من تدريبات النجم الساطع 2017. الصورة: dividshub.net

ما وراء القصة| مصاعب تغطية سيناء في ظل قانون الإرهاب

منشور الخميس 14 فبراير 2019

لنُصيغ الأمر بهذه الطريقة:

أنت صحفيّ، انت تعلم أن ثمّة ما يحدث في سيناء، وأن هذا الذي يحدث يستحق التناول الإعلامي، ليس لكونه مثيرًا للاهتمام فقط، ولكنك تحمل على عاتقك مسؤولية اجتماعية تجاه المتلقّي، أن تحيطه علمًا بما يجري، لكنك ممنوع من التغطية على الأرض، ولا تستطيع -إذا أردت التعامل مع الموضوع- سوى نشر بيانات المتحدّث العسكري، فماذا تفعل؟

استخدم بيانات المتحدّث العسكري لتحاول رؤية ما يحدث في سيناء.

هذا ما فكّرنا فيه في المنصّة، عند مناقشة كيفيّة التعامل الأمثل، على المستويين القانوني والمهني، مع مناسبة مرور سنة واحدة على بدء العملية الشاملة سيناء 2018، والتي اقتصرت تغطية الصحف لها على بيانات المتحدّث العسكري العقيد تامر الرفاعي، والتي عادة ما تتاح على صفحته الرسمية على فيسبوك كفيديو أو بوست مطوّل مليء بالأرقام والأخبار. كانت فكرتنا قائمة على تجميع وفرز هذه البيانات ومحاولة تحليلها سعيًا إلى معرفة ما هو أكثر مما لدينا الآن.

كثير منّا، الصحفيين، نجلس على مكاتبنا في القاهرة، المحافظة الأكثر حظًا في التغطية الإعلامية، حتى هؤلاء الذين لم يولدوا في العاصمة، تلك أمور تفرضها مركزية أغلب المؤسسات الصحفيّة المصرية في تغطيتها، الكبير منها والصّغير، وميزانيّات أغلبها التي لا تكفي إنشاء مكاتب في المحافظات الساخنة بالأحداث على الأقل وإيفاد عناصر مدرّبة للعمل بها ما يجعلهم يعتمدون في النهاية على مراسل واحد أو عدة مراسلين، لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة في أفضل تقدير، للمحافظة الواحدة، يكون هذا الفريق عادة مثقلًا بمهام التغطيات الخبرية للأحداث الأساسية في محافظته، وهو ما ينتج في النهاية قطعًا أقل تنتمي لصحافة العمق، بتقاريرها وتحقيقاتها وقصصها المصوّرة.

 

الحدود المصرية الإسرائيليّة

هذا الأمر يجعل على عاتق الصحفيين الجالسين على مكاتبهم في القاهرة، مهمّة التدقيق والبحث في أخبار المحافظات عن قصص تستحق عناء السفر إليها لتغطيتها، وخوض غمار ما يرتبط بذلك من محاولات إقناع المحرر المسؤول بالقصّة ومفاوضات ميزانية السفر والتنقّل وضغط العمل على قصّة في وقت عادة ما يكون أقل مما تحتاج القصّة لتظهر بشكل جيّد يتناسب ومتطلبات النشر الإلكتروني إضافة إلى المتطلبات الصحفيّة من تدقيق وتحقّق وإجابة على الأسئلة الأساسية.

في سيناء، حتى هذه المحاولات تكاد تكون معدومة في ظل صعوبات الخروج والدخّول إلى شبه الجزيرة السيناويّة، ما يعني صعوبة التغطية من الأرض، وقصر التغطية على بيانات المتحدّث العسكري بحكم قانون مكافحة الإرهاب الذي يحظر على المؤسسات الإعلامية نقل أية أخبار أو بيانات تخالف البيانات الصادرة عن وزارة الدّفاع بحكم المادة 36 منه، ما يجعل سيناء بحكم القانون، خارج التغطية الإعلامية التي لا تعتمد فقط على البيانات.

وحتى قبل صدور القانون في أغسطس/آب 2015، كانت التغطية الصحفيّة عملاً محفوفًا بالمخاطر، أتذكر وقت عملي على تقرير لأحد المواقع الإلكترونية في 2014 يحصد أخبار أول سنوات سيناء من بعد الثلاثين من يونيو/حزيران 2013، وهي السنة التي شهدت نشاطًا للعمليات المسلّحة على النقاط الأمنية المنتشر في سيناء، قال لي أحد المراسلين الصحفيين المقيمين هناك " نشر معلومات تتعارض مع رواية الجيش قد يودي بي إلى الاعتقال، ونشر معلومات تتعارض وروايات الإرهابيين قد تجعل اسمي على قوائمهم للمطلوبين".

هذا المراسل دلل على حديثه باعتقال الصحفي السيناوي أحمد أبو دراع في سبتمبر/ أيلول 2013 لانتشار صور له مع أشخاص وصفوا بأنهم "إرهابيّون" في شمال سيناء، على الرغم من أن تواصل الصحفيين مع مصادر، منهم من ينتمون إلى جماعات مسلّحة، هو أمر متعارف عليه في التغطيات الصحفية لهكذا أحداث. ماتزال التغطية في هذه المنطقة محفوفة بالمخاطر، وهو ما يجعل مراسلنا في سيناء يكتب باسم مستعار منذ أن بدأ العمل معنا في مارس/آذار 2018 وحتى اللحظة، وتقطّع قصص التي تردنا منه، في ظل ظروف الانترنت وصعوبة الوصول إلى المصادر بحريّة.

 

من تدريب النجم الساطع 2017

لهذا، كانت الفكّرة الأفضل، والأكثر أمانًا بالنسبة لنا كفريق عمل هو تناول البيانات الإعلامية وتحليل ما تحمله وما يمكن أن تخبرنا به المعلومات المتوفّرة من خلالها عن سيناء وعن العملية الشاملة التي تعتبر سادس عملية عسكرية يشنّها الجيش على التنظيمات المسلّحة في سيناء، خاصة ولاية سيناء الذي أعلن ولاءه لتنظيم الدولة الإسلامية.

هذه العملية هي الأكبر من حيث المناطق المستهدفة، والأطول من حيث الوقت، خاصة وأننا لا نفضّل أن ينجز فريق العمل موضوعات صحفيّة تنتمي لصحافة العمق من من خلال الهاتف، دون عمل ميداني، لمشاكل تتعلّق بتدقيق المعلومات التي سنجمعها لإنجاز القصص في وقت تعتبر فيه محاولة التغطية الميدانية من مناطق الحروب كاليمن وسوريا أسهل من محاولة التغطية في سيناء.

رافق العمل صعوبات جمّة تتعلق، بداية، بالتعامل مع المعلومات نفسها التي ترد في بيانات تحدّثنا عن هيكلها وشكل المعلومات التي تقدّمها بشكل مفصل في إحدى قصص الملف، وأيضًا فصّلنا كيفية محاولة استخلاص البيانات والمعلومات منها، والتي تأتي في الأغلب على شكل أرقام دون توضيح للسياق الجغرافي أو الزمني، مع الوضع في الاعتبار أن البيانات في بعض الأحيان تستبدل الرقم بلفظة "عدد"، وهو ما يجعل مهمّة التعامل معها صعبّة، ومهمة تحليلها بمساعدة متخصصي في الشأن العسكري أصعب.

"لا توجد معلومات، نحن نعتمد على الاستنتاجات والاستنباط والملاحظة"، جملة مهمة يذكرها مصدر تحدّث لـ المنصّة رفض ذكر اسمه، خاصة عن إتاحة المعلومات بخصوص هذه العملية والعمليات العسكرية التي سبقتها، وهو ما يجعل مهمّة العمل على ملف سيناء صعبًا ليس فقط في استخلاص المعلومات ولكن أيضًا في إيجاد الشخص المناسب لتحليلها والإجابة على الأسئلة التي تطرحها.

 

من تدريب النجم الساطع 2017

ففي هكذا قصص نحن نحتاج معلومة غير متحيّزة ومبنية على ملاحظات، على الأقل، موضوعية، في ظل اقتصار جانب من التغطية الإعلامية، أغلبه يأتي من مصر، على البيانات، واستحواذ جانب آخر على التحليل مستخدمًا معلومات وأخبارٍ حقيقية للقفز على نتائج قد تبدو منطقية، لكن تفتقر إلى كثير من الموضوعية والتجرّد.

خلال العمل على الملف، فتحت المعلومات أسئلة كثيرة، ارتبط بعضها بما ذكرته البيانات، وبعضها الآخر بما لم تذكره، لكن ندرة المعلومات المتاحة وكثرة ما فيها من غموض، جعل من التحقّق والتحليل والتساؤل أمورًا صعبةً، خاصة وأن المؤسسة العسكرية هنا تكتفي بلعب دور الناشر ولا تُظهر نفسها أبدًا في موضع المُساءل، وعدم توفّر قنوات تواصل لكافّة الصحفيين مع المؤسسة ومتحدّثها الإعلامي.

إذا أخذنا في اعتبارنا عدم وجود قانون لحرية تداول المعلومات في مصر، يمنح الصحفيين والمواطنين حق طلب أي معلومات تنشرها الجهات الحكومية، بما فيها وزارة الدفاع، إلى جانب إصرار مجلس النواب على إحاطة كل ما يتعلق بهذه الوزارة بالغموض، بداية من ميزانيتها، وانتهاءً بتوفير الحد الأدنى من المعلومات الخاصة بالعمليات العسكرية التي تشنها المؤسسة، يمكننا تخيل كيف أن أسئلة كتكلفة العملية وطلبات الرد على بيانات تنظيم داعش أو ولاية سيناء، ستظل إجاباتها -القادمة من منطقة خارج التغطية- مبنية على الاستنتاج والاستنباط وحده.

في محاولتنا تحديد نوعية أسلحة تنظيم ولاية سيناء ومواقع تمركزه، ذيّل الخبير بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام أحمد كامل البحيري الكثير من إجاباته بعبارات مثل "هذه الإجابة اعتمادًا على ملاحظاتي"، أو "اعتقد من خلال ما يمكن استنباطه من المعلومات المتوفرة"، وهو ما يشير إلى افتقارنا الحد الأدنى من المعلومات التي تجعل المحللين، على الأقل، قادرين على إعطائنا، أي الصحفيين، ومن ثم الجمهور، معلومات محددة ومؤكدة تجعلنا أكثر دراية بالوضع في سيناء.

 

الرئيس السيسي ووزير الدفاع السابق صدقي صبحي في عرض عسكري. الصورة: المتحدث باسم القوات المسلّحة- فيسبوك

كل الدلالات تشير، بشكل لا اختلاف عليه، أن العملية العسكرية الأخيرة خلال العام 2018، استطاعت بشكل كبير إضعاف تنظيم ولاية سيناء وتجفيف منابع إمداده بالأسلحة والعتاد والأفراد، لكن مزيدًا من المعلومات ستجعلنا، كصحفيين وجمهور، قادرين على رؤية الصورة بشكل أوضح، وتعريف التحديات التي تقف أمام القوات المسلّحة، ومن ثم أمامنا كأفراد نريد سيناء ومصر كافّة بلا إرهاب، والأهم من ذلك، نقل الصورة الأخرى، المرتبطة بمعاناة المدنيين ومشاكلهم، والتي كان نقلها خلال عام 2018 حصرًا على بعض المواقع الإلكترونية، منها المنصّة، ومنظمات مجتمع مدني دوليّة كهيومن رايتس ووتش.

أخيرًا، فإن تجربتنا مع هذا الملف توضّح بما لا يدع مجالاً للشك إن قانون مكافحة الإرهاب بما يفرضه من قيود على التغطية الإعلامية للعمليات العسكرية والهجمات المسلّحة، يقف أمام أي محاولة تغطية مهنية، خاصة في سيناء التي تعد مركزًا لهذه العمليات.


اقرأ من هنا ملف المنصة: عام على العملية سيناء 2018.. ماذا حدث ومن انتصر؟


هذا القانون يغل يد الصحافة المصرية فيما يتعلق بالتحقق من معلومات تطلقها الجماعات المسلّحة كتنظيم ولاية سيناء، ذلك أنه من المعروف لدى دارسي الإعلام أن انتشار معلومة ما، مهما كان مصدرها، دون تدقيقها وتحقيقها، يجعل تصديق الجمهور لها أمرًا أكثر سهولة، هذا أمر يسري على بيانات داعش وعلى التقارير والأخبار الصادرة على مؤسسات إعلامية تظهر بموقف متحيّز من المؤسسة العسكرية، تحيز يلقي بظلاله على منتجاتهم الصحفيّة.