أحمد فتحي
مصطفى إبراهيم أمام صالونه

حازم حازم: المهاجر العكسي من القاهرة إلى شلاتين

منشور الخميس 6 ديسمبر 2018

 

بالقرب من ساحل البحر الأحمر بمدينة شلاتين، توجد غرفة صغيرة، يغطيها سقف خشبي، ومستقلة عن باقي التجمعات السكنية، مُعلَّق على أحد جدرانها من الخارج لافتة مكتوب عليها "صالون حازم حازم".

 

 

داخل الصالون يقف مصطفى إبراهيم (48 عامًا). حلاق قاهري، تعلم الحرفة من أخيه الكبير. بدأت يداه تكتسبان السرعة والتمكن شيئًا فشيء حينما كان يقضي خدمته العسكرية "كنت باحلق لزمايلي ولقائد الكتيبة ورُتب تقيلة وإيدي خدت على الشغل بسرعة".

لسنوات تنقَّل مصطفى مع أخيه للعمل في مناطق بينها بولاق والهرم والمهندسين، فازدادت خبرته تزامنًا مع ازدياد زحام القاهرة وكثرة المنافسين فيها، فلم يترددا طويلا في قبول فرصة جاءتهما للعمل بإحدى القرى السياحية بمدينة الغردقة.

عمل مصطفى في السياحة لأكثر من 20 عامًا، اكتسب خلالها رزقًا وفيرًا إلى جانب تعلُّم أساسيات 4 لغات؛ الإنجليزية، الفرنسية، الروسية، الألمانية، فضلًا عن السمعة الطيبة بين رفاقه والعلاقات الممتدة مع زبائنه "كنت باقُص حريمي ورجالي وبعمل بادكير ومانكيير. كان زباينّا كبار ووزراء، لما كانوا ييجوا القرية اللي شغال فيها مكانوش يرتاحوا إلا تحت إيدي".

 

 

 

تنقّل مصطفى بين القرى السياحية حتى استقر وأسرته في الغردقة، ثم انتقل إلى مدينة القصير وكذلك عدة أماكن في مرسى علم. "من كتر الشغل كنا بنجيب قرايبنا نعلمهم ويشتغلوا وما كُناش ملاحقين".

بداية من عام 2011 بدأت السياحة في التدهور، وقلت الحركة في مختلف الأماكن التي عملا فيها طيلة 17 عامًا. باع أخوه المحلات وعاد للقاهرة، لكن مصطفى قرر الانتظار وفتح صالونًا في الغردقة أملًا في عودة حركة السياحة لما كانت عليه.

 

 

أتت الرياح بما لا تشتهي سُفن مصطفى إبراهيم، وبعد أقل من ثلاثة أشهر أغلق صالونه، وبدأ يتنقل بأدواته بين القرى والمنازل. "ما كنتش باكل غير فول وطعمية بس". اشتدت الأزمة فظهرت الخلافات مع زوجته حتى انتهى الأمر بينهما بالانفصال.

استقر الحال به في مدينة شلاتين بعدما تنقل عبر مدن البحر الأحمر. عُرف هناك بـ"حازم حازم" نسبة لابنه الأكبر وأخيه اللذان يحملان نفس الاسم. "لاقيتها قفشة وماشية، ومن ساعتها مابقاش اسمي مصطفى إبراهيم".

 

 

ببعض الأدوات والأمشاط، أكمل مصطفى صالونه البسيط في أول أسابيع له في شلاتين، بعدما استأجر الغرفة بـ200 جنيه في الشهر. صارت الغرفة مكان عمله وإقامته ونومه أيضًا.

يشتري عدته، الأمواس ومعاجين الحلاقة ومستحضرات الشعر، من القاهرة بأسعارها المعروفة، لعدم توافر كل ما يحتاجه في شلاتين، ولتجنب الأسعار الزائدة لما قد يتوفر.

يواجه مصطفى أكثر من مشكلة، فمياه التحلية لا يمكن الاعتماد عليها في الشُرب أو تحضير الطعام، فيلجأ لشراء براميل المياه المعبأة في محافظات الصعيد وتُباع لأهالي المنطقة، بالإضافة لأسعار الخضروات والفاكهة المضاعفة لزيادة تكاليف نقلها من الدلتا أو الوجه القبلي.

 

 

منذ أيام ودّع مصطفى شمس الصيف الحارقة واحتياجاته الزائدة من مياه الشرب، وكانت بوادر الشتاء.

نزلت الأمطار ولم يصمد سقف صالونه طويلًا أمام سيول الجنوب، وبعد بضع دقائق أغرقت المياه أرض الغرفة، لم يستطع العمل أو النوم. وطيلة خمسة أيام، ظل يقيم في جامع المدينة حتى استقر الطقس. يبدأ عمله في الثامنة أو التاسعة صباحًا بعدما يؤمِّن وجبة إفطاره أو يستعين بما تبقى من عشاء الأمس. يُنظف أدواته ويحضر فِوَطه ويجلس منتظرًا رزقه. تمر أيام على الصالون يتأرجح فيها الرزق؛ فيوم تكون فيه المحصلة صفر، وآخر يأتي فيه 10 أو 15 زبونًا. وكلما سارت حركة التجارة في الأسواق؛ كلما كان العدد في تزايد.

لم يترك مصطفى الوحشة تستعمر حياته، رغم أنه يقضي معظم وقته في صالونه فإنه يذهب لأصدقائه مع نهاية يومه على مقهى قريب.. يجلسون ساعة أو اثنتين ثم يعود لغرفته، يفترش الأرض على مرتبته ووسادته في المكان نفسه؛ "بفرش حتة كرتونة وعليها فرشتي وبنام".

 

 

ورغم هذه الصعوبات، لا يفكر مصطفى في العودة للقاهرة أو الغردقة الأكثر عمرانًا، لزيادة تكاليف التجهيزات، فضلًا عن الازدحام، أما هنا فأقرب صالون يبتعد عنه مسافة طويلة، "في القاهرة المحلات فاتحة فوق بعض وعايزلي ميه (مياه) وكهربا كل شهر بألوفات". وعلى عكس أهل الوجه القبلي المهاجرين للعاصمة؛ اقترب الحلاق القاهري من إتمام عامه السادس في الجنوب، "القاهرة صعبة ودوشة.. ممكن لما أعجز أرجع بيت أبويا علشان ما أموتش لوحدي".

يحرص مصطفى على إرسال مصروفات أولاده، المستقرين في الغردقة مع أمهم، خاصة بعدما دخلت ابنته الجامعة في القاهرة واكتشاف إصابة أصغر أبناءه بالتوحد "ملزمين مني في رعايتهم وتعليهم لحد ما أموت. من وقت للتاني ببعت فلوس لبنتي علشان سكنها ومصاريفها، لازم تتعلم ويبقى مستقبلها أحسن".

في صالونه تلحظ استعادته لهوايته القديمة إذ يرسم بالطباشير أشخاص كرتونية أو معالم أثرية أو كتابة عبارات دينية على جدران صالونه كلما سنحت له الفرصة لكسر كآبة لونها الرمادي.

 

 

يجد مصطفى في شلاتين بيئة مناسبة نسبيًا مقارنة بأي مكان آخر، لقلة عدد صالونات الحلاقة، فشجعه ذلك على استئجار محل جديد في السوق، لكنه ما زال يجمع تكاليف تجهيزاته منذ شهور.

 

 

يرتبط مصطفى بعلاقات طيبة وقوية مع أهل منطقته، تتعدى كونهم زبائنه وكونه صاحب الصالون، "الأهل هنا قلبهم أبيض وطيبين ودا يهون أي حاجة الواحد بيشوفها".

رغم أن مرآة صالون "حازم حازم" غير كاملة، فإن مصطفى يرى فيها حياته وحاضره على أفضل صورة ممكنة، ومستقبله يحمل بُشرى ونعيمًا. ربما يتزوج مرة أخرى أو يفتح صالونًا أفضل ويوسع عمله ويستقر مع أبنائه. وحتى يأتيه هذا، فهو يعمل ويحلم وينتظر.