عبد الرحمن رشاد. تصوير: محمد وهبة

عبد الرحمن رشاد عضو الهيئة الوطنية للإعلام: "لائحة الجزاءات" بحاجة للمراجعة

منشور الأحد 14 أبريل 2019

لا أشق على الصحفي من محاورة مذيع؛ فالمذيعون أبصر بأنواع الأسئلة وأنفذ لمراميها، وأفطن لمزالقها، الحرف لديهم بمثقال، وإجاباتهم لا تخلو من كياسة الدبلوماسي وفصاحة الأديب. وفي أروقة ماسبيرو كان لنا هذا الحوار مع عبد الرحمن رشاد، رئيس الإذاعة المصرية سابقًا، وعضو الهيئة الوطنية للإعلام حاليًا؛ لنخوض معه في دهاليز ذكريات الإذاعة وأيام مجدها الغابر، قبل أن تفرض الوسائط الأخرى، كالتليفزيون بداية ثم الإنترنت لاحقًا، سطوتها على الجمهور المتلقي، ولكن ثمة أحداث تفرض نفسها فرضًا. وهو ما جعلنا نغتنم هذا الحوار؛ للاستضاءة بآرائه حول المشهد الإعلامي الحالي بتجاذباته وأزماته الراهنة، وعن الإذاعة وتاريخها ومقتنيانتها وأين كانت وإلى أين انتهت.

لائحة الجزاءات والتدابير التي أصدرها المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في 18 مارس/ آذار الماضي، والتي من المفترض أن تتمم قانون 180 لسنة 2018 الخاص بتنظيم الصحافة والإعلام الذي تمت المصادقة عليه في سبتمبر/ أيلول الماضي، أثارت فور إعلانها، عاصفة من النقد والاستياء بين صفوف المشتغلين بالعمل الصحفي والإعلامي؛ إذ رآها كثيرون تعيق العمل الصحفي بما تنطوي عليه من عبارات عامة ومطاطة في الجزاءات التي تجيز معاقبة المشتغلين بالعمل الصحفي والإعلامي بعقوبات مالية تصل إلى ربع مليون جنيه، ناهيك عن أنها تجيز سحب تراخيص الصحف وإغلاق القنوات وحجب المواقع في حالة مخالفة بنودها، مما دفع مجلس نقابة الصحفيين الجديد إلى الطعن عليها في أول جلسات انعقاده، في الخامس من الشهر الجاري.

لائحة بحاجة للمراجعة.. ولكن

ويعترف رشاد أنه كان من الممكن أن تخرج اللائحة بصيغة أفضل؛ لو جرى قبل إصدارها حوار مجتمعي يشارك فيه العاملون في الإعلام "أعتقد أن العقول الإعلامية لدينا كان من الممكن أن تبلور لائحة أفضل من هذه ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله"، معربًا عن ثقته في أن نقيب الصحفيين الجديد ضياء رشوان سيفتح حوارًا مجتمعيًا تقوده النقابة، حول ما تضمنته هذه اللائحة وأيضًا مشكلات المهنة. 

ورغم مثالبها، والحديث لرشاد، فإن اللائحة ستساهم في ضبط العمل الإعلامي، ذلك أنه يعتبر أن "المشهد الإعلامي العربي يحتاج إلى ضبط، لاسيما ما يسمى بالبرامج الجماهيرية أو برامج الـ'توك شو' وبرامج المنوعات الخارجة على قيم وأخلاقيات المجتمع العربي"على حد تعبيره.

لكنه يستدرك ويعيب على اللائحة كذلك عدة أمور منها أنها تنطوي على عبارات "عامة ومطاطة وغامضة تحتاج إلى تفسير"، كما يعيب عليها أنها تحتاج إلى جهات مراقبة ورصد مستمرة "والمشهد الإعلامي لا يحتمل هذا"، ناهيك عن عيب ثالث يتمثل في أن اللائحة تطبق على الصحفي الذي يرتكب المخالفة المهنية والوسيلة التي نشرت ما يتضمن المخالفة معًا، حيث يرى رشاد أن وزر تجاوزات ميثاق الشرف الإعلامي في حال حدوثها يقع على كاهل الإعلامي أو الصحفي وليس الوسيلة برمتها؛ بأن يتم إغلاقها أو وقفها، لأن "هذا فيه غبن شديد للوسيلة الإعلامية والعاملين بها، فضلًا عن أنه يتسبب في خسائر اقتصادية كبيرة".

ويضيف رشاد "هي (اللائحة) ستضبط العمل الإعلامي لكنها ستضير الوسائل الإعلامية؛ فهي ستضبطه من حيث الممارسة الفردية ولكن من الممكن أن تضير الوسيلة الإعلامية كالقناة أو الإذاعة أو الموقع" وذلك عندما تحجب الموقع أو تغلق البرنامج أو القناة أو تسحب ترخيص الصحيفة.

.ويرى رشاد أن "ميثاق الشرف الإعلامي" كان أولى بالتركيز عليه من هذه اللائحة "كان ينبغي التركيز على قيم الأخلاق قبل قيم الجزاء"؛ وهو يرى أن الميثاق قد حدد بالفعل عوامل ونقاط الانضباط ويحدد الممارسة الإعلامية المهنية، بدون هذه اللائحة.

يعتبر رشاد أن اللائحة كذلك تتدخل في صميم وظيفة القانون في المجتمع "في كل بلاد  العالم القانون هو الذي يؤدي هذا الدور، في إنجلترا مثلًا هناك قانون يطبق على حالات التجاوزات الإعلامية، حيث تعرض القضايا أمام المحاكم وهناك جزاءات شديدة على من يخالف القيم والأعراف ومن يتعرض للحياة الخاصة أو يهدد الأمن والسلم المجتمعي إلخ .. لكن تفصيل قانون عقابي على القائمين بالعمل الإعلامي دون الرجوع بداية إلى ميثاق الشرف الإعلامي مع تطبيقه على الوسيلة كذلك فإن هذا فيه ضرر شديد بالمشهد الإعلامي".

وتحظر المادة 20 من لائحة الجزاءات استضافة ضيوف غير مؤهلين للحديث في البرامج والصحف، دون أن تحدد معيارًا لهذه الأهلية، الأمر الذي لا يرى رشاد حاجة له لأن "الضيف المؤهل واضح" حسب رأيه، ويضرب مثلًا بظاهرة استضافة لاعبي كرة القدم "غير المؤهلين" للعمل الإعلامي أو إبداء الرأي أو قيادة الرأي العام "مما أدى إلى خلق بؤر للتعصب والاحتقان بين الجماهير ليس في مصر وحدها ولكن في بلاد عربية أخرى" ويرى رشاد أن تحديد الخبير مسألة بديهية، ففي رأيه "الخبير السياسي مثلًا من له ممارسة سياسية سابقة له منصب سياسي سابق، والخبير الإعلامي من يشغل وظيفة اعلامية حالية أو سابقة، وله دراسات إعلامية أكاديمية في التخصص".

أما المادة 21 من اللائحة فتحظر "تقديم حالات فردية بوصفها ظاهرة عامة"، دون أن تحدد معيارًا ذلك، ويعتبر رشاد أن هذا دور الرصد الذي من المفترض أن يقوم به الموكلون بتطبيق اللائحة، فهم من سيحددون ذلك، وهو لا يظن أن ذلك قد يعني خضوع تطبيق اللائحة للأهواء الشخصية "لأن مجموعة القائمين على تنفيذ اللائحة مجموعة من الزملاء الذين عملوا بالمهنة" وهو ما يعني أن مجرد اشتغالهم بالمهنة في حد ذاته كفيل بتجريدهم من كل أهواء أو تحيزات شخصية، دون أن يقدم تبريرًا آخر.


اقرأ أيضًا: تعالي المجلس في دورة تدريبية: كيف يكتب الصحفي خبرًا عاديًا دون أن يدفع ربع مليون جنيه غرامة؟


تسري لائحة الجزاءات على كل ما ينشر في الصحف والوسائل الإعلامية الإذاعية والتلفزيونية والمواقع الإلكترونية، بل وصفحات التواصل الاجتماعي، وحتى الحسابات الشخصية فيها التي يزيد عدد متابعيها على خمسة آلاف متابع.

ورغم تسليم رشاد بصعوبة تطبيق اللائحة على كل الوسائل الإعلامية والحسابات الشخصية إلا بصعوبة وبالكثير من التكلفة، فإنه يثق في قدرة المجلس على القيام بهذه المهمة الصعبة، طالما تصدى لهذه المسألة فإنه يعتقد أن لديه الثقة في نفسه ليحقق ذلك، مضيفًا "ولكن يجب ألا تطبّق اللائحة بشكل انتقائي، بل يتم بشكل عام؛ لأن تطبيق القانون يفترض العمومية".

ويرى رشاد أن الصحافة المصرية يمكنها أن تنجو وتستمر رغم هذه الجزاءات الكثيرة، التي لا يرى أنها تعوق للعمل الصحفي، بل تضبطه، لأن هذه الجزاءات الواردة فيها والتي تتضمن غرامات باهظة، بل وتصل إلى حد الإغلاق، لها نظائر في بلد مثل انجلترا، لكنه لا يلبث أن يسلم بوجود ثغرات وملاحظات متعددة على هذه اللائحة، وهو يعتقد بإمكانية تلافيها في الأيام القادمة بعد "فتح حوار صحفي مهني إعلامي مجتمي بشأنها".

البدايات

ومن الأحداث الراهنة بتجاذباتها إلى الأيام الخوالي بهدوئها الإذاعة  رشاد، الذي يعتز بلقب "الإذاعجي" الذي أطلقه عليه الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل، أن الإذاعة لعبت في أوقات سابقة دورًا حيويًا في نشر الثقافة عندما كانت مصر سباقة "الإذاعة المصرية أول إذاعة عربية وإفريقية، إذ استشعرت الحكومة المصرية أهمية توحيد الأمة لغويًا وثقافيًا"، ويذكر أنها كوّنت لجنة من كبار المثقفين لهذا الهدف كان من ضمن أعضائها الدكتور علي ابراهيم باشا رائد الطب، وحافظ عفيفي رئيس الديوان الملكي، وشاركهم عميد الأدب العربي طه حسين.

كان سعيد لطفي شقيق أحمد لطفي السيد أول مدير للبرامج العربية في الإذاعة المصرية التي تم بالتوازي معها إنشاء البرنامج الإنجليزي. 

 

الملك فؤاد الأول ومصطفى النحاس باشا

وبالفعل بدأت الإذاعة بثها الساعة السادسة إلا ربع صباح يوم 31 مايو/ أيار 1934م بتلاوة الشيخ محمد رفعت ثم وصلة غنائية لأم كلثوم، ثم أنشد حسين شوقي قصيدة كما تحدث فيها فكري أباظة. يصفها رشاد بأنها "كانت تجربة هزت القطر المصري والعربي، حيث كانت الإذاعة رافدًا جديدًا من روافد الثقافة، وبدأ الجمهور يستمع منها إلى فكري أباظة والعقاد وطه حسين ومحمد شفيق غربال وعلي باشا إبراهيم وغيرهم من الصفوة، بل إن كتاب حديث الاربعاء المهم ما هو إلا مجموعة أحاديث للدكتور طه حسين في الإذاعة المصرية. وعندما تم تدشين البرنامج الثاني في أواخر الخمسينيات، كان نقلة ثقافية عظمى؛ وكان يقدم أقطاب الفكر والثقافة العربية والعالمية".

كانت محطة البرنامج الثاني الإذاعية في يوم ما تمثل ديوان المثقفين عبر الأثير "لقد كان البرنامج الثاني بمثابة جامعة إذاعية، ولقد لعب دورًا عظيمًا في نشر الثقافة العربية، وتوحيدها، وكان يصل بثه إلى العراق، وكان سهيل إدريس رئيس تحرير مجلة الآداب البيروتية العريقة أحد تلامذة البرنامج الثاني. وكان أقطاب الأدب يجرون فيه الأحاديث سواء طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وحسين فوزي، وعمل به ثلة من خير المترجمين".

لكن البرنامج الثاني أو (البرنامج الثقافي الآن) لم يعد يؤدي دوره مثل السابق "لقد تغير الواقع كليةً، بالنسبة للجمهور والنخب سواء بسواء، . وتغير الحال الآن يُعزى لخلو الساحة الثقافية من عمالقة الماضي، وتغير ذوق الجيل بسبب تردي التعليم، ومتغيرات أخرى كثيرة".

نوادر موجودة وأخرى مفقودة

لكن مازالت الإذاعة المصرية تملك الكثير من الكنوز الإذاعية "لدينا تراث إذاعي منذ العام 1934 حتى الآن. ما يملكه ماسبيرو يُقدر بمليارات الجنيهات" ومن ضمن ما تحويه مكتبة التراث الإذاعي المصري "خطبة هتلر بإعلان الحرب العالمية الثانية، وخطب للنحاس باشا، والملك فؤاد والملك فاروق والرئيسين محمد نجيب وعبد الناصر، عندنا تراث من الأحاديث الإذاعية من عمالقة الأدب والثقافة، وأغنيات نادرة لعبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ وصباح وفيروز وغيرهم بعضها لم يُسجل لا تلفزيونيًا ولا سينمائيًا، لكن الوسائط المسجل عليها هذا التراث على وشك أن تندثر تكنولوجيًا، ويجب نقل هذا التراث لوسائط حديثة للحفاظ عليها من أشداق الضياع".

 

هتلر يعلن الحرب على الولايات المتحدة الأمريكية

وعن ضياع بعض تسجيلات الإذاعة النادرة، وتعرض بعض خطب عبد الناصر للمسح في أرشيف الإذاعة يقول عضو الهيئة الوطنية للإعلام "أنني أتوجه بالشكر إلى الدكتورة هدى عبد الناصر لأنها من أنقذ خطب أبيها. فقد أرسلت لنا قائمة بكل خطبه، واحتفظنا بها في المكتبة التاريخية، وهذا لا ينفي أن هناك بعض المهملين للأسف، ممن لا يقيمون للتاريخ وزنًا، قد مسحوا  بعضًا منها".

مسح التسجيلات النادرة في الإذاعة لم يقتصر على خطب عبد الناصر، فالكثير من الشرائط التي سُجلت عليها حفلات أم كلثوم التي بثتها الإذاعة قبل عام 1954 مسحت واستخدمت في تسجيل فعاليات وحفلات أخرى، خاصة خلال سنوات الحرب العالمية الثانية حيث كانت تكلفة الشرائط مرتفعة مع ظروف الحرب التي عطلت عمليات الاستيراد.

 

 

جمال عبد الناصر يخطب في الأسكندرية

 

ويذكر رشاد نية الإذاعة في إتاحة هذا التراث إلكترونيًا "لقد بدأنا بالفعل مشروع إنشاء موقع للاذاعة المصرية وضمنّاه تراثها، بتشجيع وزير الإعلام السابق درية شرف الدين، التي افتتحته وهو egradio.eg. ثم انضم الآن للموقع الموحد، وهو maspero.eg".

ضد المنع

وفيما يتعلق بتردي المشهد الإعلامي يرى رئيس لجنة التقييم الإذاعي أن"جزء من أوزار هذا الواقع البائس يقع على كاهل القائمين بالإعلام أو محتكري العملية الإعلامية من غير الملتزمين - مهنياً أو وأخلاقياً - بقضايا مجتمعهم". وفي رأيه فالإذاعة صناعة ولا تبرأ من موهبة. فالمذيع مخلوق من جهة طبقة صوته، وهو مصنوع أيضًا من جهة درجة ثقافته ولباقته. "لقد استيقظ المذيع داخلي في سن غضة، منذ إذاعة المدرسة، لكني درست هذا الفن أيضًا، فتعلمت الوقفات ومخارج الألفاظ وفن الإلقاء وقراءة النصوص، فلكل نص قراءة معينة، كما درست المقامات الموسيقية. ودأبت على قراءة الشعر".

وهو يعزو سر ركاكة لغة ومضامين مذيعي اليوم إلى أسباب عدة منها "ضعف تعليم اللغة العربية في المدارس مع تفضيل اللغات الأجنبية، وقلة الاهتمام بالثقافة العامة، كما أن لجان المذيعين للأسف لا تتوخى المذيعين الجيدين، كما ظهرت مدرسة في الإعلام العربي تحرض على عدم التزام المذيعين باللغة العربية الفصحى؛ نتيجة ضعفها اللغوي".

فهو يقر بأن المضامين تعكس ثقافة المذيعين التي يقيّمها بأنها "متهافتة في أغلبها للأسف، وقلما تجد مضمونًا يرقى بعقلية المستمع أو المشاهد، كما كان الحال في الأيام الخوالي". وبشكل عام يرى رشاد أنه لم يعد هناك اهتمام بالإعلام المسموع "في الماضي كانت ثقافة الاستماع تُغرس في الطفل، إذ يُقال له استمع للقرآن الكريم بصوت عبد الباسط، واسمع نشرة الأخبار بصوت جلال معوض، واصغ للغتنا الجميلة بصوت فاروق شوشة، وانصت للإذاعة الخارجية من صبري سلامة. أما الآن تجد الأسرة مأسورة بوسيط آخر وهو التلفزيون".

ولكنه يستدرك قائلًا "لا أغامر بإدانة وسيط مهم كالتلفزيون بجرة قلم، ولكن هو شاشة يمكن أن تستعيض عن اللغة بفنون الإبهار والتصوير والإضاءة. وهنا مناط الخطورة، فكثيرًا ما تجد المحتوى لا يسمن ولا يغني من جوع".

وفي الوقت ذاته يرفض عضو الهيئة الوطنية للإعلام التجني على حقوق المستمع والمشاهد، بالرقابة وفرض الحجر الصحي على الأعمال "الرديئة" ويرى أن الحل يكمن في المنافسة بالمحتوى الجيد حتى تفرض العملة الجيدة نفسها "لست مع الرقابة والمنع والحجب بأي شكل وتحت أي مسمى، فأنا مع الارتقاء بالذوق من خلال إتاحة الموضوعات الجادة والمضامين الجيدة".

وفي رأي رشاد تعد ظاهرة الإذاعات الإلكترونية "نتاج طبيعي وجيد للثورة المعلوماتية، وقد أتاحت الفرصة لأي شخص لأن يكون مذيعاً بأبسط الإمكانيات. لقد انقضى عصر احتكار الإعلام".

شوفينية ضارة

يتذكر رشاد أنه ذات مرة أثناء حديث مع الشيخ محمد الغزالي، عرض عليه أن يسمعه أغنية "ظنًا مني أنه سيرفض، لكني بُهِتُّ عندما وجدته يقول (ولمَ لا)، وطلب أن يستمع إلى أغنية سوف أحيا لفيروز".

تحتل فيروز مكانة لدى رشاد "أذكر أننا في الجامعة أنشأنا رابطة الفيروزيين، فقد كنا من مريديها، وكنا نتبادل شرائطها، ونتابع مراحل مسيرتها الفنية. وكتبت مجموعة مقالات بعنوان شعراء غنت لهم فيروز بالتوازي مع هذه الاحتفالية".

يضيف "فيروز جارة القمر، وإن حظها من هذه التسمية يتعدى حدود اللقب، فهي واحدة من كواكب الفن العربي، وواحدة من الفنانات المعاصرات اللاتي ضنى الزمان بمثيل لهن، فإن صوتها درجة من درجات الموسيقى، بل هناك من يتشدد ويقارنها بسيدة الغناء العربي أم كلثوم".

 

فيروز وأم كلثوم في بيروت عام 1967م 

فهو يرى أن فيروز تعد حالة خاصة؛ فغناؤها "لا يميل إلى التطريب التقليدي، بل يميل للغناء الوصفي المسرحي" وهي شنشنة عرفتها من مدرسة الرحبانية منذ أن أخرجوها من معمودية الغناء الكنسي. مضيفاً بقوله "لقد أثرت فيروز  المسرح الغنائي اللبناني والعربي بباقة من ذرى ما أنتجته قريحة الغناء العربي". ويشير في هذا الصدد إلى اضطلاع فيروز بغناء التراث كذلك؛ مثل الموشحات الأندلسية، وبعض الألحان العالمية مثل بوليشكا بولي والسيمفونية الأربعين لموتسارت، كما "أرّقتها القضايا العربية، فغنت للقدس، وغنت قصائد كبار الشعر العربي الحديث مثل نزار قباني والأخطل الصغير ومرسي جميل عزيز والشاعر اللبناني الكبير سعيد عقل".

يلحظ رشاد سخرية القدر في أن تغني المطربة العروبية التي غنت للقدس تغني قصائد الشاعر اللبناني الذي أيّد إسرائيل، لكنه لا يلبث أن يعقب "نعم هذا صحيح، لكن سعيد عقل قيمة فنية وأدبية لا تقل عن أدونيس، شاء من شاء وأبى من أبى".

ويرى رشاد أن المصريين تعلقوا بصوت المطربة اللبنانية الرخيم، وازداد تعلقهم بها بعدما غنت لمصر أكثر من أغنية.

لكنه لا ينوي رتق هذه المقالات في كتيب "إنني حاليًا منشغل بكتاب عن أنيس منصور. سيضم بين دفتيه معلومات على لسان الكاتب الكبير تُنشر لأول مرة". يذكر منها أنه لم يكن اسمه أنيس وهو صغير، كما يعترف في الكتاب بسبب بغضه عبد الناصر، ويعرض رأيه في الشعب السعودي، ورأيه في المرأة وعلاقته بها، ولماذا لم ينجب .. وغيرها الكثير من المعلومات التي لا يعرفها قراء أنيس منصور".

ويعود رشاد إلى الموسيقى ويعتقد أن "سبب تعلق المطربين العرب بمصر، نابع من أنها كانت عاصمة الثقافة والشهرة والفن الرفيع؛ فاستقر بعضهم بها وأجاد بعضهم الآخر اللهجة المصرية مثل وردة وصباح ونور الهدى وفايزة أحمد، حتى المطربة السعودية عتاب، عندما أرادت أن تصيب الشهرة حضرت إلى القاهرة، وكذلك محمد عبده عرف الشهرة من مصر، وقد ساعده عليها أحمد فؤاد حسن وعبد الحليم حافظ". ويقول إنه "أذاع للفنان طلال مداح حفلة في نادي الترسانة الرياضي، حيث ظل المطرب السعودي يغني ويعزف على العود حتى شابت ناصية الليل وأشرقت الشمس، فقلت له الشمس طلعت نريد إرجاع الميكرفون إلى الاذاعة، فقال لي مادام هناك مستمعون مريدون لطلال مداح سأظل أغني حتى الظهر". ويضيف "كانت القاهرة كعبة الثقافة العربية".

لكنه يرى الريادة المصرية في مجال الثقافة قد باتت في ذمة الماضي، أما الآن "للأسف الشديد تفرق دم الثقافة العربية بين عدة عواصم بعد القاهرة. بعدما كانت الثقافة العربية نهرًا منابعه في القاهرة وبيروت وصنعاء والرياض ومن ثم تتجمع روافده حتى يكّون فيضانًا يغمر بقية الأقطار العربية".

فهو يرى أن الشعلة لم تنتقل لقطر آخر بعد مصر، بل تحولت لأضغاث من أعواد الثقاب "ولا أقول ذلك لأنني مصري؛ فما يهمني ألا تتمزق الثقافة العربية"، لذلك فإنه يرى أنه كان الممكن أن تكون عاصمة الثقافة بيروت أو بغداد أو الرياض أو الجزائر أو الرباط "لكن الثقافة بالمعنى الرفيع للكلمة بما تشمله من فعاليات للأسف لا توجد في أية عاصمة الآن".

 

نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم

ويرى رشاد أن المصريين موبوءون بمرض المركزية "للأسف نحن مصابون بالشوفينية" ويدلل على ذلك بكوكبة من نجوم الفكر والثقافة لم تأخذ حقها في القاهرة، ويضرب مثلاً بالمفكرين محمد عابد الجابري ومحمد أركون اللذين يعتبرهما في مقام وقيمة زكي نجيب محمود، ولكنهما لم ينالا حظهما من القاهرة.

ويتابع "بل وأعترف لك أنني لم أكتشف العالم العربي إلا بعدما سافرت إلى الخليج. فقد كانت ثقافتي محدودة بالأسماء المعروفة في القاهرة. لكن عندما سافرت الخليج بدأت أبحث عن شمولية الثقافة العربية".