برخصة المشاع الإبداعي: حسام الحملاوي، فليكر
صورة أرشيفية من مسيرة إلى ميدان التحرير في ذكرى الثورة عام 2013


بين "ربيع الأمم" و"الربيع العربي": الثورة المضادة لا تكتب الفصل الأخير

منشور الاثنين 28 يناير 2019

استُخدم مصطلح "الربيع" للإشارة إلى الثورات والانتفاضات التي اندلعت في المنطقة العربية منذ أواخر 2010 وبلغت ذروتها في العام الذي تلاه، إلا أن أصل المصطلح يعود إلى وصف الثورات الأوروبية التي اندلعت في أوروبا منتصف القرن التاسع عشر وعُرفت باسم ربيع الأمم أو ربيع الشعوب.

ورغم اختلاف الوقت والظروف بين الربيع العربي وربيع الأمم، إلا أن أوجه التشابه لا تقف عند الاسم فقط، فتحليل مسارات الثورات الأوروبية قد يلقي بعضًا من الضوء على ما جرى في الربيع العربي ويسهم في محاولة فهم ما وقع في الشرق الأوسط خلال السنوات الثمان الأخيرة. 

يعتقد جوستاف لوبون أن العفوية التي تمتاز بها الجماهير أثناء الثورات والاضطرابات لا تسمح لأحد بتوقع حركتها كونها تتأثر بالصور والايحاءات. لقد فسر لوبون وضع الجماهير بدقة ويظهر أنه لم يسئ فهمه لها مطلقًا. ينطبق ذلك على الشعوب العربية التي وجدت ما يوحدها ذهنيا خاصة بعدما حدث في تونس التي هرب رئيسها بعد أقل من شهر من الاحتجاجات الشعبية في الشوارع إلى السعودية في 14 يناير/ كانون الثاني لتتوالى الوقائع في دول الجوار، وهو ما يشبه إلى حد بعيد ما حدث أوروبا عام 1848.

الثورة التي اندلعت في صقلية أججت أخرى في فرنسا نجحت في إنهاء الملكية وإعلان الجمهورية، لتتصاعد موجة الثورات في سائر البلاد الأوروبية من المانيا الى المجر وبلجيكا وايطاليا.

بعض أسباب الغضب والاحتجاج تتشابه أيضًا بين الربيع العربي وربيع الأمم، فالأول اندلع بعد سنتين من أزمة اقتصادية عالمية بدأت في الولايات المتحدة وامتد أثرها إلى العالم كله وضمنه الشرق الأوسط، والأخير وقع بعد أزمة اقتصادية طاحنة وقعت عام 1846 شهدت نقصًا كبيرًا في إنتاج المحاصيل وندرة في المواد الغذائية فانتشر الفقر والبلاء. 

 

لوحة من القرن التاسع عشر لمعركة بودا عام 1848

انتصارات ربيعية مؤقتة

في ربيع الأمم استطاع الثوار في معظم الاحوال الامساك بزمام الأمر، فتحققت مطالب إزاحة الأنظمة الحاكمة، ولكن الانتصار هذا لم يدُم طويلًا، فمع نهايات 1849 كانت قوى الملكيات المستبدة تستعيد سلطانها وسيطرتها مجددًا خاصة وأن القوى العسكرية حافظت على ولاءاتها الملكية.

ورغم اختلاف كثير من العوامل التي أدت إلى الربيعين، إلا أن عدم رضا الجماهير على بقاء قادة فاسدين في مواقع الحكم هو ما شكل المحرك الأساسي للحراك الثوري، الذي يكون عادةً رد فعل على تدني الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بجانب انتشار الفساد وقمع الحريات، فهي تشبه لحظة الإدراك العميق. 

ولكن بخلاف الربيع العربي والذي اندلع من لتعديل أوضاع سياسية تتعلق بأنظمة الحُكم، كانت الثورات الاوروبية ثوارت اجتماعية اكثر منها ثورات سياسية، كونها قامت من أجل إصلاح الأوضاع الاجتماعية للشعوب مع التحولات الكبيرة الذي تسببت فيها الثورة الصناعية وما رافقتها من تغيرات جذرية في علاقات الإنتاج. 

لكن ما يجمع بين الربيعين هو تمكن الثورة المضادة من العودة مجددًا بسبب صراعات النخب الثورية في مرحلة ما بعد سقوط الأنظمة، وكذلك يجمع بينهما تدخل قوىً إقليمية مجاورة من أجل إخماد الاحتجاجات الشعبية، فتدخل الجيش الروسي لإخماد الثورة المجرية عام 1849 لا يبتعد كثيرًا عن دخول قوات درع الجزيرة بقيادة السعودية إلى البحرين. 

في أوروبا كانت هناك مطالب بدساتير وديمقراطيات جديدة، ولكنهم انقسموا حول مسائل كثيرة مثل من سيكون له حق التصويت، وكيفية توزيع الثروة وصياغة علاقات الإنتاج، بالتالي فشلت حكومات ما بعد الثورة لتعود القوى الرجعية مجددًا بعد أن حشدت قوتها لسحق معارضي الأنظمة الملكية. 

 

كاريكاتير نشر في 1849 عن هزيمة الثورات الأوروبية

ثورة ناجحة وأخرى مغدورة

"لقد تعرضنا للاعتداء والإهانة، تبعثرنا وسُجنّا ونُزع سلاحنا وكُممت أفواهنا، حتى تلاشى مصير الديمقراطية الأوروبية من بين أيدينا".

لا يبتعد كثيرا وصف السياسي الفرنسي جوزيف برودون لما مرت به الثورات الاوروبية عما حدث للربيع العربي، الذي أخفق بدوره أمام الثورة المضادة، لأن التخلص من الديكتاتوريات الفاسدة لم يكفِ لتأسيس منظومة ديمقراطية متجانسة أو بدء إصلاحات جذرية، فقد أرتدت الثورة في مصر على من قاموا بها وتأسست جمهورية جديدة عام 2013 على يد ضابط رفيع في نظام مبارك تقاعد ليترشح رئيسًا، بينما سقط اليمن مثله مثل سوريا وليبيا في آتون حروب أهلية وتنظيمات إرهابية مسلحة، وحدها تونس هي التي شهدت تحولًا ديموقراطيًا نحو الأفضل. 

لا شك في أن الربيع العربي بدأ بشكل عفوي كمرحلة أولى نحو التعبير عن آمال جيل جديد في التغيير، قبل أن تتعدد الاراء التي ترى الفشل الكامل في تلك الثورات.

الثورة مستمرة

 

صورة أرشيفية من ثورة 25 يناير

"خصوصية المأساة عند جيل خاض تجربة التمرد، هي أنه مهما كان مصير كل واحد من أبنائه، سواء سار في سكة السلامة، طريق التوبة والإذعان لقوة الأمر الواقع، وحتى إعلان الكفر بكل قيم التمرد القديم، أو سار في طريق الندامة، الانهيار، اعتزال الحياة، المرض النفسي، فإنه شاء أم أبى لم يعد أبدا نفس الشخص الذي قبل أن تبتليه غواية التمرد، لقد مسّه الحلم مرة، وستبقى تلاحقه دوما ذكرى الخطيئة الجميلة، لحظة حرية، خفة لا تكاد تحتمل لفرط جمالها، تبقى مؤرقة كالضمير وملهمة ككل لحظة مفعمة بالحياة والفاعلية، مؤلمة في الواقع".

في سياق الحديث عن الثورات العربية، يأتي وصف أروى صالح هذا في كتابها المبتسرون، أصدق تعبير عمّا حدث، عن الألم الناشئ عن الحلم الذي تطلع إليه الثوار بينما لم يتحقق، فكان الثوار أقل الرابحين من اندلاع ثوراتهم في الوقت الذي تقاسمت فيه بقية الأطراف التي لا تخفي عداءها للثورة، حصاد ما زرعه الثائرون.

لكن مصير الثورات العربية في النهاية لن يبقى رهينة ما وصلت إليه الأوضاع اليوم من واقع مرير، رغم الانتكاسات الواضحة للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الحالية، فالتاريخ سلسلة من الوقائع المتتالية والمتصلة، وبأخذ السياقات التاريخية للثورات المضادة في الاعتبار، يمكننا اعتبار أن لحظة انطلاق الربيع هي مجرد نقطة بداية لصراع طويل من أجل تغيير جذري سيحدث في المجتمع عاجلًا أو آجلًا، مهما استماتت السلطة في الدفاع عن مصالحها. 

ما زلنا أمام مسار ثوري لم يتوقف بعد، فالجماهير الثائرة ما زال بإمكانها فرض التغيير الذي يحقق أهدفها، طالما استمرت الثورة المضادة في حماية مصالحها بإعادة إنتاج أسباب الغضب الجماهيري.