تصميم: المنصة

وجعلنا من رانيا يوسف لهن عبرة

منشور الخميس 6 ديسمبر 2018

 

إن كان على المقال الصحفي أن يتّسم بالحياد والموضوعية؛ فليس هذا بمقال صحفي. وإن كان على الكاتب أن يكون هادئًا ورصينًا؛ فلستُ بكاتب.

والواقع هو أنني قليلًا ما أترك مجالي المعتاد في الكتابة، وهو الاقتصاد الذي دائمًا ما أشعر فيه بالراحة والثقة بالنفس ولا أحب الابتعاد عنه إلا إذا وجدت ضرورة ملّحة لذلك.

ما حدث مع الفنانة رانيا يوسف على خلفية ارتدائها العلني لفستان اعتبره البعض كاشفًا وفاضحًا وخادشًا للحياء العام وما شابه ذلك من العبارات الفارغة التي لا تعبّر سوى عن جهل مَن يرددها وانغلاقه وتخلفه الثقافي والحضاري، إن لم يكن ما هو أكثر من ذلك، يفوق القدرة على التحمل والسكوت.

لن أخوض هنا في مجموعة البديهيات التي نوقشت على مواقع التواصل الاجتماعى لأن مجرد إدارة حوار حول حق المرأة المطلق، نعم المطلق، فى اختيارها لملبسها العلني أو الخاص بما يتراءى لها، ليس فقط إهانة للمرأة ولكنه في حقيقة الأمر إهانة للبشرية برمتها وتاريخها منذ أن كان الإنسان يسكن الكهوف، وكانت المرأة وقتها ترتدى الجلود غير المدبوغة على الطريقة التي تراها مناسبة لها، ولكننا هنا في مصر اليوم يبدو أننا لم نصل بعد إلى هذه المرحلة المتطورة من الرقي الحضاري والفكري.

كما لن أخوض أيضًا في مدى سذاجة ما وُجّه لرانيا يوسف من تهم تعطي لمفهوم العبث أبعادًا جديدة ما كان لفرانتس كافكا، وصموئيل بيكيت، ويوجين يونسكو مجتمعين أن يتخيلوها، إذ تنوعت الاتهامات بين تحريض الفستان على الفسق والفجور، وأن به ما يُغري القُصّر وينشر الرذيلة ويخالف الأعراف والتقاليد السائدة في المجتمع المصري.

وهذا بالطبع على اعتبار أننا أمام "الفستان السحرى" القادر على هدم قيم المجتمعات، بعيدًا عن غياب تعريف جامع متفق عليه لمثل هذه القيم من الأساس. وليس هذا فقط؛ بل وصل الأمر بدعاة العودة إلى عصر ما قبل الخليقة إلى المطالبة بمعاقبتها وفقًا لنصوص قوانين مكافحة الدعارة ووصمها بذلك بما يُفترض أن يعرضهم هم للمساءلة القانونية وليس هي.

ولا أريد أيضًا التوقف كثيرًا عند البيان المُخجل الذى أصدرته الهيئة العامة للاستعلامات وما به من إدانة للتغطية التي اعتبرتها غير موضوعية من قِبل الإعلام الغربي للقضية إذ تجاهلت، على حد تعبير الهيئة، أن البلاغات التى قُدمت قد تم سحبها وأن الجهات القضائية لم تتخذ أي إجراء بشأن هذه القضية، دون الإشارة إلى أن هذه الجهات القضائية كان يجب عليها تجاهل مثل تلك البلاغات المُفتقدة للحد الأدنى من الحُجة والمنطق من البداية بدلًا من أن تحدد لها جلسة تحقيق، وأن البلاغات لم يتم سحبها إلا بعد إهانة وإذلال رانيا يوسف علنًا على شاشة MBC مصر فى برنامج الإعلامي، بين قوسين، عمرو أديب وإجبارها على الاعتذار، بعد تقديمها كشخصية فاقدة الأهلية.

وبنفس المنطق لا أريد الالتفات إلى رد فعل الكيان المسمى نقابة المهن التمثيلية الذي أدان سلوك يوسف هو الآخر، وإن حاول التجمل بعبارات فضفاضة ليظهر كمدافع عن الحريات الشخصية والعامة بعبارات لا قيمة لها والأنسب له أن يغير اسمه ليكون "نقابة حُراس الفضيلة والأخلاق الحاكمين بأمر من أنفسهم" بدلًا من إدعاء بأنهم نقابة تدافع عن مصالح المُنتمين إليها.

الأهم من كل ذلك هو أن قضية رانيا يوسف تعبر في جوهرها عن توجّه مجتمعى عام من الصعب وصفه سوى بأنه غير متحضر تجاه المرأة وكيانها. فنحن في نهاية الأمر أمام امرأة ارتدت فستانًا ليس أكثر من ذلك، وقررت بإرادتها الحرة أن تكشف عن أجزاء من جسدها الذي هو ملكية خاصة وحصرية لها دون غيرها، قبل أن نتفاجىء بانتفاضة أجنحة "حُراس الفضيلة والأخلاق" يمزقونها إربًا، بينما لا نسمع صوتًا مسموعًا ولا خافتًا لهؤلاء المُدعين عندما يتعلق الأمر بالتحرش الجنسي عند الاعتداء على تلك الأجزاء من أجساد النساء في المواصلات والأماكن العامة ومحال العمل، ولم نجد هذا المذبع يستضيف الناجيات من التحرش ليعيد إليهن حقهن، بل لم يناقش أبدًا مثل هذه الأمور حتى على مدار سنوات طويلة اشتغل فيها بالإعلام.

حددت النيابة ببساطة شديدة جلسة تحقيق للمثلة ليس لشيء سوى أنها امرأة اختارت أن ترتدي ثوبًا ما دون موافقة ومباركة البعل المقدس أى الذكر بمفهومه الشامل لتُخلى النيابة سبيلها فيما بعد، وكأنها من عتاة المجرمين، بعد أن سحبت البعول المقدسة بلاغاتها ورضيت عنها متقبلة اعتذارها ورضوخها وفي مقدمتهم المحامي سمير صبري.

"فستان رانيا يوسف" يزيد بكثير عن مجرد كونه ثوب ارتدته فنانة فى مهرجان سينمائى. فهذا الفستان دليل جديد على الحالة البائسة التي وصلها مجتمعنا بعد مرور ما يقرب من 300 عام على عصر التنوير، وحوالي 130 عام على بدء حركة تحرير المرأة فى ألمانيا على يد بيرتا فون سوتنر أواخر القرن التاسع عشر.

"فستان رانيا يوسف" ليس قضية حريات عامة ولكنه معركة يخوضها الرجل الشرقى التقليدي المتخلف للإبقاء على سيطرته، ليس فقط على جسد المرأة، ولكن أيضًا على روحها وكينونتها.

أنظر الآن إلى شاشة الكمبيوتر وما يتيحه لى برنامج Word من أدوات حصر وعد وأجد نفسي قد كتبت ما يزيد بقليل عن 800 كلمة مُدافعاً عن حق المرأة في أن ترتدي ما تشاء وتفعل بجسدها ما تراه.. لا يوجد أدل من ذلك على ما نعيشه اليوم فى بلادنا من بؤس وتردي.


عن قوانين الإرث في تونس ونهاية الفحل

 

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.