من مباراة ودية بين الشباب

الكرة داخل المثلث: شباب الشلاتين يركلون الكسل خارج المرمى

منشور الاثنين 10 ديسمبر 2018

 

بعد صلاة العصر بنحو نصف الساعة اجتمع عيسى (19 عامًا) وأصدقاؤه بمنطقة حجر الأساس الواقعة بمدينة الشلاتين، جنوبي محافظة البحر الأحمر، قُرب الحدود المصرية السودانية.

يعمل عيسى في التنقيب عن الذهب بالجبال، مهنة أغلب أهالي وشباب مثلث حلايب والشلاتين.. يقضي من عشرين إلى ثلاثين يومًا هناك باحثًا عن المعدن الأصفر، وحين تنقضي المدة وتقترب مؤنهم من النفاد ينزلون إلى المدينة بضعة أيام بين الأصدقاء والأهل قبل أن يعاودوا الكرة مرة أخرى.

 

في مثلث حلايب والشلاتين الذي يقع على الحدود مع السودان على البحر الأحمر وتبلغ مساحته نحو 20.580 كيلومترًا مربعًا، توجد ثلاث بلدات كبرى؛ حلايب وأبو رماد والشلاتين، ظلت مفتوحة أمام حركة التجارة والأفراد دون قيود بين مصر والسودان رغم تنازع السيادة بينهما.

وتعود جذور النزاع الحدودي بين مصر والسودان على مثلث حلايب والشلاتين، الغني بالثروات المعدنية والسمكية، إلى عام 1958، فبينما تعتبره مصر جزءًا من أراضيها بموجب اتفاقية الحكم الثنائي الإنجليزي المصري عام 1899، والتي رسمت الحدود الدولية واعتبرت كل الأراضي الواقعة عند خط العرض 22 شمالًا مصرية، يراه السودان أرضًا سودانية. 

 

بعد ثلاث سنوات على اتفاق الحكم الثنائي، أعادت الإدارة البريطانية ترسيم الحدود، وضمت المثلث للسودان عام 1902 بعدما وجدت القبائل السودانية تعيش داخل الحدود المصرية.

عمل عيسى الشاق لم يمنعه من لقاء شباب مدينته في أيام الراحة.. يتفقون على التجمع يوميًا عند قصر الثقافة القديم يلعبون كرة القدم ويجلسون ويتسامرون.. "عادتنا من ساعة ما وعينا على الدنيا".

 

قبل أعوام عمد شباب هذه الناحية على إنشاء ملعبهم الخاص، مهدوا الساحة ليسهل اللعب وجأوا بالحديد اللازم لصناعة مرميين وشباكين، قُطِّعا بعد ذلك من كثرة الأهداف المُحرزة يوميًا.

رغم أن مجلس المدينة طوّر مركز شباب الشلاتين ووفر لهم فيما بعد ملعبًا من النجيل الصناعي، فإنهم يفضلون اللعب على الرمال، على ملعبهم المصنوع بأيديهم ويجدون به طابعًا خاصًا في الركض عليه.

 

رغم ثبات الموقف المصري بأن المثلث خاضع للسيادة المصرية فإن القاهرة فرضت سيادتها عمليًا في حلايب والشلاتين في عام 1995، بعد محاولة اغتيال الرئيس الأسبق حسني مبارك في إثيوبيا والتي اتهمت الخرطوم حينها بالتورط فيها، أرسلت مصر قوات عسكرية لفرض سيطرتها على المثلث، كما ضمتها إلى دوائر الانتخابات المصرية التي جرت في مايو/ أيار 2014، بالإضافة لانتخابات مجلس النواب واختيار أول نائب من أبناء المنطقة لتمثيلها في البرلمان المصري.

نسيم البحر اﻷحمر ملأ الملعب.. انكسرت شمس الجنوب الحارقة خلف السُحب، شيء من الصقيع بدأ يداعب الرمال.. اﻵن اﻷجواء ملائمة وتدفعهم للعب مباريات تنافسية رائعة.

يقيمون ما هو أشبه بالقرعة لينقسموا إلى فرق، مع مراعاة توزيع العناصر "الحريفة" لتكافؤ اللعب.. يتناوب كل عضو في الفريق على حراسة المرمى خلال المباراة ليُتاح اللعب للجميع، وليرتاحون أيضًا "احنا بنلعب علشان نتبسط، مايهمش مين كسبان ومين خسران، المهم نستمتع" يقول عيسى لـ المنصة.

 

أحدهم يرتدي قميصًا لمحمد صلاح.. واﻵخر لكرستيانو رونالدو.. والثالث لنيمار، فلكل شاب لاعبه المفضل وناديه أيضًا.. معظمهم يلعبون بزيهم العادي -الجلباب الطويل والسروال- ولا يمنعهم ذلك من الركض وإحراز اﻷهداف، وإن استدعى اﻷمر رفعوا طرف الجلباب قليلًا أو أمسكوه بأسنانهم أحيانًا.. تلك طريقتهم وهذه متعتهم.

أحمد رمضان (27 عامًا) يقول إن الشباب لم يعرفوا أي نشاط ترفيهي إلا هذا. في صغره كان ينتهي من مدرسته ويذهب لقصر الثقافة القديم، يستعير الكتب من مكتبتها هو وأصدقاؤه ويتنافسون في قراءة القصص والروايات.

يشير رمضان إلى أن القصر القديم كان قريبًا من المدارس والتجمعات السكنية لأهالي الشلاتين، لكن مقره الحالي أصبح بعيدًا عنهم، فقلّ الذاهبون واقتصرت القراءة شيئًا فشيئًا على البعض، فضلًا عن قلة الأنشطة المقدمة عما كانت في الماضي، أما الإصدارات والكُتب الموجودة حاليًا فلم تُحدَّث منذ سنوات.

 

منذ التسعينيات طالب الشباب بأن يكون لهم نادِ ومدربين محترفين وتُستثمر مواهبهم في نادٍ يحمل اسم مدينتهم، ويمثلهم في مختلف المسابقات والدوريات، إلا أن جهودهم ومطالبهم لم تترجم إلى واقع حتى الآن. 

كرَّار (20 عامًا) كان يتابع المباراة من الخارج قبل أن ينزل بفريقه.. ترك المدرسة قبل ثلاث سنوات، طبيعة مدينته والحالة الاقتصادية لم تسمح له باستكمال تعليمه، فالذهاب إلى الجبل من حين لآخر تسبب في رسوبه أكثر من مرة في المرحلة الثانوية، لكنه على قدر جيد من الثقافة والعلم.. زار القاهرة والإسكندرية وكان شغوفًا برؤية المتاحف الأثرية والأماكن الثقافية.

 

لم يقتصر الجمع على الشباب فحسب، فهناك من يكبرهم سنًا يأتون ويلعبون معهم دون أن يمنعهم الزواج ومسئولية الأطفال من المداومة على عاداتهم فيما بينهم.

يلتف أغلبهم حول الملعب، صغارًا وكبارًا، يشجعون ويتابعون مجريات المباراة بحماس، ويتفاعلون كلما سكنت الكرة المرمى أو قام أحدهم بحركة ماهرة في اللعب، بينهم كان أحمد (22 عامًا) رغم أنه لا يلعب معهم فإنه يحرص على التواجد اليومي "مبطل كورة بقالي كتير وباجي أشجع.. ماينفع أغيب يوم عن صُحابي".

 

عند اقتراب الغروب تمر عربة صغيرة تبيع السوبيا والتمر هندي.. يتجمعون حولها ويثلجون صدورهم سريعًا، ثم يغتسلون ويذهبون لصلاة المغرب بالجامع الكبير، وبعدها يتسامرون قليلًا قبل العودة إلى منازلهم بعد صلاة العشاء.

تختلف أعمالهم لكنها تتفق في المشقة، ورغم أن معظمهم يقضي راحته فإن يومهم مليء بالتفاصيل بداية من السابعة صباحًا وحتى دخول الليل، ولا يفضلون الجلوس أو النوم في تلك الأيام.

 

يمتلك معظمهم حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، لكن ذلك لا يغنيهم عن لقائهم اليومي.

يأبى الشباب أن تتغير عادتهم في تجمعهم، كما لا يتركون للكسل مجالًا للتسرب بينهم واحتلال أوقاتهم، ورغم ما يُقال عن حياة الجنوب البدوية وأنها بطيئة كسولة فإنهم لا يعيرون اهتمامًا ويركلون تلك الفكرة خارج مرمى تفكيرهم.

فُتحت قضية النزاع الحدودي بين مصر والسودان مجددًا عقب اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والمملكة العربية السعودية عام 2016 والتي ادعت فيها مصر بتبعية جزيرتي تيران وصنافير للسعودية.

 

رأى السودان الاتفاق المصري السعودي فرصة سانحة مطالبًا بانتهاج أسلوب مماثل لما اتبعته بشأن الجزيرتين، أو قبول التحكيم الدولي كحل للخلاف ويشترط ذلك موافقة طرفي النزاع لنظر الدعاوى أمام التحكيم الدولي.

مؤخرًا شهد المثلث عدة تطورات تتمثل في بث التليفزيون المصري أول خطبة وصلاة للجمعة من مسجد التوبة هناك، التي أداها وزير الأوقاف المصري، محمد مختار جمعة، بحضور مسئولين في المحافظة والدولة، بالإضافة إلى افتتاح أول مكتب للسجل المدني بمدينة حلايب لاستخراج أي أوراق ثبوت.

 

يقول "رمضان" إن السودان أعلن ضم المثلث لدوائره الانتخابية من قبل، إلا أن ذلك كان مجرد "كلام"، ومنذ ولادته لم يرَ أي وجود سوداني أو مساعِ سواء في الخدمات أو التثقيف أو الترفيه.

رغم امتلاء المثلث بالسودانيين، سواء للتجارة أو للذهاب والعودة من وإلى القاهرة بريًا، فإن النقاش لا يُفتح حول تبعية المثلث لمصر أم السودان.. "كلنا هنا اخوات وماحدش بيتكلم عن الموضوع دا".