تركة هيكل الصحفية.. سُنَنْ تستحق المساءلة

منشور الخميس 18 فبراير 2016

عبر تلك المسيرة؛برز أسئلة مؤجلة حول الحدود بين عنصري الدور الذي ابتدعه هيكل بعد 1952: "الصحفي- السياسي".

شيعت عصر الأربعاء 17 فبراير/شباط  2016 جنازة (...) محمد حسنين هيكل من مسجد الإمام الحسين بالقاهرة، وسط لفيف من تلاميذه ومحبيه وعدد من كبار رجال الدولة، بعدما نعاه الرئيس عبدالفتاح السيسي في بيان صدر عن رئاسة الجمهورية.

النقاط التي تسبق اسم هيكل في الفقرة السابقة متروكة عن عمد، أو عن حيرة، فهيكل الذي صنع اسمه مراسلاً حربيًا في تغطيته لحرب فلسطين، من داخل صفوف الكتائب المصرية التي أرسلها ملك مصر الأخير فاروق، وقبلها تغطيته لأحداث الحرب العالمية الثانية لصالح صحيفة إيجيبشيان جازيت الصادرة بالإنجليزية؛ عاد من فلسطين صديقًا لبعض الضباط الذين قادوا لاحقًا حركة يوليو 1952، ليبدأ في لعب دور غيّر مسار القيادة التحريرية للصحف المصرية، بعدما دشن هيكل -المخبر الصحفي الماهر-؛ صنعة "الصحفي السياسي" الذي ينحِّي حياده المهني جانبًا لصالح ما يراه هو في صالح الوطن.      

كتب عديدون عن دور هيكل في السياسة، اختلف معه الكثيرون ووافقه من هم أكثر، لكن رافضيه ومحبيه اتفقوا على كونه أسطورة صحفية: "الأستاذ" بألف لام التعريف كما يلقبونه. ولكن عبر تلك المسيرة الصحفية التي أُضفِي عليها الطابع الأسطوري تبرز أسئلة مؤجلة حول الحدود بين عنصري الدور الذي ابتدعه هيكل بعد 1952: "الصحفي- السياسي".

قبل ثورة 1952 كان معظم الصحفيين كُتّابًا. لا توجد دراسة منشورة ذات محتوى مفتوح - للأسف- يمكن الاستناد إليها، للتعرف على حجم المحتوى الإخباري مقابل المحتوى المعتمد على الرأي والتوجيه السياسي في الصحف المصرية قبل الثورة. لكن كبار صناع الصحف أمثال محمد التابعي وإحسان عبدالقدوس وأحمد أبو الفتوح وأحمد حلمي "مفجر قضية دنشواي"، كانوا جميعهم من كتاب المقال، ممن اصطبغت المعلومات التي يقدمونها برؤاهم السياسية وانحيازاتهم الشخصية. إلى أن جاء مصطفى وعلي أمين ليؤسسا منهجًا مهمًا في صحيفتهما "الأخبار" التي أعطت الأولوية للخبر والمعلومة وأعلتهما على الرأي، كما يظهر في اسمها المعبر عن منهجها، حتى وإن استمر مؤسساها نفسيهما في كتابة المقالات، لكنها لم تخل من فصل واضح في كثير من الأحيان بين الخبر والمقال.

لم يخالف هيكل هذا المنهج، واستمر مخبرًا صحفيًا وكاتبًا للمقال بعد انتقاله لرئاسة تحرير الأهرام*، وقتها لم يكن سوى هيكل قادرًا على الوصول لدقائق الأخبار بحكم صلته الشخصية برئيس الدولة، وعمله اللصيق معه في مؤسسة الرئاسة مستشارًا وكاتبًا لخطابات الزعيم. ولكن عوضًا عن الإخلاص للقواعد المهنية لعرض تلك الأخبار وكتابتها، والتي يأتي على رأسها أهمية تجريد الخبر من الرأي؛ ظل هيكل مخلصًا للمدرسة القديمة التي تجعل الخبر يأتي في سياق الرأي، فيتلون به ويفقد تجرده المعلوماتي، لتصير ممارسة الصحافة على يد أهم مخبر صحفي عرفه العالم العربي؛ مجرد دعاية لرئيس، أو دعاية ضده، وهي الخانة التي انتقل إليها هيكل على استحياء في عهد السادات مما أطاح به من مناصبه التنفيذية، دون أن يفقد نفوذه كمخبر قادر على الوصول لدقائق ما يحيط بصناعة القرار السياسي.  

                                        

هيكل مع عبد الناصر خلال زيارة الأخير لمؤسسة الأهرام 

حدود العلاقة مع المصدر

مع انتقاله لرئاسة تحرير آخر ساعة بعد عودته من فلسطين 1948، كانت مقالات هيكل تُبشِّر بتغير قادم، صار هيكل نفسه بعدها بعدة أشهر من أهم أعمدة ذاك التغيير وذراعه الدعائية الأولى؛ مما أهله لأن يكتب في الذكرى الخمسين لحركة الجيش سلسلة من المقالات، نشرتها مجلة وجهات نظر بين عامي 2002 و2003، فيها ما يشير إلى كونه "عرَّاب الثورة" وحامل الوحي إلى ضباطها. وهو ما أثار حفيظة اللواء جمال حماد، الذي ينافس هيكل على لقب "مؤرخ الثورة"، ليكتب سلسلة مقالات ينفي فيها ما رآه ادعاءات غير دقيقة من هيكل حول دوره في "الثورة المباركة".

لكن حماد وغيره لم يستطيعوا نفي الدور الذي لعبه هيكل في تقديم الدعم الأكبر والأهم لشعبية عبدالناصر، عبر صياغة خطاباته وصورته لدى الناس. صداقة هيكل وعبدالناصر؛ جعلته يلعب دورًا وضع من خلاله الصحافة في خدمة الزعيم. ظهر هذا بجلاء من خلال توجهات الأهرام، الصحيفة التي رأس هيكل تحريرها ومجلس إدارتها حتى أربع سنوات تلت وفاة عبدالناصر، واكتسبت على يديه مكانة لا تزال تعتاش منها كأهم مؤسسة صحفية في مصر، كانت واضحة عبر مقالاته وعبر متابعاتها الصحفية.

في عصر كان فيه للرقيب مكتب داخل الصحيفة، لم يكن التزام الأهرام بتوجهات الحاكم أمرًا استثنائيًا، لكن الإخلاص الذي مورس به هذا الدور لدرجة التعتيم الكامل على ما سجله المؤرخون والباحثون من بطش بالمعارضة. يطرح سؤالاً هامًا: لصالح من يعمل الصحفي؟ لصالح صانع القرار أم لصالح القارئ؟

                                           

هيكل وعبد الناصر - صداقة شخصية قادت آلة دعائية 

من المفهوم أن هناك علاقة تنشأ بين المصدر والمخبر الصحفي مع مرور الزمن، وتؤثر هذه العلاقة في الغالب على حياد الصحفي، وتختلف درجة التأثير من صحفي لآخر، لكن هيكل قدم من خلال علاقته بعبد الناصر نموذجًا كان فريدًا، ثم صار معتادًا للعلاقة بين الصحفي ومصدره، وصلت فيه العلاقة لدرجة التماهي مع المصدر والتحول إلى بوق دعائي لبث الأفكار والرؤى التي يحملها صانع القرار، ليصير دور الصحفي دعائيًا خالصًا؛ ليس فقط من خلال ترويج رؤى المصدر وإقناع القارئ بها، ولكن في مساعدة المصدر على صياغة خطاب يضمن الاستحواذ على ولاء الجماهير؛ عوضًا عن أن يصير الصحفي عين القارئ على مصدره، وأداة من أدوات الرقابة الشعبية على صناع القرار.

وربما كان أشهر مثال على ذلك صياغة هيكل لخطاب التنحي الذي قاد الجماهير إلى الشارع لتطالب باستمرار الحاكم الذي هُزِم لتوه عسكريًا، وابتدع هيكل لفظة "نكسة" التي ستظل محفورة باسمه في دراسات الدعاية السياسية، ويدرسها طلاب كليات وأقسام الإعلام كنموذج على الدعاية الرمادية المرفوضة أخلاقيًا. تلك الدعاية التي أسسها جوبلز وزير دعاية هتلر، والتقطها هيكل ليسخرها في خدمة صديقه حاكم البلاد.

https://www.youtube.com/embed/xBxZ7h6u7Dk

ما استنه هيكل من سنة صحفية وقتها، صار الآن أزمة مهنية مستمرة، حيث يحرم كثير من تلاميذ الأستاذ قارئهم من حقه في المعرفة، مقابل الترويج لما يرونه في صالح الوطن و"الأمن القومي" من وجهة نظرهم الخاصة. بدأ هذا في الدعاية التي قادها هيكل ووزارة الإرشاد المسؤولة عن الإعلام في الترويج لانتصارات مزيفة في حرب اليمن، ثم للتطور العسكري الوهمي الذي أنتج صواريخ القاهر والظافر التي تتخطى الجاذبية الأرضية. وظل نموذجًا متبعًا في الترويج لمشروعات أهدرت فيها مليارات الدولارات من احتياطي البلاد كمشروع توشكى، وترعة السلام ومشروعات أخرى أحدث، كان فيها الإعلام وعلى رأسه من يصفون أنفسهم بتلاميذ الأستاذ هم محركو عملية الترويج لأوهام عديدة صدقها الناس وهاجموا من يفندها.

                               

ووصل الأمر في أحد مستوياته إلى السير على خطى الأستاذ، والترويج لاسم بعينه باعتباره قادر على إنقاذ الدولة من "عثراتها" السياسية والاقتصادية باعتباره "مرشح الضرورة"، والقيام بالتعتيم على أخبار ومعلومات قد تهدم تلك الرؤية الدعائية التي يروجونها لتصورهم أن فيها صالح البلاد. وعلى مستوى آخر صار تماهي الصحفيين مع المصادر الحكومية صانعة القرار؛ يروج لسياسات اقتصادية وإدارية، ويصل إلى حد التعتيم على ما يكتشفه الصحفي بحكم اطلاعه من فساد أو سوء إدارة.  

الصحفي الموظف

 من بين السنن التي أضفى عليها هيكل مصداقية وقبولاً في الصحافة المصرية؛ سنة أن يكون الصحفي موظفًا لدى مصدره. ففي إبريل/ نيسان 1970، وقف الكاتب الصحفي ورئيس تحرير الأهرام محمد حسنين هيكل أمام رئيس الجمهورية جمال عبد الناصر ليحلف اليمين الدستورية وزيرا للإرشاد القومي، دون أن يتقدم بالاستقالة من منصبه كرئيس تحرير لصحيفة الأهرام، ليستمر في رئاسة تحريرها ومجلس إدارتها حتى وقع الخلاف بينه وبين السادات في عام 1974.

رفض هيكل تقاضي راتبه كوزير للإرشاد خلال فترة جمعه بين المنصبين، لكن يبقى أن الاستحواذ على منصب حكومي تنفيذي في مصر؛ يأتي في طياته بالعديد من الامتيازات، والأهم أنه يطرح سؤالاً آخر: كيف يكون الصحفي عينًا للقارئ على السلطة التنفيذية؛ إن كان الصحفي نفسه جزء من تكوينها ومشارك في صنع القرارات التي تلزمه مهنته بأن يراقبها ويشرح حقيقتها لقارئه؟

تدور نقاشات ضيقة في الوسط الصحفي حول مدى اتساق عمل الصحفيين كمستشارين لدى مصادرهم مع مواثيق الشرف والقواعد المهنية الصحفية، وتكون الحجة في الرد غالبًا: "الأستاذ فعلها، لقد كان هيكل مستشارًا لعبد الناصر ووزيرًا في حكومته ولم يؤثر هذا على مصداقيته المهنية".

لا يسائل الصحفيون عادة مصداقية هيكل المهنية خاصة في علاقته بعبد الناصر، وهندسته للدعاية المرتبطة بالزعيم، ولا يرى الكثير منهم غضاضة في السير على خطاه بالترويج لمصادرهم، والأهم أنهم لا يستشعرون حرجًا من تقاضي الرواتب والمكافآت كمستشارين إعلاميين من مصادر تكلفهم صحفهم بمتابعتها، وتقديم التغطيات الإخبارية للقراء حولها. ويبقى سؤال: كيف يمارس الصحفي عمله كعين على صانع القرار إذا كان يدين لهذا المصدر بلقمة عيشه أو مصدر نفوذه؟

احتكار المعلومات

من بين السنن التي استنها هيكل في التحرير الصحفي، سنة الاحتفاظ بالمعلومات واحتكارها دون إتاحتها كاملة، تحت دعوى الحماية وحفظ الوثائق. أسطورة هيكل الصحفية اعتمدت دومًا على قدرته الفريدة في الحصول على المعلومات، بحكم صلاته التي حرص على صياغتها مع الحكام المصريين وقادة حكومات ودول عربية وغربية؛ كان لدى هيكل دومًا فرصة الوصول لما يجري في أروقة الحكم وصنع السياسات في مصر والعالم، لكن هيكل كان يتخير دومًا ما ينشره من معلومات، وكثيرًا ما اتسمت كتاباته الصحفية ولقاءاته الإعلامية التي كانت تجري معه باعتباره المطلع على ما خفي من دقائق الأمور؛ بالميل للتلميح دون التصريح.

                                          

هيكل مع الرئيس العراقي الأسبق عبدالسلام عارف

يعرف كل صحفي ومتابع للشأن العام أن هناك وثائق ما، استحوذ عليها الصحفي الراحل بحكم علاقاته ومناصبه الحكومية والصحفية منذ كان رئيسا لتحرير آخر ساعة وأخبار اليوم والأهرام، مرورًا بتوليه منصب وزير الإرشاد في عهد جمال عبدالناصر، حين جمع بين رئاسة تحرير صحيفة الأهرام ومنصبه التنفيذي كوزير في الحكومة.

هذه الوثائق التي كان هيكل نفسه يكثر الحديث عنها في لقاءاته الإعلامية وبرنامجه الذي قدمه عبر فضائية الجزيرة بدءًا من عام 2003، لم تنشر بكاملها. وفي عام 2013، عندما أشعل مجهولون قيل أنهم ينتمون لجماعة الإخوان المسلمين فيلا هيكل في منطقة برقاش بالجيزة، قال تقرير النيابة العامة أن هناك 18 ألف مخطوطة من الوثائق النادرة راحت ضحية هذا الحريق.

ورغم المطالبات العديدة بتسليم نسخة على الأقل من تلك الوثائق لدار الكتب والوثائق القومية، استمر الكاتب في الرفض التام للتنازل عن ثروته من الوثائق، كما رفض الإفراج عنها للباحثين أو للصحف، بدعوى ان بعضها يمس الأمن القومي.

من الثابت صحفيًا أن المعلومات حق للقارئ، وأن الصحفي عليه أن ينشر ما يصل إليه من معلومات موثقة إلا إذا اتخذ مجلس تحرير صحيفته قرارًا بعدم النشر، لحماية فئة مستضعفة أو حماية مصدر أو الحفاظ على السلم العام. إلا أن هيكل وضع سنة جديدة حين حوّل جمع الوثائق والاحتفاظ بها دون إتاحتها إلى ما يشبه الهواية الشخصية. صار بعدها يتخير ما ينشره وفقًا لقواعد وضعها هو بنفسه لنفسه دون أن يكون حق القارئ في المعرفة معيارًا.

طول فترة تقديم برنامجه على شاشة الجزيرة؛ تحدث هيكل طويلاً عن تلك الوثائق دون أن يعرض منها إلا النذر اليسير، بما لا يثير حفيظة الأنظمة العربية بشكل لا يمكن إصلاحه. كان اسم هيكل على مر العقود سندًا له ليقول معلومات يدعي أنها تستند إلى وثائق لم يرها أحد. وربما كان أبرز مثال على ذلك ما قاله في أعقاب ثورة 25 يناير أن مبارك يمتلك أرصدة بنكية تصل إلى 70 مليار دولار. وبعدما نقلت عنه الصحف إلى قرائها ما ظنته معلومات مؤكدة، عرفها الأستاذ الراحل عبر علاقاته ومعارفه التي تؤهله للوصول إلى مثل تلك المعلومات؛ استدعته النيابة العامة لتسأله عن الوثائق التي تؤكد تلك المعلومات، ليتراجع عنها هيكل ويقول أنه قد "سمع" عن هذه الثروة. مما يدعو للتساؤل حول ما يمكن الاستناد إليه في شهادات هيكل التاريخية على العصور التي عايشها.  

بعد هذا الاستعراض أعود للتفكير مجددًا في تلك النقاط التي تركتها قبل اسم هيكل في أولى فقرات هذا النص، بحثًا عما يمكن أن أملأ به فراغها؛ لم أوفَّق فذهبت لتصفح حسابي على فيسبوك، ووجدت الأفكار التي كانت تدور برأسي محل جدل بين زملاء المهنة، يناطحون بعضهم البعض عما إذا كان من يشكك في كون هيكل "صحفيًا أسطوريًا" هو في حقيقة الأمر "حمار" لا يفقه شيئًا في المهنة وعناصرها، أم أنه ذو رؤية مهنية مختلفة. بينما طرح زميل سؤال ربما يلخص كل ما قلته في هذا النص الطويل: هل القدرة على الحصول على المعلومات من المصدر هي ما تجعل أحد ممارسي هذه المهنة "صحفيًا"؛ أم أن ما يصنع الصحفي فعلاً هو استخدامه لهذه المعلومات في صالح قارئه؟ إن كنت لم تجد إجابة، يمكنك أن تعود إلى بداية هذه الصفحة لنفكر معًا في إجابة عن هذا السؤال. 


* تعتذر كاتبة المقال عن إيراد معلومة غير دقيقة في هذا الموضع حول انتقال الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل لرئاسة تحرير الأهرام بقرار من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. وهذه المعلومة تخالف الدقة لكون الصحف لم تخضع للتأميم والسيطرة الفعلية قانونًا لمؤسسات الدولة قبل يوم الرابع والعشرين من مايو عام 1960. 

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.