صورة من أرشيف الكاتب أشرف غريب صاحب كتاب "محمد فوزي.. الوثائق الخاصة"

البحث عن محمد فوزي: الموسيقار والكوميديان والمطرب الذي رحل مبكرًا للغاية

منشور الخميس 15 أغسطس 2019

ظهر محمد فوزي في الحياة الفنية المصرية، في أوائل الأربعينات في الوقت الذي كانت بعض الأشكال الموسيقية الكلاسيكية تختفي من الغناء العربي.

اختفى فن الموشح ثم تبعه فن الدور بعد آخر أدوار شيخ الملحنين زكريا أحمد "عادت ليالي الهنا" لأم كلثوم عام  1939 وخرج من الطقطوقة قالب الغناء الحديث حيث التركيز على لحن المذهب الرئيسي وتكراره بعد كل غصن أو كوبليه وهو الشكل الذي ساد أغلب الأغاني حتى أيامنا هذه.

في نفس الوقت كان الموسيقار محمد القصبجي، أحد ثوار الفن العظام، يلملم أوراقه من مضمار التلحين المصري، مكتفيًا بأن يحتضن عوده كعازف خلف السيدة أم كلثوم، بعد كبح جماح تمرده الفني، الذي لم تتقبله الجماهير بعد فشل ألحانه في فيلم عايدة، بحسب المؤرخ إلياس سحاب، ورحيل أسمهان الصوت الذي كان يشبه القصبجي في تمرده وعنفوانه، ويبدو أن القدر كان يمهد لمخاض فني جديد متمثل في  محمد فوزي.

قلبي دليلي

لو تتعبنا المدرسة الفنية التي يأتي منها فوزي سنجد أن أقرب مدرسة ينتمي إليها هي مدرسة القصبجي، من حيث الدراية الكاملة بالموسيقي الشرقية والغربية وسهولة الدمج بينهما، والبناء الموسيقي المتماسك والجملة اللحنية الرشيقة التي لا تعتمد على الطرَب فقط، بل إيصالها إلى وجدان المستمع في سهولة ويسر، والأهم من ذلك هو الثورة على البناء الكلاسيكي للأغنية، والرغبة في تطوير شكل الغناء العربي.

 ولو عدنا إلى تعليقه على تحفة القصبجي قلبي دليلي والتي قال عنها إنه لحن قادم من سنة 2000 سنجد ما كان يدور في ذهن فوزي من أفكار تقدمية، و ينظر إلى ما ستكون عليه شكل الأغنية في المستقبل، وظهرت أفكاره غير التقليدية، التي جعلت ألحانه تعبر الزمن ولا تقف عند فترة معينة، ولا عجب في أن الأجيال الجديدة التي تعيد اكتشاف فوزي الآن لا تجد صعوبة في التعاطي مع ألحانه.

ملك الأغنية القصيرة

عندما تحل ذكرى فوزي يتفرغ النقاد والمؤرخون في حصر ريادة فوزي في أنه أول من غني للأطفال، أو صناعته لأغاني الفرانكو أراب، متناسين مجهوده الضخم في تطوير الأغنية العربية، وأن تلك المشاريع لم تشكل إلا نسبة ضئيلة جدًا من مشروعه الفني.

لو مررنا على ألحان فوزي سواء كانت ﻷغانيه أو لآخرين، سنجد ملمح التطوير الذى ابتدعه، في الوقت الذي كانت الأضواء كلها تسلط على المبارزات الفنية بين قامات التلحين في الأغاني الطويلة أو القصائد، ولكن فوزي لم يكن يعنيه الدخول في تلك الصراعات، بل كان يعمل على مشروعه الفني والذى امتاز بالخفة والجمال والتماسك والبساطة، ولم ينشغل بإبراز إمكانياته ومنافسة غيره بل كان يغرّد وحيدًا.

هنا نتساءل، هل لقب ملحن قدير لابد أن يناله الملحن القادر على وضع جمل موسيقية مركبة ومعقدة، وحشر عدد لا بأس به من المقامات والنقلات الموسيقية في الأغنية، أم الملحن القادر على توصيل الأغنية أسرع إلى وجدان المستمع؟ الشاهد أن فوزي لم يحاول إرضاء غروره كملحن وغرور النقاد الموسيقين على حساب الأغنية، بل كانت ألحانه تعبر عن مضامين أغانيه بكل خفة وبساطة، ما سهل على الجمهور حفظها  في أقل وقت، لذا فأفضل وصف لفوزي هو "ملك الأغنية القصيرة".

يا مصطفى يا مصطفى

في الوقت الذي كانت الاتهامات تطال قامة مثل عبد الوهاب في اقتباس موسيقي غربية وإعادة تغليفها مرة أخرى، والتي أفرد لها الصحفي الراحل محمد التابعي في سلسلة مقالات بعنوان "امسك حرامي"، كان فوزي يصنع ألحانًا تغزو الغرب، فلحن مصطفي يا مصطفي أعيد تقديمه عشرات المرات في الخارج بعدة لهجات.

ويمكن تفسير ذلك أن لحن فوزي لم يقف عند بيئة موسيقية فنية معينة، بل خرج لآفاق أخرى، وأثبت قدرته على صنع أغنية تغزو العالم، في الوقت الذي كانت نظرتنا تجاه الغرب هي الأخذ منه وليس التأثير فيه.

بالإضافة إلى أن أغانيه مهندسة وموزعة موسيقيًا، بشكل يجعلها صالحة للعرض اليوم، ولو أعيد إنتاجها فلن يضاف إليها الكثير، وهذا يعطينا فكرة جيدة عن براعة فوزي في صنع أغنية جديدة للموسيقى دور كبير فيها، لا مجرد آلات تتوحد مع صوت المطرب وتعزف مايقوله فقط، وهي السمة الرئسية التي استمدها من القصبجي وطورها هو، بحيث جعلها أقرب إلى المستمع وأسهل في حفظها.

آدي الميعاد قرب

لو مررنا سريعًا على أغاني فوزي  في مراحل زمنية مختلفة، سنجد ملامح فن فوزي المتطور جدًا، فمثلا أغنية "آدي الميعاد قرب"، وهي بالمناسبة موجودة في فيلمه عدو المرأة مع صباح عام 1946، سنجد فوزي الملحن الدرامي القدير، فبدأ بمقدمة موسيقية رصينة شرقية المزاج جدًا، ثم مالبث أن خرج منها ليصنع عدة نقلات موسيقية مدهشة، تنم عن براعة وفهم عميق للتوزيع الموسيقي الذى كان له دورًا عظيمًا في تلك التحويلات الموسيقية المدهشة، الأغنية تشي بملحن قادر على التنقل بسلاسة وترجمة مضمون الكلمات مع اللحن في تماهٍ رائع.

يا نور جديد

تلك الأغنية التى رفضت الإذاعة بسببها إعتماده كمطرب، وهي تجربة عظيمة جدًا بداية من الكورال النسائي الذى يلعب دورًا كبيرًا لأول مرة في افتتاحيتها، حتى داخل الأغنية سنجد أن الكورال يرد على غناء فوزي بجمل موسيقية مغايرة تمامًا لما يقوله، في تجانس مدهش ورائع، ويمكننا القول إنها كانت بداية لاستخدام الأكابيلا، والاستفادة العنصر البشري كضلع أساسي في التوزيع الموسيقي.

في الخمسينيات، التي شهدت نضوج فوزي الممثل، الذي كان يقف ندًا لند مع الممثل الكوميدي الذى يمثل أمامه، وكأننا أمام ممثل كوميدي قدير، تتجلى قدرته المدهشة على استخراج الضحك من الجمهور حتى هو يغني، وغني دويتوهات كثيرة أشهرها يا بختك ياقلبي، بصحبة إسماعيل ياسين، الذي وضع له لحنًا مزج بين سخرية إسماعيل ياسين والحالة الرومانسية التي يغنيها هو بصوته.

معجزة السماء

في فيلم معجزة السماء، وهو بالمناسبة تجربة سينمائية فريدة من زاوية قصة الفيلم، قرر فوزي أن يضع بصمته هو الآخر بعدة تجارب موسيقية مدهشة، صحبة الموزع ميشيل يوسف، الذي كان له دورًا عظيمًا في ترجمة أفكار فوزي المتمردة.

 أولي تلك التجارب أغنية "اللي شغل بالي"، وهي أغنية قادمة من القرن 21 بحق، رغم أنه لم ينتقل فيها ما بين المقامات سوى نقلة وحيدة في الكوبليهات، إلا أننا أمام أغنية غربية الطابع موزعة توزيعًا ينم على دراية عميقة بعلوم التوزيع الموسيقي الحديث، مستخدمًا آلات نحاسية غربية مع إيقاع جاز وجمل وتريات غير مستنسخة من اللحن الأصلي، في تطور مدهش للأغنية ولو أعيدت تلك التحفة الفنية الآن لن يضاف إليها الكثير.

ثاني أفكار فوزي المتمردة كان في صناعة أغنية للطفل فصنع ذهب الليل طلع الفجر وهي التى كانت لضرورة درامية داخل الفيلم، لكنه خرج منها وهو واضع نصب أعينه صناعة أغاني خصيصًا للطفل، فظهر بعد ذلك "ماما زمانها جاية"، و"كان وأن".

أهم أفكار فوزي في الفيلم كان فكرة صناعة أغنية بدون آلات موسيقية، وهي الفكرة التي اعتبرها بعض النقاد مجرد صراع بين فوزي والموسيقيين انتهي بصناعتها دون الحاجة لهم، متناسين أن الموسيقيين نفسهم اشتركوا في عزف بقية أغاني الفيلم.

https://www.youtube.com/embed/eTE4MT-1qYM

فكرة الأكابيلا مستوحاه من الموسيقي الكنسية القديمة، التي كانت تعتمد على الأصوات البشرية فقط، ثم تطورت بعد ذلك حتى أصبح فنًا مستقلًا.

فوزي هنا في أغنية "كلمني طمني"، قرر أن يستغل موقفًا دراميًا داخل الفيلم في توزيع الموسيقى على الكورال، وهي فكرة لو حررناها من موقفها الدرامي سنجد أنه يستحيل أن تكون وليدة اللحظة أو غير معدّة مسبقًا، فإحلال الأصوات البشرية محل الألات الموسيقية يتطلب مجهودًا ضخمًا في نقل الجمل الموسيقية المكتوبة، وتوزيعها على الأصوات البشرية، كل حسب طبقة صوته، فالكورال الرجالي الذي اختاره لكي يغني من طبقة الباص الغليظة والكورال النسائي في طبقة السوبرانو الرفيعة، بالإضافة إلى صوت فوزي نفسه الذى يؤدي اللحن.

أي دارس للموسيقى يدرك تمامًا صعوبة صناعة أغنية مثل تلك، وهي الفكرة التي يبتعد عنها الغالبية لأسباب عديدة، منها عدم توافر الوقت أو المقدرة على صناعتها، أو لأنها ستكون غريبة على المتلقي، الذي قد لا يدرِك حجم الجهد المبذول فيها، فلم يكررها أحد مرة أخرى سوى مرة يتيمة في التسعينيات، في أغنية للراحلة ذكرى.

انسحاب ذكي؟

كان التعاون مع أم كلثوم حلمًا يراود كافة الملحنين، فالكل يطمح لفرصة لالتقاء ألحانه بصوتها، لكن هل تخلّى فوزي عن هذا الحلم في سبيل أن يقدم بليغ حمدي الموهبة العظيمة وقتها؟ تدور في الكواليس حكاية لطيفة عن أغنيةأنساك، التي بدأها فوزي ثم تركها لبليغ ليكملها، متناسين أن أول لقاء لأم كلثوم ببليغ كان في أغنيةحب أيه عام 1960 التي لحنّها دون أن يكون في مخيلته أن تغنيها الست، في  نفس الوقت كانت أم كلثوم قد وقّعت عقدًا مع شركة مصر فون، التي يملكها فوزي لإنتاج أسطوانتها، فقدم فوزي بليغ لها في إحدي الأمسيات، التي غني فيها بليغ "حب إيه"، فطلبت لقاءه في اليوم التالي.

لو عدنا قليلًا لأغنية أنساك1961 سنجد أن المقدمة الموسيقية لا تمت إلى ألحان فوزي بصلة، ولو جاز لنا أن نقول إن المقدمة تنتمي إلى ملحن أخر غير بليغ لن نجد سوى الشيخ زكريا أحمد، الأمر الذى اثارته السيدة تحية ابنة الموسيقار "زكريا أحمد" مستندة إلى عقد بين والدها وبين السيدة "أم كلثوم" لتلحين الأغنية وتقدمت به إلى جمعية المؤلفين والملحنين كي يتم وضع اسمه والدها بجانب "بليغ حمدي" الذي استكمل الأغنية بعد رحيل والدها.

غالبية المؤرخين والنقاد لم يركزوا على عدم اللقاء من الناحية الفنية، وفضلوا التركيز على عظمة فوزي في الإيثار بتركه تلحين أغنية لبليغ، ولم يتم البحث بشكل دقيق حول السبب الرئيسي لعدم التعاون معها، لكن بالنظر إلى ألحان فوزي هل كانت ستلائم طبيعة صوت أم كلثوم أم سيتخلى فوزي عن أسلوبه الخاص في التلحين، في سبيل أن يصنع لحنًا يلائم صوت الست، في وقت كان صوت أم كلثوم حكرًا على ملحن فذ بحجم السنباطي؟ أم فضل فوزي الإنسحاب بذكاء لأنه كان يعلم أنه لن يستطيع التخلي على أسلوبه التلحيني المتطور والذي قد ترفضه أم كلثوم مثلما فعلت مع القصبجي من قبل؟

وغالبًا كان يعلم بتدخلاتها الكثيرة في الألحان، ويدرك أنها قد تعاند تجديده الموسيقي، وهي المعروف عنها أنها تكره الأغراب والشذوذ وغير المألوف في الموسيقى، كما ذكر عبد الوهاب في مذكراته، وتبدي انزعاجها من وجود جيتار كهربائي ضمن فرقتها الموسيقية، ففضل فوزي الانسحاب بهدوء قاصرًا التعاون معها على إنتاج أسطوانتها في شركته.

الفن ويوليو

عندما تحل ذكرى ثورة يوليو من كل عام تعود إلى الأذهان علاقة رجال الثورة بالفنانين، ومن استفاد بشكل مباشر من قربه منهم ومن خسر بالابتعاد عنهم.

كتب الناقد السينمائي المصري، أشرف غريب في مقدمة كتابه "محمد فوزي.. الوثائق الخاصة"، الصادر بمناسبة مرور مائة عام على ميلاد فوزي "رغم أن الفنان الشهير لم يكن حتى من هواة الكلام في السياسة، فإنها أحرقته، ولم يدرك ذلك إلا متأخرًا". 

لا يبدو أن فوزي قرأ المشهد السياسي جيدًا، فهو "لم يدرك لا موازين القوى في اللحظة التالية لقيام الثورة، ولا إلى أين تتجه هذه الموازين في المستقبل القريب، فراح يدفع نفسه إلى مقدمة الصورة في كل المشاريع القومية التي قادها محمد نجيب".

ويظن غريب أنه "لو كان فوزي قد أدرك جيدا المشهد، كما فعلت أم كلثوم، لربما كان قد تجنب كثيرا مما وقع له لاحقًا".

ولأنه لم يدرك المشهد أو ربما لم يكن يعبأ، فإنه ظل على تأييده للواء نجيب، كما نشأت علاقة متينة بينهما بسبب "اقتناع فوزي بالعهد الجديد ورموزه، والالتحام بالمشاريع الوطنية الأولى التى نادى بها ودعمها نجيب".

قطار الرحمة

جاءت أغلبية أغاني فوزي الوطنية في إطار حب الوطن دون مجاملة، ورغم إيمانه الشديد بمبادئ الثوة لكنه لم يتورط في الغناء لزعمائها، وصنع أغنية مدهشة للأطفال بعنوان "كان وأن" كانت تتحدث عن المستقبل الجديد الذى ينتظره الوطن وعن أبطال الثورة دون ذكر أسماء، عكس الآخرين الذين كان اسم جمال حاضرًا في أغانيهم، وتحولت الأغاني من تمجيد وطن لتمجيد أشخاص، وساهم في مشروع قطار الرحمة الذي تبناه نجيب وقت حكمه.

 

اللواء محمد نجيب بصحبة مجموعة من الفنانين. الصورة: من أرشيف أشرف غريب

مصرفون والنهاية الحزينة

رغم أن فوزي كان مؤيدًا لقيام الثورة، بل وقرر أن يتبني بعضَا من أهدافها بتشجيع الصناعة الوطنية بإنشاء أول شركة اسطوانات مصرية، باسم "مصرفون"، إلا أن قصته مع نظام يوليو انتهت بشكل درامي، إذ صدر قرار بتأميم شركته في يوليو 1961، وتغيير اسمها إلى "صوت القاهرة".

وتوقف عدد من النقاد والمعاصرين لمحمد فوزي عند واقعة التأميم، البعض قاله إنه أخطأ لأنه أسماها شركة وليس مصنع اسطوانات، وكان من الممكن أن يتجنب التأميم لو تغير توصيفها، والبعض قال إنه غنى للوطن فقط دون أن يذكر زعيم الثورة عبد الناصر، كما فعل أغلب مطربي مصر وقتها، وجنبهم ذلك بطش نظام يوليو، فلم تؤمم شركات عبد الوهاب وعبد الحليم.

ذكرت زوجته الثانية مديحة يسري أنه تم الإساءة لفوزي، فلم يحسنوا معاملته فبدلا من أن يكون مستشارًا للشركة تحول إلى موظف صغير فيها ونفي في مكتب بجانب غرفة الساعي الخاص به، كلها أمور أضافت أبعادًا مأساوية، بجانب المرض النادر جدًا الذي أصابه وعجل بنهاية موسيقار يمكن اعتباره واحدًا من أهم مجددي الموسيقي المصرية الحديثة.