بانكسي- موقعه الرسمي

بانكسي: مليونير وأناركي.. وروبن هود أحيانًا

منشور الأحد 21 أكتوبر 2018

المشهد في صالة مزاد سوذبيز يزدحم بالناس في أسبوع الفن الأهم في لندن. في قلب اللقطة تظهر لوحة بانكسي"فتاة البالون" التي أحرزت لقب أفضل عمل فني في بريطانيا العام الماضي، كآخر معروضة في ليلة المزادات الحافلة يوم الجمعة  5 أكتوبر/تشرين الأول 2018. اللوحة في إطار ذهبي، معلقة على الحائط أمام الحاضرين، تتوالى المزايدات، وما أن يطرق مسؤول المزاد مطرقته بالضربة الثالثة معلنًا انتهاء المزاد عند سعر 1.04 مليون جنيه استرليني؛ نسمع صوت صافرة تُنبئ بانزلاق "فتاة البالون" ببطء في شرائط ممزقة، وسط ذهول ثم ضحكات الجميع.

بعد وقت قصير من الواقعة، نشر بانكسي عبر حسابه الشخصي على انسجرام صورة للحدث، مُدرج تحتها تعليق  Going, going, gone.."ستذهب، تذهب، ذهبت". في اليوم التالي، نشر فنان الجرافيتي فيديو يوضح فيه وضعه جهاز التمزيق في إطار اللوحة، لتفعيله في حالة تم عرضها للبيع، مقتبسًا تحت منشوره مقولة لبيكاسو "الرغبة في التدمير هي أيضًا رغبة ابداعية". ولاحقًا نشر فيديو مُطوَّل بعنوان shred the love أو "مزِّق الحب" متلاعبًا بمقولة share the love، وتضمَّن الفيلم القصير تفاصيل أكثر عن الواقعة. 

البائع ضد التسليع

تمزيق لوحة "فتاة البالون" بعد بيعها بأكثر من مليون جنيه استرليني، جاء ضمن سعي بانكسي للاستهزاء من الشراهة الاستهلاكية لسوق الفن، على طريقة الچوكر في قصص باتمان المصورة.

في عام 2003، نشرت صحيفة "ذي إيفنينج ستاندرد" اللندنية مقالًا عن بانكسي بعنوان "فخور بأني إرهابي الفن". وهو ضمن قائمة الألقاب التي يطلقها بانكسي على نفسه، لكن من هو بانكسي؟

هناك كثير من فناني الجرافيتي المهمين، لكن ما يجعل بانكسي استثنائيًا ليس كونه اللهو الخفي فقط، بل كونه أول من انتقلت أعماله من جدران الشوارع إلى جدران الجاليريهات، في حين يُعَد الجرافيتي جريمة يعاقب عليها القانون.

بانكسي، المولود عام 1974؛ على عهدة الكاتب وفنان الجرافيك الإنجليزي تريستان مانكو في كتابه "جرافيتي الاستنسل" الصادر في 2002، نشأ في مدينة بريستول الإنجليزية وهي إحدى عواصم فن الشارع، والمستضيفة لمهرجان "أبفيست"؛  أكبر مهرجان جرافيتي في أوروبا. وأصبحت شهرتها الأكبر بعد ذلك أنها مسقط رأس بانكسي.

بدأ مشوار بانكسي في أوائل التسعينيات، كفنان جرافيتي فري هاند (يستخدم يده في الرسم بدون ورق الاستنسل)، ضمن أعضاء فريق "درايبريدز" في بريستول. كان مصدر إلهامه الفنانين المحليين، ومن ثم؛ أصبحت أعماله جزءًا من مشهد الأندرجراوند (مصطلح يستخدم لوصف الثقافة المحيطة بالموسيقى الإلكترونية، وفن الجرافيتي الموجود منذ أوائل التسعينيات في بريستول).

استعان بانكسي بعد ذلك بالاستنسل بعد واقعة حدثت له، كادت أن تُلقي به في السجن بعدما فوجئ بالشرطة وهو يرسم على القطار؛ لكنه استطاع الهرب وقرر أن يتسخدم الاستنسل بدلا من يده، فقط لتوفير الوقت. لكنه في بعض الأحيان يدمج الفري هاند مع الاستنسل.

https://www.youtube.com/embed/jifPspz-k9g

رسائل بانكسي التي يرسلها عبر الجرافيتي تكون في العادة ضد الحرب، أو ضد الرأسمالية، أو ضد المؤسسات. يستخدم فيها على نطاق واسع الحيوانات مثل القرود والفئران، بجانب الشرطة، والجنود، والأطفال. قد تحدث بانكسي في كتابه "اكسيستنساليزم" الصادر عام 2002، عن نظريته في استخدام الفئران قائلا "مثل معظم الناس، لدي خيال بأن كل الخاسرين مسلوبي القوة سيتجمعون معًا. كل القوارض ستحصل على بعض المعدات الجيدة، وسيخرج ما تحت الأرض إلى سطحها، وتُدَمَّر تلك المدينة بأكملها".

 

فئران بانكسي - الصور من اليمين: موقع بانكسي الرسمي، وموقع nik.bot.nu

في 1997، قابل بانكسي مصور إنجليزي شاب يدعى ستيف لازاريديز في لندن، قام بتصويره ذات مرة، وبعدها ظل بانكسي يتصل به ليخبره بأماكن أعماله الفنية لكي يقوم لازاريديز بتصويرها، إلى أن جاء اليوم الذي عرض فيه بانكسي على لازاريديز لوحات سيريجرافية (طريقة تشبه الطباعة بالاستنسل، لطباعة صورة على الورق أو القماش، عن طريق الضغط على الحبر من خلال شاشة ذات مساحات مغلقة بالاستنسل، للحصول على الصورة المرغوبة). طلب بانكسي من لازاريديز أن يبيع تلك اللوحات بمبلغ عشرة جنيهات استرليني، لكن لازاريديز نجح في بيعها بمبلغ 35 جنيها؛ ومن هنا بدأ بيزنس البيع، وأصبح لازاريديز مدير أعمال بانكسي، وانقلبت حياة الاثنين رأسًا على عقب حتى انفصالهما عام 2008.

مع التسويق ضد الرأسمالية

واقعة تمزيق فتاة البالون مثّلت ذروة العلاقة الملتبسة بين بانكسي وصالة سوذبي للمزادات.

سوذبيز أو دار سوذبي للمزادات هي رابع أقدم دار للمزادات في العالم، تأسست عام 1744 في لندن واستمرت في العمل منذ ذلك الوقت دون انقطاع. يقع مقرها الرئيس حاليًا في نيويورك، بجانب 90 موقعًا في 40 دولة. وتعد من أكبر مراكز الأعمال الفنية في العالم، مع مبيعات بلغت 5.8 مليار دولار عام 2011. تتنوع عروض المزاد بها من أعمال الفنون الجميلة والزخرفية، والمجوهرات، وحتى العقارات والمقتنيات.

يكمن التعقيد في العلاقة بين بانكسي وسوذبيز في كون بانكسي مناهض بالأساس للمؤسسات، يؤمن بنظرية الفن للجميع، ورغم أنه اقدم على بيع أعماله؛ إلا أنه يستنكر بيعها بأسعار سوق الفن الباهظة. ورغم ذلك لا تزال لوحاته تُعرض في المزادات حول العالم سواء كانت مسروقة، أو ضمن مجموعة يمتلكها جامعو أعماله، أو بواسطة متعهدي بيع أعماله "بيست كونترول". ويرد بانكسي بمقالبه التي تطال أعماله كواقعة فتاة البالون؛ أو يعلق مستهينًا بشره سوق الفن.

بدأت علاقة بانكسي وسوذبيز في عام 2004، عندما باعت سوذبيز إحدى لوحاته المطبوعة. ثم في أكتوبر/تشرين الأول 2006، قامت سوذبيز بعرض 6 لوحات سيرجرافية لعارضة الأزياء الإنجليزية الشهيرة كيت موس. واستوحى بانكسي هذا العمل من لوحة مارلين مونرو السيراجرافية لفنان الپوپ آرت الأمريكي الراحل آندي وارهول. قُدرت تلك اللوحات بـ10 آلاف جنيه استرليني، لكن بعد سُعار المزايدين تم بيعهم بخمسة أضعاف ثمنهم.

أعقب ذلك مزاد آخر عام 2007، بيعت فيه لوحة"تفجير وسط إنجلترا" بمبلغ 102.000 جنيه استرليني. علقت إيلي فارنافيديس، متخصصة الفن المعاصر بسوذبيز، قائلة "ليس من المعتاد أن نبيع أعمال تستخدم دهانات الرش، لكننا سنرى المزيد من بانكسي، كما يبدو أنه يبني وجودًا عالميًا. نحن متحمسون جدًا بضم أعماله في البيع القادم في فبراير".

وبالفعل في فبراير/شباط العام التالي، عرضت سوذبيز ستة أعمال لبانكسي على مدار يومين، بمجمل ثلاث لوحات في اليوم. حصد فيها المزادان مبيعات تجاوزت كل ما بيع لبانكسي في المزادات السابقة. وجاء رد فعل بانكسي متزامنًا مع يومي المزاد؛ حيث نشر على موقعه الشخصي صورة مشهد لقاعة المزادات، تُظهر أناسًا يزايدون على صورة مكتوب عليها "لا أصدق أيها الأغبياء أنكم تشتروا هذا الخراء بالفعل".

 

لوحة الأغبياء (2006) - موقع بانكسي الرسمي

لسخرية القدر، تم عرض تلك اللوحة ضمن أعمال أخرى لبانكسي عام 2014، حيث نظم ستيف لازاريديز، مدير ومتعهد بيع أعماله السابق، معرض بيع بعنوان "الاستعادي غير المصرح به" في سوذبيز لندن.

هل وقعت أناركية بانكسي في حفرة سوق الفن التي تلتهم كل ما هو سائد ومثير للجماهير؟

في مقالة كتبتها الكندية لورين كولينز في ذا نيويوركر عام 2007، تنقل عن بانكسي قوله "عالم الفن هو أكبر نكتة تحدث"، وأنه "دار رعاية لذوي الامتيازات الكثيرة، والمدّعين، والضعفاء". وتعلق كولينز  "بانكسي كان هنا.. الرجل الخفي لفن الجرافيتي" مبينة مدى الرؤية الراديكالية المتهكمة لبانكسي.

لكن النكتة الأكبر؛ هي أن سعر لوحة "فتاة البالون" ارتفع بعد تمزيقها، لدرجة جعلت جامعي أعمال بانكسي يتساءلون إذا كانت قيمة أعمالهم الفنية سترتفع إذا قاموا بتمزيقها، ليس هذا فقط؛ بل قامت سوذبيز بتقديم اللوحة الممزقة كأول عمل فني يتم خلقه مباشرًة على الهواء خلال مزاد، وأسمتها "الحب في سلة المهملات"، بعد موافقة "بيست كونترول"؛ متعهدي خدمات تسليم وبيع أعمال بانكسي نيابة عنه.

وقررت المشترية، وهي سيدة أوروبية من جامعي الأعمال الفنية وعميلة قديمة لسوذبيز، أن تستكمل عملية الشراء بنفس السعر، وتحتفظ باللوحة كما هي. وجاء تعليقها حسب ما ذكره موقع سوذبيز "عندما سقطت المطرقة في الأسبوع الماضي وتم تمزيق العمل، صُدمت في البداية، لكنني بدأت أدرك تدريجيًا أنه سينتهي بي المطاف ولدي قطعة فنية تاريخية". وهكذا خرجت سوذبيز، ومعها سوق الفن والمستهلكين ممتلئي البطون.

 

روبن هود

في إجابة له عن سؤال يتعلق باهتمام دار "سوذبيز" للمزادات بعرض أعماله في 2014، أجاب بانكسي في حوار نشره وقتها على موقعه الشخصي قائلا "كطفل كنت أحلم دائمًا بأن أكون شخصية في قصص روبن هود. لم أكن أدرك أبدًا أن ينتهي بي الحال كواحد من العملات الذهبية".

بالفعل انتهى الحال ببانكسي إلى أن يكون عملة ذهبية في سوق الفن، لكنه في نفس الوقت استغل الأموال التي اكتسبها من الأغنياء في إنتاج وتمويل أعمال تعبيرية ضخمة، لا تقتصر فقط على جدران الشوارع المملوكة للدولة والأفراد، بل أنشأها هو بنفسه مثل ديزما لاند - أو النسخة الديستوبية من ديزني لاند - التي دشنها في أغسطس/آب 2015، بالقرب من مدينة بريستول مسقط رأسه.

ديزما لاند هي مهرجان للفن، والملاهي، والأناركية للمبتدئين كما وصفها بانكسي في حوار له مع صحيفة الجارديان البريطانية عقب الافتتاح الذي استمر حتى سبتمبر/ أيلول من نفس العام.

لم يتوقف بانكسي عند محطة ديزما لاند فقط، لكنه انطلق لبناء صرح أكبر، في مكان لم يكن في الحسبان، "فندق الجدار" the walled off hotel  المطل على أسوأ منظر في العالم؛ الجدار الإسرائيلي العازل في بيت لحم المحتلة.

تم بناء الفندق في سرية تامة على مدار 14 شهر، وافتُتح في مارس/آذار 2017. عندما سُئل بانكسي عن توقيت إنشاء الفندق كان رده "لقد مضى مائة عام بالضبط منذ أن سيطرت بريطانيا على فلسطين وبدأت في إعادة ترتيب الأثاث - مع نتائج فوضوية". وأضاف "لا أعرف السبب، لكني شعرت أنه وقت جيد للتفكير في ما يحدث عندما تتخذ المملكة المتحدة قرارًا سياسيًا كبيرًا دون فهم كامل للعواقب". في نفس الوقت يؤكد الموقع الرسمي للفندق أنه غير متسق مع أي حركة سياسية أو جماعات ضغط (لوبي)، وأن إدارته وعامليه الفلسطينيين يرحبون بشكل خاص بالشباب الإسرائيليين الذين يأتون بسعة صدر.    

                  قائمة موسيقية تضم نتاج ورشة أقامها المنتج الموسيقي البريطاني براين إينو في فندق الجدار

في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، نظم بانكسي "حفل اعتذار" للشعب الفلسطيني يتزامن مع مئوية وعد بلفور في ساحة فندقه في بيت لحم. شارك في الحفل أطفال من مخيمات البلدة، إذ أقيم حفل شاي إنجليزي ساخر، استضافته ممثلة ارتدت قناعا عليه صورة ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية، بينما ارتدى الأطفال خوذات عليها العلم البريطاني وآثار خرق للرصاص، كما نصبت أعلام بريطانية تالفة في المنطقة، وأزيح الستار عن جزء صغير في الجدار العازل محفور عليه "إي.. آر" الحرفان الأولان للشفرة الملكية للملكة إليزابيث الثانية (إليزابيث ريجينا)، تحتها جملة "آسفة" بالإنجليزية.

إذا عدنا للوراء، تحديدًا في مايو/أيار 2012، قبيل احتفالات اليوبيل الماسي للملكة إليزابيث الثانية وأولمبياد لندن، أطل بانكسي عبر جدارية له في شوارع لندن تمثل طفل عامل حافي القدمين، منكب على ماكينة الخياطة، يقوم بخياطة أعلام بريطانيا على خيط، كزينة احتفالية. كانت الجدارية تصفع استغلال البريطانيين للأطفال الأجانب كعمالة في الدول الفقيرة؛ تنتج لهم سلعهم الترفيهية، بجانب السخرية من احتفالات اليوبيل الماسي.

 

جدارية عمالة العبيد (2012) - موقع فليكر

في عام 2004، قام بانكسي بطباعة مليون جنيه استرليني من فئة العشرة جنيهات، استبدل فيها صورة الملكة إليزابيث الثانية بصورة للأميرة ديانا، مع تغيير جملة "بنك انجلترا" إلى "بنك بانكسي". في نفس العام، تناثرت بعض هذه الجنيهات فوق الجماهير في كرنفال مدينة نوتينج هيل الإنجليزية، ومهرجان آخر في مدينة ريدينج غرب لندن. بيع واحد من الجنيهات في دار مزادات بونمز في لندن بمبلغ 24 ألف جنيه استرليني، كما عُرضت للبيع على موقع إيباي، ولا تزال معروضة على موقع سوذبيز الرسمي.

جاء تكليل أناركية وشعبية بانكسي، عندما وضعته مجلة تايم الأمريكية ضمن قائمة المئة الأكثر تأثيرًا في العالم لعام 2010، وترشح فيلمه الوثائقي "الخروج عبر محل الهدايا" لجائزة الأوسكار عام 2011.

بالنظر إلى شخصية روبن هود؛ الشخصية الفولكلورية الإنجليزية التي عاشت في العصور الوسطى، ومثلت الفارس الشجاع المتمرد على القوانين، والمبدأ القائم على محاربة الظلم والطغيان ونصرة الفقراء والمستضعفين؛ لا نرى اختلافات كثيرة بين بانكسي وروبن هود، غير أن بانكسي شخصية معاصرة، تكمن مهارتها في استخدام عبوات الرش بدلا من رمي السهام.

سواء اختلفت وجهات نظرنا في بانكسي حول إذا ما كان بطل أم مدّعي، منافق أم صادق؛ يصعب أن نختلف على كونه أصبح أيقونة في عصرنا الحديث.