى إلتزام الموظف تجاه صاحب العمل، والعكس. 

تتباين الأسئلة حول الثقة ودوافع العمل في الشركة، ومدى إشراك العامل في اتخاذ القرار، وتذهب النتائج إلى أن «العقد المبني على العلاقة» هو العقد السائد، والذي يعرفه الباحث أنه ذو متطلبات أداء غير مكتملة أو غامضة مرتبطة بعلاقات توظيف طويلة الأمد قائمة على الثقة والولاء المتبادلين وبشكل ضعيف ترتبط بالأداء العملي.

كما تذهب النتائج أيضا إلى أن التزام الموظف تجاه صاحب العمل أكبر من التزام صاحب العمل تجاه موظفيه، وأن أكثر الموظفين يعتقدون بتباين أقوال وأفعال مديريهم.

ليس غريبا أن يدعو ذلك في النهاية إلى مزيد من الانصياع والنفاق وإلغاء الهوية، ثم في النهاية.. الاغتراب.

القيمة الأكثر احترامًا.. القسوة

في بريطانيا مؤسسة yougov تجري استطلاع رأي حول سؤال: هل تجد وظيفتك ذات قيمة؟

  -نعم.      -لا.        -لا أعلم. 

 ليجيب 37% بلا، و 13% بلا أعلم.

في السويد يتردد كثيرا أن سوق العمل هو سوق شبكة العلاقات الاجتماعية، بمجرد وصولي تخبرني صديقتي السويدية أنني إذا أردت العمل هنا يجب أن أظل لطيفا للغاية، وأن أحترم ما سمته "السذاجة السويدية المتفق عليها عمدا" لأننا "حساسون للغاية" 

هذا اللطف البالغ يتعدى كونه عقدا اجتماعيا على الطيبة والانسانية، حتى يصل إلى كونه عبئا، ومع حقيقة أن السوق مبني على العلاقات، فإن ذلك يستدعي النفاق أحينا كثيرة، وحتى فقدان الإيمان بالجدارة، بغض النظر عن مفهوم الجدارة الإشكالي أصلا.

 

الصورة: pixabay

كنتيجة تتصارع أفكار متناقضة داخل الموظف، بين التطلع للأنا العليا الوظيفية للموظف القوي، الحاسم والناجح، وبين الفقدان التام المعنى، فتتحول الرغبة المتحمسة لإثبات الذات في بداية المشوار الوظيفي، إلى طاقة غضب غير معلن، وحيث أن الاحترافية تأتي في محل الواجب وفقا للخطاب المجتمعي، وفقا للمدرسة والأسرة والأصدقاء، يبقى ذلك الغضب غير واع، منكرا لذاته، بتلك النقطة تُختصر الاحترافية في مدلول جديد هو: احترام القسوة.

 قسوة تنتظر الفرصة المناسبة لتعبر عن نفسها، في كل لحظة يكون فيها الإنسان بموضع قدرة، من ألعاب الفيديو، مرورا بالجنس، وحتى لحظة وقوفه وحده خلف ستارة مع صندوق الاقتراع، الذي سجل في الانتخابات السويدية الأخيرة 18% لصالح حزب له أصول نازية.

الأفضل.. إعلان الوقاحة

 لقد كفر المواطن/ الموظف بالنخب السياسية التي احترفت الكذب السياسي، والتلاعب بمصيره، التي تتفنن في تغليف القبح، مفضِّلا الإعلان عن الوقاحة بدلا من كنسها تحت السجاجيد، كأنها محاولة لرؤية الفساد والاطمئنان بوجوده، حيث وجوده إثباتا للخلل وإنقاذا من رد الخلل إلى الذات، وهذا ما منحه إياه اليمين الشعبوي.

لكن ذلك هو فقط شكل طاقة الغضب في تجليها الأدنى وقاحة، أما بمجتمع آخر فإنها تذهب إلى كسر  الاتفاق الضمني والاحترافية الوهمية، ويتكرس مع الوقت منطق العناد وإثبات القوة.

في مصر على الجانب الآخر من العالم يأتي علاء فتحي، سائق الجرار المتسبب في حادث محطة رمسيس، والمتهم الرئيسي فيها، الذي اعترف في أحد اللقاءات التلفزيونية بتركه محرك الجرار دائرا إثر تصادمه مع جرار آخر بينما نزل السائقان ليتشاجرا. 

 

محطة قطارات رمسيس - صورة أرشيفية. تصوير محمد فرج.

يخرج السيسي كمدير حاسم يتوعد بالفصل للمقصرين. نعم علاء فتحي هو منتهى الإهمال والعبث، لكن لأي مدى يختلف علاء عن السيسي؟ 

عبثية قصة علاء فتحي، قد تصبح الامتداد الطبيعي لعناد الاحتراف المتوهم، الذي ربما تبناه فتحي في مشاجرته مع السائق الآخر، "الغلطان" من وجهة نظره بالضرورة، في محاولته لإثبات قدراته القيادية الممتازة التي لا يمكن أن تكون سببا في حادث ساذج كالاصطدام بجرار آخر! الثقة في القدرة التي لا تختلف أبدا عن ثقة السيسي، والصوت الحازم الذي يرى صوابه دائما، وتلك القدرات المحترفة التي على امتدادها تتحول إلى عبث كامل، إلى.. لا احترافية مطلقة.

الدولة الشركة.. مصر كقهوة بلدي

ماذا عن السيسي نفسه؟ هل تبتعد رؤيته للدولة عن رؤية المدير لشركته؟

بالتمعن قليلا في الدولة المصرية، سنجد أن الجيش يحكم، وكذلك يستحوذ على نسبة كبيرة من قطاع الأعمال، ما يجعل السياسة صدى لطموحاته الاقتصادية، وبالتالي يتعامل مع المواطن كموظف محتمل من الواجب عليه الاندماج مع رؤيته الاقتصادية.

لكن الجيش أيضا يحمل السلاح، ولديه عقيدة قتالية وتحفُّز مستمر لعدو محتمل، ما يستلزم وجود رؤية قيمية أولا لتبرير الخصومة مع هذا العدو المحتمل، وثانيا ليندمج ضمنها الجنود ويباركها المواطن، لهذا السبب ستتواجد هيئة الشئون المعنوية، التي سيتعدى دورها إرساء الرؤية القيمية للجيش بين جنوده لتحاول تكريسها عند المواطنين بأذرعها الطويلة في جهاز الإعلام. ليرى في النهاية المجموع أكبر من أجزاءه، ولتمثل-الشئون المعنوية- المعادل الموضوعي لإدارة الموارد البشرية في الشركة.

هذا ليس بعيدا عن دول ديمقراطية حديثة خاصة مع صعود اليمين الشعبوي في العالم، المدعوم أيضا من شركات ضخمة، غير أن الفارق بين مصر وتلك الدول، هو نفسه الفرق بين الشركة المحلية ومتعددة الجنسيات، تعتمد الأخيرة على بيانات وعلوم، ثم تدعي أن ذلك شيئا ذكيا ومحترفا وتنطلق من هذه النقطة لتأسيس خطابها الترويجي لمفهوم الاحتراف والاندماج الوظيفي.

بينما يأتي ذلك في تجلي شديد الرداءة والبدائية عند النظام المصري، كأنما نشاهد رجلا يدير مقهاه البلدي في بدايات القرن العشرين، يعلق لافتة "الرزق على الله" فوق مدخل المقهى، مؤمنا إيمانا كاملا بقدرته على النجاح، كأنه يستورد نسخة مضروبة، تدعي الاحتراف دون أن تؤسس له، متجاهلة دراسات جدوى ومتجاهلة حتى وجود نظرية سياسية واقتصادية متماسكة يتم برمجة المواطن حسبها. 

من ثم، إذا كانت هناك سمات لهذه الشركة/الدولة ستكون: التعصب للرؤية القيمية، غياب الرؤية العلمية والتخطيط الاستراتيجي، وبالتالي اختلال أوجه الصرف.

هذه السمات ستتجلى بأكثر من موضع في خطابات الرئيس السيسي، مثلا سيتفاخر الرجل بإهماله دراسات الجدوى، وفي موضع آخر لن يخجل من إعلان تفضيله إدخار الأموال في البنك في انتظار الفائدة البنكية بدلا من انفاقها على تطوير السكة الحديدية، التصريح الذي لا يعكس تهوانا في أرواح البشر فحسب لكنه يتناقض كذلك بشكل فاجع مع الأموال الموضوعة في مشاريع هندسية عملاقة هو وحده يرى أولويتها، الرؤية التي تمخض عنها في النهاية حادثة رمسيس المؤسفة.

في تصريح آخر -تكرر بأكثر من مناسبة- يرد الرجل أسباب إنشاء المشروع المسمى "قناة السويس الجديدة" إلى محاولته بث الأمل في الناس وإبعد شبح الإحباط عنهم، المشروع الذي أسفر عن نقص الاحتياطي الدولاري فأدخل الناس في إحباط أسوأ. ربما الهوية التي يتخيلها السيسي عن نفسه، هي هوية مدير الدولة المتحكم بجميع موظفيها المحدد لرؤيتها والمسؤول عن تنفيذها وحده، بحيث يكون الأفراد في شركته مجرد عناصر يستخدمها هو لتنفيذ تلك الرؤية، وليس هوية رئيس الدولة كمنصب تمثيلي لمؤسسات عدة، من المفترض أن يلعب فقط دور ضابط إيقاع تلك المؤسسات. 

 الرؤية الإدارية إذن بالنسبة للسيسي لا تختلف عن فطرة الرجل الطيب، الحامل لواء قيم أخلاقية سامية، والمعتمد على الله في رزق شركته، صانع الإنجاز بالطبيعة، كما يخرج الإنسان العادي عرقه بالطبيعة، مخرج النمو الاقتصادي بالضرورة، كما تخرج النحلة عسلها بالضرورة، لا يتذاكى، يتخذ طولا متوسطا إمعانا في البساطة، ويترك الخلق للخالق.

أما الرؤية القيمية ستتجلى في مطالباته المستمرة للمصرين بالزهد والتحمل والجلد والبقاء على قلب رجل واحد، سيعتبر كل المخالفين في رؤيتهم القيمية جنودا غير منضبطين، جواسيس، أو أعداءً، وبالنسبة لرجل جيش فالتعامل مع هؤلاء يكون بالحبس أو القتل،  في نمط وحيد من الإنجاز هو: إثبات التفوق الفيزيائي على العدو.

تلك الرؤية كان آخر تجلياتها تصريحه ضمن القمة العربية الأوربية في حديثه عن عقوبة الإعدام عندما قال للأوربيين"لنا إنسانيتنا ولكم إنسانيتكم"، وكأن إنسانية السيسي لا تفهم العقاب كغرض تقويمي وإنما انتقامي بالضرورة.

هاتان الفطرتان الإدارية والعسكرية هما كل ما يمتلك السيسي في حكمه للدولة، إضافة لمزاجه المحافظ، وغياب أي نظرية سياسية أو اقتصادية في برنامجه، ما يجعله يمينا شعبويا تقليديا، بل وفي شكله الأكثر تجريدا، ما يميزه عن حكام مثل كيم جونج أو بشار الأسد مثلا اللذان -رغم أنظمتهما الأكثر تسلطا وعنفا- يستندان في النهاية لأيدولوجيا ما تحمل تصورا عن الدولة.

ما يميزه كذلك عن الكثير من الدول التي صعد فيها اليمين الشعبوي، حيث تلك الدول تحتوي على الحد الأدنى من المؤسسات التي لا تجعل الرئيس محتكرا لقراراتها. 

بالتالي إذا كان لابد من أيقونة للعقد المشرف على الانتهاء، تعبر عن جوهره، وتُقطِّر روحه، تلخص مزاجه القومي الشعبوي، ونظامه الوظيفي القاس والمهترئ سيكون وجه السيسي هو الأحق بالصدارة.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.