حساب السترات الصفراء- تويتر
من احتجاجات السترات الصفراء يوم 22 نوفمبر.

انتفاضة فرنسا العميقة: كل ما تريد معرفته عن "السترات الصفراء"

منشور الاثنين 26 نوفمبر 2018

خلال الأسبوعين الأخيرين شهدت فرنسا ميلاد حركة احتجاجية جديدة تسمي حركة "السترات الصفراء"، باريس مشتعلة، وعنف واشتباكات واسعة في قلب العاصمة.. فما هي حركة السترات الصفراء، ومَن يقف خلفها، وما هو مستقبلها، وهل فعلًا يقف خلفها اليمين المتطرف. كل هذه الأسئلة يحاول هذا التقرير الإجابة عليها.

لماذا الاحتجاج على رفع أسعار المحروقات؟

في المناطق الريفية وشبه الحضرية فان السيارة تعد وسيلة أساسية للحياة في ظل قلة وسائل النقل الجماعية والعامة.

يؤكد عالم الاجتماع بينوا كوكارد في مقابلة مع صحيفة ليزيكو،[Les Echos [1، أن سبل الحياة في المناطق الريفية كافة ترتبط بالاستخدام اليومي للسيارة. فنسبة العمال في المناطق الريفية تصل إلى 32% من إجمالي السكان هناك. ولعدم وجود مصانع أو ورش بجوار المنازل؛ فيضطر هؤلاء لاستخدام السيارة يوميًا للذهاب إلى أعمالهم في مناطق بعيدة عن الريف، وذلك في ظل قلة وسائل النقل العامة أو انعدامها من الأساس.

ليست المصانع وحدها هي البعيدة؛ وإنما الخدمات العامة أيضًا. فالمدرسة قد تكون في قرية أخرى لا يوجد بها سوبر ماركت الذي يتواجد في قرية ثالثة. كل هذه الرحلات تتم بالسيارة وبالتالي تستهلك وقودًا كثيفًا. حتي إن كنت بلا عمل وتسكن في تلك المناطق؛ فأنت بحاجة لسيارة حتى تستطيع السفر للحصول على وظيفة وحياة اجتماعية.

 

أحد الملصقات التشجيعية للمشاركة في اليوم الأول للتظاهرات: القمصان على البلكونات يوم 17. الصورة: تويتر

لماذا يحتجون على حماية البيئة؟

ورغم أن السلطة تقول إن السبب وراء رفع أسعار المحروقات هو الحفاظ على البيئة عبر تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون؛ إلا أن اليسار الراديكالي والمنحاز لقضايا الحفاظ على البيئة أعرب عن دهشته من البدء بتحميل الفئات الأكثر ضعفًا أعباء هذا التحول، وهو ما قد يؤدي فيما بعد إلى عداء الشعب لقضايا الحفاظ على البيئة.

اليسار ونشطاء بيئيين يقترحون مسارًا بديلًا عن رفع أسعار المحروقات، وهو دعم تطوير البنية التحتية وخلق وظائف لتطوير المباني والخدمات وتحويلها نحو الطاقة النظيفة والمتجددة، وهذا ما يصب في مصلحة المواطنين وليس ضدهم.

كيف بدأت "السترات الصفراء"؟

انطلقت دعوة للاحتجاج يوم السبت 17 نوفمبر/ تشرين الثاني، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مع تخطيط لعرقلة الطرق في فرنسا. رصدت صحيفة لوفيجارو[2] مسار الحركة انطلاقا من عريضة علي موقع Change.org أطلقت آخر شهر مايو الماضي بواسطة السيدة  بريسيليا لودوسكي وهي بائعة مستحضرات تجميل تبلغ 32 عامًا، وتسكن ضاحية تبعد حوالي 50 كليو عن قلب العاصمة.

مع دخول شهر أكتوبر كان عدد الموقعين علي العريضة لا يتجاوز 400 مواطن، لكن فجأة في منتصف أكتوبر وحتي بداية نوفمبر وصل العدد إلى أكثر من 800 ألف توقيع، واليوم يقترب الرقم من مليون توقيع.

لم تكن بريسيليا هي الوحيدة التي عبرت عن غضبها من ارتفاع أسعار الوقود، إذ نشرت سيدة أخرى تدعى جاكلين، فيديو يوم 15 أكتوبر على فيسبوك تحتج فيه ضد ارتفاع أسعار الوقود. وصل عدد المشاهدات 6 ملايين مشاهدة، بخلاف آلاف التعليقات والتفاعلات.

 

كل تحديث للصفحة يعني زيادة أرقام الموقعّين. الرقم تجاوز 980 ألف الساعة 3:30 ظهر يوم 26 نوفمبر

هل هي مظاهرات فقط؟ 

بسبب التفاعل الشعبي على مواقع التواصل الاجتماعي؛ بدأت دعوات التظاهر تطفو على السطح بداية من يوم 10 أكتوبر.

وفي 21 أكتوبر أطلق سائق شاحنة يدعى إيريك درويت دعوة لقطع الطرق كتعبير عن رفض رفع أسعار الوقود. وفي نفس الوقت تقريبًا، أطلق الممثل الكوميدي الشهير، أنتوني جوبرت، فيديو على يوتيوب مقطعًا يدعو فيه للتظاهر.

حقق الفيديو خلال ساعات 200 ألف مشاهدة، وقبل 24 ساعة من يوم التظاهر الأول الموافق 17 نوفمبر؛ وصل عدد المجموعات التي سجلت قيامها بقطع أحد الطرق إلى نحو 2500 طريق داخل الحدود الفرنسية.

قبل بداية التظاهرات بأسبوع؛ بدأت القنوات التليفزيونية والإذاعات المحلية الاهتمام بهذه الدعوة والحراك المحتمل، وبدأت في استطلاع الآرء وإجراء مقابلات مع منسقي الصفحات على فيسبوك وتويتر، ومعرفة آراء القوي السياسية وهل سيشاركون أم لا. وهو ما زاد من الزخم حول مظاهرات 17 نوفمبر بشكل خاص وحركة السترات الصفراء بشكل عام.

ما هي درجة انتشار المظاهرات وقطع الطرق؟

في السبت الأول للحراك يوم 17 نوفمبر وصل عدد المتظاهرين لحركة "السترات الصفراء" إلى 287 ألف متظاهر، انتشروا 2034 منطقة تظاهر قطعوا خلالها الطرق.

ورغم انحسار الحركة نسبيا في مظاهرات السبت الماضي، 24 نوفمبر، ليصل العدد الكلي للمتظاهرين حوالي 80 ألف متظاهر؛ إلا أن الملمح الأساسي لهذه الحركة هي استمراريتها وأيضا غلبة الحراك في الأقاليم أكثر من المركز في العاصمة باريس. فعلى سبيل المثال منبين 80 ألف متظاهر كانت حصة باريس لا تزيد عن 10% فقط، بينما كانت النسبة الباقية في الأقاليم، حسب الأرقام الرسمية للشرطة.

ما المميز في هذه الحركة؟

ما يميز هذه الحركة هو حالة الضجر من تقلص القدرة الشرائية للفئات الفقيرة والمتوسطة، وكذلك زيادة الأعباء الضريبية عليها دون أي تحسين في الخدمات، بل علي العكس تقلّص الحكومة تقديم الخدمات الاجتماعية بشكل تصاعدي.

في البرامج المتلفزة علي قنوات مثل LCI  أو BFMTV، التي تستضيف أصحاب السترات الصفراء تتكرر عبارة واحدة على لسانهم "لقد فاض بنا الكيل"، Ras le bol، أو "سئمنا من تدهور أحوالنا المعيشية".

لماذا هي انتفاضة عميقة؟

توصف هذه المظاهرات بأنها "انتفاضة فرنسا العميقة" لأنها تنتشر بكثافة في المناطق البعيدة عن مركز العاصمة، وفي الريف والمدن الصغيرة. ولذلك فهي تحمل أوجهًا جغرافية واجتماعية في ذات الوقت.

تمثل القاعدة الاجتماعية للسترات الصفراء الطبقات الوسطى والفقيرة في المناطق الريفية وضواحي المدن من أصحاب الأعمال الصغيرة، والموظفين، والعمال، والعاطلين عن العمل، والفلاحين، والمتقاعدين.

وعند وضع كل هذه الفئات معًا، فإنها تشكل مجموعات اجتماعية واسعة للغاية، كلهم متضررون من السياسات الاقتصادية التي تطبقها الحكومة الفرنسية الحالية.

 وفقًا لما ذكره الجغرافيّ هيرفي لو براس Hervé Le Bras[3]، فإن السترات الصفراء ينتشرون في "القُطْر الفارغ" للبلاد، وهي المناطق التي تشهد انخفاضًا في أعداد السكان مع تدهور في الخدمات الاجتماعية. هؤلاء يغمرهم إحساس بأنهم لا يحصلون على خدمات مقابل الضرائب التي يدفعونها.

بالنسبة لـهيرفي لو براس، فإن هؤلاء يحتاجون المزيد من الخدمات العامة. ورغم أن زيادات أسعار المحروقات ليست السبب الأساسي لاحتجاجهم؛ إلا أنها أتاحت لهم فرصة للاحتجاج، والتعبير عن غضبهم، وهو ما حفزهم للانضمام إلى حركة السترات الصفراء.

 

من يقف خلفها؟

توصف الحركة بأنها غير منظمة تأتي من القواعد الشعبية، وخارجة عن الهياكل المنظمة للنقابات العمالية والأحزاب السياسية. ورفض الفاعلون فيها منذ البداية أية محاولات حزبية لانضوائها تحت جناحها خاصة محاولات اليمين المتطرف.

وهو ما أكدته صاحبة الدعوة الأولى للتظاهر بريسيليا لودوسكي في مقابلة تليفيزيونية، عندما تلقت إتصالات من نواب باليمين المتطرف يحاولون التواصل معها، لكنها رفضت ذلك بشكل قاطع.

ماذا عن اليمين المتطرف؟

ردود أفعال القوى السياسية كان مرتبكًا، تمامًا مثل ارتباك السلطة نتيجة هذا الحراك غير المعتاد خارج الدوائر المعروفة لمواجهة السلطة والمتمثلة في الأحزاب والنقابات.

ورغم تلقي الدعوة تأييدًا من اليمين المتطرف عبر تغريدات داعمة من مارين لوبن، زعيمة التيار، فأنها أيضا تلقت دعما من حزب الجمهوريين اليميني، واليسار الراديكالي، وحركة "غير خاضعين" والتي يتزعمها المرشح اليساري الراديكالي للرئاسة جون لوك ميلنشون.

لماذا تقلق النقابات من اليمين؟

علي العكس من الأحزاب؛ رفضت المنظمات النقابية دعم أو المشاركة في الحراك، على الرغم من تأكيدها على شرعية المطالب. والسبب في ذلك أن النقابات أعلنت عن قلقها من نشاط اليمين المتطرف داخل تلك الحركة. ووفقا لقادة نقابتي CFDT والـ CGT فإنهم يتفهمون السخط، لكنهم يرفضون الاندماج في حركة يقف وراءها اليمين المتطرف، حسب رأيهم.

 

رجل شرطة يخلع بدلته وفي الخلفية لوحة

لماذا يناصرها الشعب؟

تلقى الحركة قبولًا من قبل غالبية الشعب الفرنسي لأنها تعبر عن حالة سخط عام من ضعف القوي الشرائية وتدهور الخدمات الاجتماعية وغياب أي افق اجتماعي لمشروع ماكرون الاقتصادي.

ورغم محاولات السلطة "شيطنة الحركة" بوصفها تتبع اليمين المتطرف، حسبما ألمح وزير الداخلية كريستوف كاستينر هذا الأسبوع بعد أحداث الشعب التي وقعت في الشانزيليزيه.

بالفعل يحاول اليمين المتطرف اختطاف الحركة، إلا أن تحركات اليسار الراديكالي بالتأييد والدعم وانضمام قطاعات واسعة من المواطنين الفرنسين قطعت الطريق ولو مؤقتا على اليمين المتطرف من السيطرة على تحركات الشارع. 

القراءة الأكثر عمقًا توضح أنه لا يمكن اختزال "السترات الصفراء" في أعضاء اليمين واليمين المتطرف، وهو ما لا ينفي أيضًا مشاركتهم فيها.

 

من اشتباكات السبت 24 نوفمبر في الشانزليزيه. الصورة: تويتر

ماذا تفعل الحكومة للرد على الحركة؟

السلطات الفرنسية، وتحت ضغط القبول الشعبي الكبير الذي أظهرته استطلاعات الرأي؛ خفّضت حدة التوتر باقتراحها التفاوض مع الشركاء الاجتماعيين. إذ يجتمع الأسبوع المقبل ممثلون عن المعارضة وجمعيات المجتمع المدني، وممثلون عن حركة السترات الصفراء مع الرئاسة لمناقشة مسار مقبول شعبيًا للتحول الإيكولوجي يراعي الفقراء والطبقات الوسطي.

ومن المتوقع ان يكشف ايمانويل ماكرون غدًا الثلاثاء عن اقتراحات جديدة لتهدئة الرأي العام.

ما هو مستقبل "السترات الصفراء"؟

هذا التراجع من قبل السلطة يمكن تبريره أيضًا باقتراب الانتخابات الأوروبية والتي ستجري شهر مايو القادم. في كل الحالات يبدو أن الحركة حققت أهدافها بالضغط علي السلطة، ومن المتوقع أن يكون لها تأثير على الانتخابات الأوروبية، لكن لا يتوقع ظهور قوي سياسية جديدة منبثقة عنها نظرًا لأن المجال السياسي الفرنسي مزدحم بالفاعلين، ومن الصعب جدًا أن تستطيع الحركة، وممثلوها، الدخول في المجال السياسي منفردين دون اندماجهم مع قوي موجودة بالفعل، وهو ما ترفضه حركة السترات الصفراء حتى الآن.


eïla De Comarmond, Mouvement Des Gilets Jaunes :Pourquoi La France Rurale Est En Première Ligne, Les Echos, Le 17 Novembre 2018, https://is.gd/5qstsE

[2] Clémentine Maligorne, Qui sont les gilets jaunes qui manifesteront samedi? Le Figaro, 14 Novembre 2018, https://is.gd/NC1DVS

[3] France Soir, "Gilets jaunes": cartographie d'une France en colère, 23 Novembre 2018. https://is.gd/ACd3wB