المنصة
السيدة زينب على طريق مصر- إسكندرية الزراعي

مصر- إسكندرية الزراعي: السيدة زينب والعائلة على طريق الرزق والموت

منشور الأحد 11 نوفمبر 2018

"مكان رزقي ممكن يبقى مكان موتي، معنديش اختيار. عارف إن الحياة صعبة ولازم أكسب فلوس علشان أصرف على عيلتي اللي مش عارف مين منها هايموت بعد البنت الأولى". محمد إبراهيم، أحد الباعة على طريق مصر- إسكندرية الزراعي، واقفًا بكراتين من الفاكهة والخضروات.​​

 

السيدة زينب وزوجها محمد إبراهيم يعيشان في قرية الحصة التابعة لمدينة طوخ بمحافظة القليوبية. تخرج زينب وزوجها وأطفالها وأفرادٍ آخرين من عائلتها كل صباح إلى طريق مصر- إسكندرية الزراعي منذ 5 أعوام لبيع المحاصيل الزراعية لكسب قوت يومهم.. هنا تقف حاملة ابنتها الصغرى رحمة، سنة و10 أشهر، أثناء بيع الفاكهة علي الطريق.

 

 

محمد إبراهيم، زوج زينب، مع طفلتيه الباقيتين على قيد الحياة: شهد 4 سنوات، ورحمة سنتين. يساعد محمد زوجته في نقل بضاعتهم للطريق بواسطة عربة يجرها حمار. يتحركون ذهابًا وإيابًا أكثر من مرة في اليوم الواحد بين البيت والطريق في عملية منظمة حتى يتم جمع كل السلع المتاحة وهنا يبدأ البيع.. وتبدأ الخطورة أيضًا.

في أحد أيام 2014 وأثناء وقوف زينب علي الطريق لبيع المنتجات تحمل علي ذراعها طفلتها الكبرى حنين، كان عمرها آنذاك عامين؛ صدمتهما سيارة قادمة بسرعة زائدة. فر السائق مسرعًا دون عقوبة. عاشت زينب وماتت الطفلة حنين. لكن الأولى ما تزال تخرج كل صباح وعلى يدها طفلتها الأصغر"رحمة" في نفس مكان موت ابنتها الأولى، وكأنه مشهد متكرر "ديچا ڤو".

 بالرغم من ألم الحادث القديم؛ ما تزال الأسرة وبعض الأقارب يخرجون كل صباح لبيع الفاكهة والخضراوات حيث الرزق والموت بانتظارهم معا.

 

كلما سمح الوقت؛ يذهب أفراد الأسرة لزيارة مدفن الرضيعة القتيلة في هذا الشارع، ممارسين الطقوس الموروثة: قراءة القرآن، ووضع نباتات الصبّار الخضراء على باب القبر.

ينتشر الباعة خصوصًا على الطرق السريعة القديمة التي تربط مدن مصر والتي تسمى "الطرق الزراعية" لأنها شُقّت وسط الحقول. وتتميز المناطق المحيطة بالطرق الزراعية باحتفاظها بالطابع الريفي، رغم الزحف العمراني الكبير وتجريف المساحات الخضراء.

 

 

إلا أن هناك عائلات ما تزال تمتلك أراض زراعية. فهم يبدأون يومهم منذ الصباح الباكر بالذهاب إلى الأرض للقيام بكافة الأعمال الزراعية.

 

.. وآخرون يقومون بتربية الحيوانات الأليفة كتجارة لتأمين ربح بسيط، بعد سدّ احتياجاتهم الشخصية. 

الخط الرابط بين هذه الأنشطة الزراعية والتجارية هو الطريق الزراعي، لدرجة دفعت المزارعين لتأسيس سوق مفتوحة لبيع وشراء المواشي، وهنا جاء الارتباط الوثيق بين سكان الدلتا وطريق مصر- إسكندرية الزراعي.

 

 

"سوق الأربع" يقام أسبوعيًا على جانب طريق مصر- إسكندرية الزراعي، بين مدينتي بركة السبع، وقويسنا. وباعتباره سوقًا مركزية لسكان محافظة المنوفية وما حولها، فإنه يؤمّن دخلًا أسبوعيًا مجزيًا لأبناء تلك المناطق، فيخرجون أفواجًا لبيع مأكولات بسيطة ومشروبات ساخنة للباعة والمشترين.

 

 

تتعدد مصادر المنتجات المعروضة في هذه السوق المفتوحة؛ فبعض الباعة هم من العمال الزراعيين الذين حصلوا على هذه المنتجات مقابل بيع قوة عملهم في أراضي الغير. وبعضهم يشتريها من الفلاحين أو العمال الزراعيين بثمن منخفض قليلًا يضمن لهم هامشًا من الربح. ومنهم من يفترش الطريق بمنتجات من الحلويات المنزلية المصّنعة داخل مصانع صغيرة للغاية أو في البيوت. 

 

 

أو يخرج البعض منهم حاملًا "فرن غاز" لتسوية الذرة وبيعها علي الطريق. عملية البيع تجري بشكل منظم: فأحدهم يقوم بتسوية الذرة على جانب الطريق، وآخر ينقل الذرة لشخص ثالث يقف لبيعه في وسط المركبات، مثل محمد السيد.  

 

محمد السيد، 39 عامًا، من قرية طوخ طنبشا التابعة لمدينة قويسنا، محافظة لمنوفية، يبيع الذرة المشوي علي الطريق السريع منذ 7 أعوام. المسافر على الطريق يشاهد بقايا ميكروباصات وآثار زجاج على جانبي الطريق، الذي يبدو في نفس الوقت كـ "مول تجاري" مفتوح.. وكافيه و"ريست هاوس" بلدي أيضًا.

 

 

تواجد هؤلاء على الطريق أمر غير قانوني، بالرغم من بيعهم سلعًا قانونية تتعرض للمصادرة. هم خارج الحماية الأمنية. فهم معرضون لهجمات من عصابات قطع الطرق، لكنهم يتحايلون على هذا لأمر بالانتشار على مقربة من بعضهم البعض.

ورغم وقوفهم للبيع على مطبّات غير شرعية لضمان قدر من الأمان إلا أن هذا لا يحميهم من الموت، ومع ذلك فهم يلعبون دورًا مهمًا في إنقاذ بعض ضحايا حوادث التصادم علي الطريق لكونهم الأقرب دائمًا من الحدث القاتل، والمتكرر بصفة يومية.

 

 

تصنف مصر من أولى دول العالم في عدد حوادث الطرق وفقا لمنظمة الصحة العالمية وجهاز التعبئة والإحصاء حيث سجلت مصر رقمًا قياسيًا في حوادث الطرق والذي بلغ أعلى معدلاته عام 2015 بعدد 14 ألف و500 حادث، مخلفين خسائر بشرية بعدد 25 ألف و500 قتيل وجريح، بجانب خسائر مادية تجاوزت 30 مليار جنيه تقريبًا.

انخفض الرقم قليلًا في إحصاءات العامين التاليين إلى أكثر من 11 ألف حادث، لكن هذا الانخفاض لم يشفع لمصر كثيرًا في أن تكون على قمة هرم الدول التي تشهد ضحايا حوادث السير في العالم.

طريق مصر- إسكندرية الزراعي واحد من أقدم طرق مصر السريعة الذي يربط بين 6 محافظات رئيسية كبيرة هي القاهرة، والقليوبية، والمنوفية، والغربية، والبحيرة، والإسكندرية، ويقع على جانبيه مئات القرى والنجوع الصغيرة، وهو أيضًا واحد من أسباب موت آلاف المصريين، إذ يصل عدد ضحاياه إلى أكثر من 4 آلاف و800 مواطن بين قتيل وجريح سنويًا، حسب مصادر طبية حكومية.

 

وتكمن أيضا خطورة طريق القاهرة الإسكندرية الزراعي، الذي يصل طوله إلى أكثر من 200 كيلو متر، في مشاكله الفنية، إذا صُمم الطريق لحارتين يتقاطع ويتداخل معهما ما يقرب من 50 مزلقانا للقطارات، و30 ممرًا للعبور بين جانبيه، بالإضافة إلى 14 محطة قطار رئيسية، و12 محطة فرعية يخرج منها الأفراد مباشرة إلى الطريق السريع الذي يوازي بالكامل شريط القطار. 

وتتسبب محطات توقفه في المزيد من الحوادث، كما يتقاطع الطريق مع مجموعة من الكباري المتفرعة من طرق أخري تشل حركة المرور أحيانا، كما يحتوي الطريق على العشرات من المداخل والفتحات في الحائط الأسمنتي بمنتصف الطريق لتسهيل حركة عبور المشاة للجانبين لسكان القرى الموجودة على جانبي الطريق والتي تسهم في ارتفاع نسبة الحوادث.

 

ومن بين مشكلاته الفنية أيضا؛ الإضاءة التي تنقطع عن أغلبه في الليل جاعلًا منه طريق أشباح مليء بالمطبات العشوائية والمجموعات البشرية التي تخرج من مئات المصانع على جانبيه. جميعها أمور تجعل من هذا الطريق مصيدة للبائعين حيث أصبحوا هدفًا سهلًا للموت السريع أثناء سعيهم لمصدر رزقهم الوحيد.

 

موقف البائعين في القانون كان مبهمًا حتى عام 2015؛ إذ لو تعرض أحدهم لحادث تسبب في مقتله على الطريق السريع لا يحاسب القانون من صدَمه إذ يعتبره هو المخطئ بتواجده على طريق سريع، وبالتالي لا يستطيع أحد الحديث عن وقوع الحوادث لأنه سيتلقى ردًا بسيطًا "ما الذي يدفعك للوقوف على طريق سريع؟".

 

هذه شهد، التي ولدت في نفس العام الذي قتلت فيه شقيقتها حنين. تخرج مع والديها للبيع على الطريق السريع. القاتل لم يُعاقب فهو يسير في طريقه. والأسرة لم تحصل على تعويض، فهم يبيعون على طريق سريع بالمخالفة للقانون الذي يعاقب بحبس السائق لـ 6 أشهر إذا كان خطأ القتيل، وترتفع العقوبة لـ سنة وتصل إلى 5 سنوات إذا نتج الحادث عن إهمال جسيم مثل تعاطي المخدرات، وترتفع لـ 7 سنوات وحتى 10 سنوات في السجن إذا ارتفع عدد القتلى عن 3 نتيجة خطأ السائق. 

يبقي التهديد قائمًا؛ حيث ما تزال أسرة محمد إبراهيم تخرج للطريق السريع يوميا طلبًا للرزق، مع شبح مصرع حنين الذي يخيم على مصير شقيقتيها شهد ورحمة.