إدوارد سعيد

إدوارد سعيد.. ذاكرة خارج المكان

منشور الأربعاء 31 أكتوبر 2018

 

ولد إدوارد سعيد في القدس 1 نوفمبر/ تشرين ثان 1935،وتوفي بنيويورك في 25 سبتمبر/ أيلول 2003. بدأ دراسته في مدرسة فيكتوريا كولدج في الأسكندرية بمصر، ثم سافر إلى الولايات المتحدة كطالب، وحصل على درجة البكالوريوس من جامعة برنستون، ثم الماجستير، والدكتوراه من جامعة هارفارد. يعد كتابه "الاستشراق" نصًا مؤسسًا في دراسات ما بعد الكولونيالية. كان سعيد منتقدًا قويًا ودائمًا للحكومتين الإسرائيلية والأمريكية، لما كان يعتبره إهانة من الدولة اليهودية للفلسطينيين. كما كان من أشد المعارضين لاتفاقيات أوسلو وانتقد ياسر عرفات، واعتبر أن اتفاقيات أوسلو كانت صفقة خاسرة للفلسطينيين. إدوارد سعيد الناقد الأدبي، ورائد دراسات ما بعد الاستعمار post colonialism. أعماله الأساسية تشمل "الاستشراق"، "تغطية الإسلام" و"الثقافة والإمبريالية". خلفيته الخاصة؛ النشأة في أسرة فلسطينية مسيحية بين مصر ولبنان، وطموحاته الثقافية الإنجليزية والأمريكية، أدت إلى إحساس مرتبك بالثقافة والتهجير. في هذا الحوار الذي أجراه معه فيليب لوبات، يتحدث إدوارد سعيد عن مذكراته التي حملت عنوان (خارج المكان).


 

إدوارد سعيد في عامه الأول مع والدته

فيليب: إدوارد، الكتابة في هذا الكتاب تبدو مختلفة عن كتاباتك الأخرى. الأسلوب يبدو عاطفيًا أكثر.

سعيد: حسنًا، لقد وجدت أنه من الضروري بالنسبة لي أن أكتب بشكل يومي، لقد كنت مريضًا جدًا معظم الوقت. إذا كنت تتحدث عن الذاكرة، فعليك تنقيحها بحيث تكون صحيحة تمامًا. ووجدت نفسي أكتب ثم أعيد الكتابة كثيرًا، وهو أمر لم أكن أفعله كثيرًا. من المثير للاهتمام دائمًا تجربة الخط الفاصل بين ما هو شخصي بحيث لا يمكن لأحد أن يفهم ما تقوله، وبين ما هو رسمي جدًا بحيث يتنبأ الجميع بما ستقوله بالضبط. لو عشت قدر السنوات التي عشتها أنا، فستحاول أن تكون غير متوقع بعض الشيء. عندما حاول بعضهم اقتطاع مقتطفات من الكتاب، وجده ليس سياسيًا بما يكفي. لم يكن الغرض الأساسي للكتاب هو أن يكون سياسيًا، بل أن أكتب عن هذا العالم العجيب، غريب الأطوار الذي نشأت فيه، وأن أكتبه بأمانة قدر استطاعتي.

فيليب: تذكر في المقدمة أنك لا تريد أن تؤذي أحدًا، ولكن هي حكايتك، ولديك الحق في أن تحكيها بطريقة ذاتية. 

سعيد: عائلة جدتي لأمي من جذور لبنانية. وقد خاض لبنان تلك الحرب الأهلية المروعة، تشرذمت العائلة إلى جهات شتى، ولم أتمكن من أن أشيح ببصري عن جذور ذلك الصراع هناك. بطريقة ما، كنت أشعر في كثير من الأحيان بأنني كنت أتملص من الماضي، لأن عائلة والدتي كانوا أشخاص مقربين، ولكنني كنت قد ابتعدت مع الوقت، ووجدت نفسي على الجانب المقابل لهم، خلال الحرب الأهلية (الحرب تضمنت عدوانًا على الفلسطينيين اللاجئين في لبنان).

فيليب: المثال الأكثر وضوحًا هو صهرك، رجل الدولة والفيلسوف، تشارل مالك. إنه شخصية خارقة لأنه عادة يتم تصويره بطريقة عاطفية إلى حد ما، رغم أنه كان على صلة مع الكنيسة المارونية.  سعيد: ومع الغرب.

فيليب: إذا نظرنا لخلفيته سنجد أن موقفه منطقي تمامًا. لماذا كنت مندهشًا إلى هذا الحد؟ سعيد: كان مالك قدوتي أثناء نشأتي؛ شخص درس على يد هايدجر. بالطبع، لم أكن أعرف الكثير عن ماضي هايدجر، لذلك ربما لم يكن علي أن اتفاجأ، لكنه مثّل التفتيش وراء معرفة الحقيقة. كان لديه حضور لا يصدق. كان فيلسوفًا سقراطيًا، تأمليًا، فذًا وساخرًا إلى حد ما. لكن مع مرور الوقت، في أواخر السبعينيات، كلما عرفت عن مالك أكثر كلما أصبحت الأمور أكثر بؤسًا. بعد أن كان سفيرًا لبنانيًا في الولايات المتحدة، بات يرى أن الشيوعيين يجب أن يُقتلوا، والمسلمون هم هذا، أو ذاك، أو أي شيء آخر ... لقد كان تحولاً قبيحًا لم أقدر على استيعابه أبدًا.

فيليب: هناك تلك اللحظة الرهيبة التي مات فيها والدك ولم يذهب مالك إلى الجنازة، متذرعًا بأنه "يتناول غداءً مهمًا للغاية مع المبعوثة البابوية". سعيد: أنا لم أسامحه أبدًا على ذلك. كان والدي من أوائل من قدموا له الرعاية. على أي حال، لا يزال هناك كثير من الناس معجبين به (يقصد شارل مالك)، وهناك شوارع في بيروت سميت باسمه. أشعر أنه قام بشيء لم يكن يجب عليه القيام به. بعبارة أخرى، أعتقد أنه تحول من كونه مستشارًا روحيًا لكونه مستشارًا سياسيًا. وبالنسبة لنا، كفلسطينيين، كان من الصعب جدًا تقبُّل ذلك بسبب المجازر. فيليب: يمكن القول أنك كنت الخارج الوحيد على هذه العائلة، وليس هو. سعيد: وأنا أعرف هؤلاء الذين يشعرون بالأمر نفسه. أعتقد أن هذا صحيح.

 

 

شارل مالك

فيليب: إذا نظر الواحد إلى منهجك في كتابة المذكرات من زاوية منفصلة قليلًا، سيبدو له أنك كنت غافلاً تمامًا بينما كانت تدور تلك الأحداث من حولك. ثم في وقت لاحق، وربما كنوع من التعويض؛ صرت مناضلاً ملتزمًا في الحركة الفلسطينية. هذا الحس بعدم الولاء الذي يتسرب عند قراءة هذه المقاطع في المذكرات هو نفسه ما تصفه أنت في حديثك عن انفصالك البارد بشكل عام، والوقوف مع أقارب والدتك ضد والدك. يبدو أن هناك نمطًا من الاحتياج للخروج عن القطيع.

سعيد: ليس هذا فقط، لكن قالب المذكرات ليس شكلًا عربيًا شائعًا. أنا قلق بشأن استقبالها في العالم العربي، حيث المذكرات السياسية أو الروحية شائعة، لكن المذكرات الحميمة نادرة جدًا.

فيليب: في الصفحات الأولى، تقول "لم أكن أقرأ كتبًا تحوي مذكرات أثناء الكتابة. لم أكن أريد أن أتأثر". بدا لي هذا كهفوة ساذجة؛ إذ أنك كنت تقرأ المذكرات طوال حياتك.  سعيد: لكني لم أعد إليها. لقد كان تمرينًا في الذاكرة، هذا هو ما وجدته معي أثناء رحلة محنة مرضي المروعة.

فيليب: ما هو الرابط بين إصابتك باللوكيميا وكتابتك تلك المذكرات؟ سعيد: توفيت والدتي قبل عام من تشخيصي بالمرض، وكما هو واضح؛ كنت مقربًا جدًا من والدتي. هي ماتت من السرطان وهناك صلة بين مرضها ومرضي. والشيء الآخر هو أنني شعرت بأن حياتي كانت تتآكل. هناك شيء خبيث وشرير في مرض لا يوجد له علاج معروف، لذا كنت أستعد منذ البداية لشيء ما، لكني عانيت لمدة سنتين أو ثلاث سنوات، لا توجد أعراض فعلًا ولا علاج. بمجرد أن بدأت العلاج، أدركت أنه لا توجد حدود لما يمكن أن يحدث. خيال الواحد تولِّى الأمر. كتابة هذا الكتاب كانت طريقة للتنقيب عن الماضي، وهو ما لم أقم به من قبل على الإطلاق، كانت طريقة للهروب من هذا العذاب. وسافرت. لقد قمت بأول رحلة كبيرة إلى مصر في الفترة الفاصلة بين برامج اعلاج الأولى. ذهبت إلى حيث نشأت في القاهرة، بدا ذلك طريقة للحفاظ على سلامة عقلي، وما يمكن تسميته كرامتي أو اعتباري.

فيليب: لأن خوض رحلة العلاج مدمر جدًا؟

سعيد: نعم، وتجريد من الإنسانية. بالأخص في الصيف الماضي، عندما أنهيت الكتاب، كنت أمر بعلاج رهيب يستمر لاثني عشر أسبوعًا؛ يعطونك أشياء لتجعلك نعسان، فيقل شعورك بالجرعات التي تتلقاها، وكان جسدي يقاومه، فأتعرض لرجفة شديدة وحرارة عالية وهكذا.

فيليب: على ذكر التمسك بكرامتك. هل من الإنصاف قول أنك كنت تريد أيضًا تحقيق طموح أدبي من خلال النمط الكلاسيكي من النقاد الذين يكتبون الروايات أو المذكرات؟ ألفريد كازين كتب مشاء في المدينة، أو مذكرات إدموند ويلسون في مقاطعة هيكاتي، أو رواية ليونيل تريلينج، الذي ندم على أنه لم يكتب المزيد من القصص الخيالية. هل شعرت بذلك قبلا؟

سعيد: لا، ليس بهذه الطريقة. أنا سعيد جدًا بما أنجزته ولا أضع تلك الحدود (بين النقد والإبداع). إنه ليس طموحًا أدبيًا، ولكنه جزء من حياتي أشعر أنه لم ينل ما يستحق بشكل عام. أو ليس حياتي تمامًا؛ وإنما البيئة المحيطة. 

فيليب: وكيف تفكر بصدد ممارسة هذا النوع من الكتابة الذي يتعرض لنقد بهذا الشكل؟ سعيد: كان ذلك أحد الأسباب التي جعلتني لا أقرأ المذكرات أو أدخل في هذه الجدال بأكمله. حقيقة أن الجميع يكتب مذكرات الآن، الحالة التطهرية بأكملها، شيء أجده مقيتًا تمامًا. لذلك، ظللت أخبر نفسي بأنني لم أكن أكتب عن نفسي في الحقيقة، ولكني قمت بكتابة مزيد من المعلومات حول هذا العالم الذي لعبت فيه دورًا ما، وخفَّفت من ذكر ذلك الدور قليلًا. أيضًا، كان هناك حقيقة أنني كنت أحاول، قدر الإمكان، أن أكتب بتهكم بدلا من التعالي الأخلاقي. فيليب: رزانة! سعيد: نعم. كما ترى في الكتاب، لم أكن معتدًا بنفسي في سنوات عمري الأولى. كنت دائمًا متوترًا وتحاصرني الضغوط بصورة ما، ولكن كانت هناك لحظات تنوير. 

فيليب: أنت تتحدث عن أحوال إدوارد [سعيد] المختلفة. عندما كنت طفلاً، شعرت أنك كنت تخذل عائلتك دائمًا، ولا ترقى إلى مستوى توقعاتها، لكن والدتك تذكر أحداثًا تبدو فيها وكأنك كنت طفلاً معجزة. لماذا لا تتذكر هذا الجانب من نفسك؟ سعيد: ما أفتقر إليه هو الاستمرارية. طوال السنوات التي عشتها في مصر؛ استمررت في الانتقال من مكان إلى آخر، وهو ما لم يسمح لي بتنمية أي شيء. لقد أذهلتني سرعة زوال كل هذا. ما زلت أشعر بأن كل شيء مؤقت، أنني في ممر، مرحلة عبور. فيليب: إنه أمر غريب ومؤثر جدًا عندما تكتب عن الظروف التي نشأت فيها. حياتك في القاهرة تبدو وكأنها صبا في العصر الفيكتوري، فكل شاغل والديك كان ما إذا كنت تمارس العادة السرية أم لا. سعيد: نعم، تبدو تصرفات عفى عليها الزمن.

فيليب: لقد شعرت فجأة بهذا الشعور كما هو الحال في رواية جورجيو باساني، حديقة فينزي-كونتيني، كأنني في ذلك العالم المغلق على الطبقة المتوسطة العليا. سعيد: نعم، هذه كتلة بشرية في حالة انحسار دائم، كانت طوال الوقت مهددة بالانقراض، خصوصًا في الخمسينات. في السنوات الأولى للثورة المصرية، التي كنا جميعا مؤيدين لها، لم يكن لدى أي شخص أي حنين تجاه الملك فاروق وجاء العصر الثاني من الخطر في وقت السويس، في عام 1956، ومرة أخرى خلال حرب عام 1967. كان هناك شعور بأننا كنا أعداء الشعب، عزز من هذا حقيقة كوننا فلسطينيين.

فيليب: الفقرات التي تتحدث فيها عن عبد الناصر تبدو مترددًا. يبدو أنك كنت في موقف صعب، كما لو كنت لا تريد أن تنتقده بالكامل. ومن الواضح أنك لا تريد أن تصطف مع زمرة محبي الملك فاروق، ولكن من ناحية أخرى... سعيد: ولا زمرة السادات الذي ظهر فيما بعد بصورة مغايرة تمامًا.

 

متجر الأدوات المكتبية الذي كان يملكة والد إدوارد سعيد في القاهرة

فيليب: أنت تأتي على ذكر الحشود التي أحرقت متجر والدك. سعيد: كان ذلك في أيام فاروق الأخيرة، قبل ستة أشهر من الثورة (يتزامن ما يذكره سعيد هنا مع حريق القاهرة الشهير في يناير/ كانون ثان 1952). كان أكبر إدانة لناصر في الكتاب هو الجزء المتعلق بصديقي الذي تعرض للتعذيب في السجن. ولم أسامحه (ناصر) حتى الآن على بطشه باليسار. في نفس الوقت الذي لعب فيه دورًا مهمًا في العالم العربي وتوحيده للعرب، فقد قاد حملة واسعة ضد الناس الذين هم أصدقائي اليوم. مفكرون يساريون، دُمرت حيوات الكثيرين منهم خلال سنوات سجنهم. لا يزال من غير الواضح بالنسبة لي: لم كان يفعل ذلك؟ لأنه كان على اتصال وثيق جدًا بالاتحاد السوفييتي، ومع ذلك فقد دمر الحزب الشيوعي المصري.

فيليب: أحيانًا يلجأ القائد القوي لقتل منافسيه. سعيد: كانوا متنافسين، لكن الشيء الآخر الذي أجده مثيرًا للقلق هو كيف تغير العالم (بالنسبة للمصريين والعرب) نتيجة لذلك. بات عند الناس كراهية للأجانب، وأسوأ دليل على ذلك هو ما حدث في لبنان: المسيحيون ضد المسلمين، الفلسطينيون في مواجهة العرب. إنها المشكلة برمتها مع إسرائيل، حيث يفكر الناس وفقًا للهوية.

فيليب: أنت تتحدث عن ذلك في الثقافة والإمبريالية: لعنة الهويات السياسية. سعيد: لقد دمرت حيوات كثيرة، ولهذا السبب أعارض بشدة شوفينية الانتماء لمكان. إنه شيء مبالغ فيه ولا يعطي الناس فرصة كافية للشعور بالاختلاف، الشعور بالآخر، وهو شعور هام على وشك الاندثار.

فيليب: أنا أوافق. رواية نجيب محفوظ ميرامار كانت أيضًا عن خيبة أمله مع ناصر. سعيد: بالتأكيد. رواية رائعة.

فيليب: ما رأيك في محفوظ؟ له حضور طاغ في القاهرة ومع ذلك لم تأتي على ذكره في كتابك. سعيد: لم أكن أعرفه في تلك السنوات. أعني أنه لم يكن جزءًا من تعليمي، فقد غادرت القاهرة عندما كنت في الخامسة عشرة من عمري، وهو أمر لا أزال أستاء منه. كنت خريج المدارس البريطانية، وكنت أعرف أكثر عن الهند وماليزيا والمستعمرات الأخرى، أكثر مما عرفته عن المكان الذي أعيش فيه. لم أتصالح وأتعرف على الأدب والثقافة العربيان حتى أتيت للتدريس في جامعة كولومبيا. اكتشفت محفوظ في 1972 عندما حصلت على أول منحة تفرُّغ لي. لذلك كان عالما موازيًا.

فيليب: يبدو من المذكرات أنه في تشكيلك الذاتي لهويتك، كانت الموسيقى أكثر أهمية من الأدب. سعيد: بطريقة ما نعم، بطريقة ما لا. لقد أثرا معًا (الموسيقي والأدب) وخاصة فن الأغنية. كان أكثر الأشياء تأثيرًا في عندما كنت صغيرًا هو غناء أمي. كنت موهوبًا بشكل استثنائي في الموسيقى. لسوء الحظ لم يكن لديّ مدرسين من الدرجة الأولى. أعني، لم تكن البيئة مناسبة لذلك.

فيليب: يبدو كما لو كان للموسيقى معنى جنسي بالنسبة لك. لقد تحدثت عن كيف كثّفت بعض الأوبرات على وجه الخصوص هذه المشاعر الإيروتيكية. 

سعيد: وكانت أيضًا مجال الخصوصية بالنسبة لي. لم تكن ملوثة بالتدابير، الأوامر، الأخلاق، العلامات التي نستخدمها لوصف الإنسان الاجتماعي. لم أكن مضطرًا لمشاركتها مع أي شخص. لقد كان عالمًا من الاستقلال النسبي بالنسبة لي، وفي هذا الإطار؛ كانت مهمة للغاية.

فيليب: يُقال إن المذكرات تنجح أو تفشل بناءً على مدى قوتها في تصوير الوالدين. لقد قمت بعمل رائع في تصويرك لأمك وأبيك. أمك هي أهم شخصية في الكتاب، أكثر أهمية منك حتى. سعيد: أمي دائمًا معي. لقد ماتت منذ ما يقرب العشر سنوات، والدور الذي لعبته في حياتنا كلها أمر لا نزال نحاول استيعابه، ولست متأكدًا أني نجحت. والدي هو شخصية منحوتة أكثر، والخطوط العريضة له أكثر وضوحًا. أمي تسللت بشتى الطرق إلى كافة تفاصيل حياتنا، في حين أن هناك شيء متصلب بخصوص والدي.

فيليب: أنت تقول أنها كانت مترجمته الفورية. سعيد: كانت علاقتهما مثيرة للغاية. لم أكن أفهمها تمامًا. اعتادت أن تقول صراحةً أنها لم تكن تحب أبي عندما تزوجته، ولكن بعد ذلك أحبته. وبالطبع، ذهب عقلي على الفور إلى الفترة التي لم تكن تحبه فيها، ماذا كانت؟ كان والدي دائمًا رسميًا جدًا في حديثه عن هذا الموضوع؛ يجب عليك الزواج، الاستقرار، وذلك جعل الاستقرار العائلي بالنسبة لي شيئًا مرعبًا جدًا، لأنه كان هدف والدي المفضل. لكن من الواضح أنه كان لديه حياة سرية لم أتمكن من وضع يدي عليها. أعلم أنه كان هناك شيء ما في السنوات التي سبقت زواجه من أمي عندما غادر فلسطين وعاش في القاهرة في أواخر عشرينات القرن العشرين. لابد أن هناك شيء ما. كانت تلك السنوات الأكثر انحطاطًا في القاهرة، ملاهي المتعة التي أراني إياها، والتي بدأت أتساءل عنها فيما بعد.

 

غوازي القاهرة في العشرينات - موقع global urban history- مقال عن تاريخ البغاء في مصر 

فيليب: بعض من هذا التساؤل والتخمين، هو افتراض منك أنه ربما كان لديه زوجة وأسرة أخرى في مكان ما. يبدو هذا كاحلام عسيرة التحقق. قد تكون الحقيقة أنه كان وقور إلى حد كبير، رجل متبتِّل (مترفع عن الجنس) عبقري في عمله. سعيد: أردت أن أجعله أكثر إنسانيةً، وكان ذلك صعبًا

فيليب: يبدو مثيرًا للتعاطف في الكتاب، فأنت تصوره خطوة بخطوة، حتى الصفحة 97 التي تخبرنا فيها أنه كان رجل أعمال مهم للغاية في الشرق الأوسط، وهو من اخترع فكرة استخدام المعدات والأدوات المكتبية الحديثة في هذا الجزء من العالم. سعيد: لقد اخترع البيروقراطية؛ البيروقراطية العقلانية.

فيليب: معظم الناس على شاكلته يا إدوارد، لا يتمتعون بالحساسية. ليس لديهم هذا الجانب الآخر المنفصل بأكمله، حيث يعيشون حياة أخرى سرية. سعيد: من المهم جدًا أن أقول لك هذا، حتى لو كان موجودًا في الكتاب؛ لا أذكر أن أبي قال أي شيء حنون، وهو أمر صعب للغاية. لكنه كان رؤوفًا، بطريقته التي تعني أنه كان كريمًا للغاية. لكن كان هناك شيء فيه ينفر من العطاء (العاطفي). عندما مات؛ أشاح بوجهه نحو الحائط.

فيليب: وأشاح بوجهه عنك عندما سقطت. سعيد: أمور من هذا القبيل. من نواح كثيرة أعده مسؤولا عن الانفصال العاطفي الذي أحمله الآن. لكن في ذلك الوقت، كان بمثابة حرمان عاطفي. كنت ألجأ دائمًا إلى أمي. لدي هذا الشعور، الذي عبرت عنه أمي مرة واحدة، بأنه كان يعتقد أنه من المهم بالنسبة لي أن أخرج من تحت سيطرة والدتي. وكان ذلك أحد الأسباب التي جعلته يرسلني للدراسة في أمريكا.  فيليب: في المذكرات تقول إنه حررك من والدتك، وكان على شخص ما أن يفعل ذلك. لذا، شئنا أم أبينا، هو كان محررًا لشبابك. سعيد: لم يعجبني ذلك.

فيليب: القامع والمحرر. سعيد: أعتقد دون قصد. لأنه كان هناك دائمًا شيءٌ ما بخصوص وفائي الباقي لأمي. كنت سأذكر ذلك في الكتاب لكني استبعدته: لقد قدَّمت حفلة بيانو عام 1957 في القاهرة بعد تخرجي من برنستون. وكان والدي يطاردني لمدة أسبوع قبلها ليحثني على الوقوف وشكر والدتي قبل الحفلة، لكني قلت "لا أستطيع أن أفعل ذلك، إنها حفلة بيانو!" كان مُصِرًا بطريقة لطيفة، لكنني تساءلت بخصوص كل هذا. أعتقد أنه شعر بالذنب لأنه فصلني عن أمي. كان يريدني أن أعود إليها.

فيليب: في تصويرك لأمك، هي تأتيك، موجة بعد موجة. إنه تمثال منحوت، وهي محيط. يمكنك وصفها بأنها محبة بلا حدود يليها منع، تعد بشيء ثم لا تقدمه. تساءلت عندما كنت أقرأ تلك المقاطع كم كان هذا بسيطًا: أهو الفطام الضمني في العلاقة بين الأم والابن؟ كونها كانت كل شيء ثم الحرمان منه؟

سعيد: كانت لها نفس العلاقة مع أخواتي. شعرت أمي أنها اضطرت للتوسط في كل علاقة في المنزل، وكانت مستعدة بلا حدود للقيام بذلك. كان هناك الكثير من العمل، وفي سنواتها ما بعد وفاة أبي، حرمت نفسها من الاستمتاع بالحياة، أصبح من الصعب إرضاءها، وكانت دائمًا مكتئبة وغير سعيدة. قالت "حياتي هي أولادي!"، قلت "لكن أمي، أطفالك كلهم بعيدون وتجاوزوا الثلاثين وبمقدورك القيام بأشياء أخرى!"، "لا، أنا غبية جدًا. أنا لست جيدة لأي شيء آخر! ". كانت بالتأكيد واحدة من أكثر النساء اللاتي قابلتهن في حياتي ذكاءً. لكنها رفضت أن تفعل أي شيء آخر غير أن تكون أمًا.

 

إدوارد سعيد مع أمه وأخاه الأكبر - من عرض تقديمي عن حياة سعيد وكتابه الاستشراق في جامعة برينستون

فيليب: في الكتاب هناك استعارة مثيرة جدًا؛ حيث تقارنها بالوضع الاستعماري: كان كل شيء يتم من خلالها، لذا كانت مثل مستعمرة بالنسبة لعاصمة الإمبراطورية. سعيد: لقد كانت هي العاصمة، كان على كل شيء أن يمر بها، وكانت تجعل للأشياء معنى بالنسبة لنا. كانت مترجمة عظيمة، ليس فقط لأبي، ولكن للحالات التي وجدنا أنفسنا فيها. كانت أمي المفسرة. لا، هذا ليس كافيًا لها. لقد كانت المترجم الأعظم. لم تفعل أمي شيئًا سوى التفسير: فسرت لنا الأشياء غير الحية، وشرحت لنا سلوك الناس ونواياهم وتاريخهم. وقد استند الكثير منها إلى تكهنات لا تصدق، وكانت تكهناتها في كثير من الأحيان تنطلق من اللا شيء، أو من أدلة قليلة جدًا، لكن الفكرة كانت هي أن هناك هذا العالم النابض المعقد بأكمله... فيليب: يُظهِر ذلك مزاجًا روائيًا. سعيد: لقد كانت قارئة نهمة، ومن خلالها عرفت الروايات العظيمة - ديكنز ودوستييفسكي وتولستوي – كان لديها موهبة مذهلة، سلسلة لا نهائية من التخمينات بخصوص ماذا يمكن أن يعنيه شيء ما؟ ستجلس هناك وتقول "هل لاحظت طريقة جلوس فيليب؟ ماذا تفترض أن يعني؟ "وستستدير وتذهب ولن تنتظر إجابتك. كانت مواكبتها تحديًا، وأكثر الأشياء غموضًا التي قالتها-بصورة مفاجئة إلى حد ما - كان: "لقد خاب أملي في أبنائي!".

فيليب: أتذكر تلك الجملة لأني أردت أن أسألك عنها! سعيد: لا أعرف ما هو قصدها. فيليب: هذا معتاد، وهو ما يحسه الآباء عادة ويقولونه لأولادهم. سعيد: أقلت ذلك لابنتك؟ أيمكن أن تقول لها ذلك؟ فيليب: لا. سعيد: ولا أنا. فيليب: لكن في أفلام المخرج الياباني أوزو، يقول الآباء دومًا كم أن أبناءهم محبطون بالنسبة لهم. سعيد: لكنهم يقولون السبب.

فيليب: إلى حد ما. سعيد: أمي قالت لي " لن تعرف أبدًا".

فيليب: إنها شخصية الأم الدرامية الهستيرية قليلاً. سعيد: هناك أمثلة أخرى، لكني لا أستطيع أن أشرح تأثيرها المدمر عليّ.

فيليب: بالنظر إلى كل ما يقدمه الوالدان لأطفالهما، ومدى أهمية الأطفال لهما، وكيف أن الأطفال يبتعدون دائمًا، لا بد أن يكون هناك نوع من خيبة الأمل العميقة. سعيد: أنا أتفق. دعني أزايد قليلًا وأقول بشكل أدق ما أعتقد أنها كانت تفعله. لا تنسَ أنها كانت المفسرة العظيمة ولكن مع الاحتفاظ بمفتاح الفهم. لقد فسرت الوضع، لكن لن تخبرك وفقًا لأي معايير. تُركتني أحدق في باب مغلق. كنا ما زلنا صغارًا جدًا لتكون لنا حياة مهنية، كان عمري 15 أو 16 عامًا، وكانت أختي الثانية تصغرني بعامين، لذا فنحن لا نتحدث عن أشخاص ناضجين بشكل كامل. كان ذلك غير مبرر. لقد قادنا إلى ثقتها، لكن لم يعطنا سبب خيبة الأمل. ثم استؤنفت الحياة. كان لغزًا، على الأقل كان هذا ما عشته، وما تحملت وطأته.

 

إدوارد مع أخته في الزي الفلسطيني- التقطت الصورة في القدس عام 1941

 

فيليب: هذا يذكرني بشيء آخر. أنت تتحدث عن قضاءك قدرًا ليس بالهين من حياتك المهنية في محاولة لإزالة الغموض عن السلطة والافتراضات الضمنية المنسوجة حولها. أحد الأشياء التي تكرهها في إيديولوجية الطبقة الحاكمة؛ هو أنها تغير معاييرها دون إنذار. فيما قلته للتو، يبدو أنك تحاول العثور على المفتاح لبوابة سياساتك الخاصة، من خلال التحليل النفسي. وقد تكون أمك مهمة جدًا لذلك.  لكن هل تشعر وكأنك تعطي أعداءك سلاحًا؟ كما اعتاد الناس أن يقولوا عن الـ SDS [طلاب من أجل مجتمع ديمقراطي]: إن غضبهم ما هو إلا تعبير عن عقدة أوديب. سعيد: لا أربطها مباشرة بما أتبناه من سياسات. يعتمد الكثير مما أقوله عن والدتي على مظهرها. كانت امرأة جميلة بشكل مذهل، وقد هيمنت أناقتها على أطفالها بالكامل. شعرنا جميعًا بالارتياح أثناء وجودها. كانت مضيفة رائعة، ومحادثة عظيمة، كانت لديها ابتسامة ساحرة، تلك تراها في الصور في الكتاب.

 

فيليب: أنت تصفها بأنها مغرية للغاية، تجعل الجميع يشعرون بالأهمية، ثم فجأة، تجعلهم يشعرون أنهم قد خيبوا أملها بطريقة ما. سعيد: الطريقة التي عاملت بها أمها كانت غريبة للغاية، فأمها كانت سيدة دمثة ولطيفة للغاية، وليس لديّ أي تذكّر لأي شيء سوى تلك المسحة من المرارة والازدراء على وجه أمي لجدتي. لابد أنها فعلت شيئًا لجرح أمي بشدة. ربما تزويجها من هذا الرجل. لا أعرف.

فيليب: ربما لم تكن محفزة بما يكفي لأمك. سعيد: لا، لأن أمي لم تكن قاسية، لكنها كانت - هناك سطر في رواية [جيمس] جويس صورة للفنان في شبابه سأتذكره دائمًا - حيث يتحدث عن أداة تبريد دانتي الفريدة. هذا ما كانت والدتي عليه. كان لديها هذه القدرة الكبيرة على الفتور، وفي الوقت نفسه كان لها جانب آخر. فيليب: أنت تتحدث عن انفصالك الفاتر. هناك القليل من أمك فيك. في حضورك، أشعر دائمًا بأنني أهم شخص في العالم لك. ثم لا تحادثني لمدة خمس سنوات. (ضحك) أنت صاحب شخصية مُغوِيَة. سعيد: أنا لا أفكر في نفسي بهذه الطريقة، لكن أطفالي جعلوني أشعر بذلك. عندما لا نستطيع الحصول على طاولة في مطعم أو شيء ما، ابنتي تقول: "أبي، استخدم سحرك".

فيليب: أعتقد أن بعض أفضل المقاطع في الكتاب هي نلك التي تحوي تحليلاً للذات. أنت تتحدث عن موقفك تجاه الزمن باعتباره موعد تسليم حتمي deadline، كأنك لا تعرف كيف ترتاح، وأنك دومًا في موقف صعب من حيث الالتزامات. سعيد: أنت لا تشعر بذلك؟ فيليب: أشعر به طبعًا. عادةً ما أفكر في ذهني كمطار: "نجحنا في عملية إقلاع هذه الطائرة ولكن هناك طائرة أخرى علينا ان نساعدها على الإقلاع قريبًا. لقد أرسلنا هذه المقالة، والآن هناك واحدة تالية". بالأساس هناك شيء قلق في جوهر الشخص المدمن على العمل. ولكن، هل يقلل ذلك من مقدار المتعة التي تحصل عليها من الكتابة والقيام بالعمل؟ ربما لا يعني ذلك أنك لا تعرف كيف تسترخي؛ وإنما يعني أن العمل هو وسيلتك للاسترخاء.  سعيد: إنه الشعور بالواجب، وشعور بالتهديد في بعض الأحيان، ونوع معين من المتعة، ولكن ذلك يكون مؤقتًا جدًا. فيليب: وأي متعة في العالم تلك التي لا تكون مؤقتة؟  سعيد: حسن! هذه هي المشكلة في اعتقادي؛ لماذا لا يمكننا الحصول على المزيد؟ كم عمرك؟ فيليب: 55 عامًا. سعيد: أنت أصغر بكثير. لدينا هذه الفكرة؛ أن يصبح الواحد أكثر تميزًا مع نمو العمر. قال كينيث كوتش، "إدوارد، يبدو أنك مشغول جدا طوال الوقت. يجب ألا تكون مشغولاً هكذا". ولكن ربما يكون الأمر مزاجيًا. أنت مستمر في الاستجابة للتحديات، و ... شيء يأخذك إلى شيء آخر. أكتب مقالتين شهريًا، وهو ما ينمي شيئًا لم يكن موجودًا من قبل: الجمهور، جمهور كبير جدًا. فكرة أن الناس ينتظرون مقالاتك، تمنحك دافع لا ريب فيه لكتابتها، تنخرط في ذلك وتتورط.

فيليب: الكتابة لمجلة دورية ومعرفة أنك ستحصل على جمهور سريع، وتصبح شخصية [ذات شأن] في الثقافة، وليس فقط في المجال الأكاديمي، أمر رائع. سعيد: الرضا بسبب ذلك مؤقت. في حالتي، أحاول أن أشحن يومي بأكبر قدر ممكن من الأشياء. لقد قيل لي إنه ليس سرطان الدم الذي سيقضى عليّ، إنه جهاز المناعة الذي يتحسن ويتدهور نتيجة للمرض والعلاج الكيميائي. لماذا يجب أن أكون عاجزًا قبل أن يأتي أواني؟ سأكون عاجزًا، لذا بينما أنتظر تلك اللحظة؛ فسأقوم بالكثير من الأشياء أيضًا.

فيليب: هذه حجة ضد الانتحار أيضًا. سعيد: بطريقة ما نعم. حجة ضد المصير المحتوم.

فيليب: لكن بالعودة إلى مسألة المتعة. يذكرني هذا بمقطع في مذكراتك عن الأفلام المنزلية، أنت تشاهد الأفلام المنزلية - وكما هو الحال في جميع الأفلام المنزلية - الجميع يضحكون وسعداء، لكن أنت تعتقد أنهم كانوا يمثلون. لكن العكس قد يكون صحيحًا: أنك ببساطة لم تستطع الاستزادة من السعادة بنفس القدر طفولتك، كما قد لا تتمكن من استرجاع قدر كبير من المتعة التي تحصل عليها أثناء الكتابة، بينما تخوض حياتك العملية.

سعيد: إنها مسألة قدر ما يمكنك استعادته[من السعادة]. كيف أصبحت أشعر بأنني أعيش منبوذًا وحيدًا، وما إلى ذلك، خاصة بعد أن انخرطت في السياسة، هو أن سنواتي المبكرة كانت فترة شاعرية. لم أكن وصلت حتى للخمسينيات من عمري، وبدأت أدرك أن الأمر كان أكثر تعقيدًا. بعبارة أخرى، يمكنني أن أرجع الكثير من المشاكل والأحاسيس التي أشعر بها الآن إلى جذور في تلك الفترة المبكرة في حياتي.

صورة قديمة تجمع إدوارد سعيد وباراك أوباما عندما كان الأخير عضو كونجر عن ولاية شيكاجو- خلال أمسية لجمع التبرعات للاجئين الفلسطينيين

فيليب: متى اتجهت إلى العلاج النفسي؟ سعيد: بشكل متقطع. عندما كان عمري حوالي 40 سنة، ولفترة قصيرة، ثم عدت إليه بعد ذلك بقوة عندما كنت في الخمسينات من عمري. لقد كانت تجربة مهمة، ولكنها كانت أيضًا مُحطِمة، لأنني اكتشفت أشياء عن ماضيّ لم أكن أستطيع التعامل معها ببساطة. أحد الأمور الرئيسة - وكان ذلك دراماتيكيًا للغاية - هو مدى الاتكال والعاطفة والإعجاب الذين كنت أكنهم لأبي، أبي الذي كان العذاب الأكبر في حياتي.

فيليب: إلى أي مدى تعتقد أن أفكار التحليل النفسي قد شكلت المذكرات؟ سعيد: ينتهي الكتاب عند زواجي للمرة الأولى في أوائل الستينيات. لقد قرأت بالفعل بعض فرويد لكني لم أقرأه بشكل منهجي حتى هذه اللحظة. ما كان يهمني بشكل خاص هو أنه كان يتناقض تمامًا ليس فقط مع الطريقة التي نشأت بها؛ ولكن مع الثقافة التي جئت منها. وأذكر صياغتي لعبارة: "نحن العرب ليس لدينا لا وعي". نحن لا نؤمن به، كل شيء يندفع فورًا إلى سطح الوعي بلا مواراة. ووجدت نفسي محاصرًا في معركة صامتة مع ماضيّ من خلال فرويد، من خلال رؤاه. ثم كانت هناك حقيقة أنه يهودي. كنت منخرطًا سياسيًا في ذلك الوقت. كان جذابًا قطعًا. وأدركت أن الأشخاص الذين كان لديهم التأثير الأكبر عليّ هم: أوارباخ، فرويد، والآن أدورنو، لم يكونوا مجرد مهاجرين ولا يهود فقط؛ بل أناس لو عرفوني، لم يكن سيتكون لديهم أي اهتمام بي.

فيليب: هذا ليس صحيحًا. سعيد: أعتقد أنك مخطيء. على سبيل المثال، لقد كتبت الكثير عن أوارباخ، ولعبت دورًا مهمًا -ولا أحاول أن أكون متواضعًا- في إعادة تقديره مرة أخرى، وقمت بترجمة واحدة من مقالاته. فيليب: هو يعجبني كثيرًا. سعيد: وأنا أيضًا. لدرجة أن ناشرًا جاء قبل نحو 20 عامًا وطلب مني تحرير مجموعة من مقالاته غير المجمعة. كنت قد ترجمت واحدة مع زوجتي الأولى، لذلك قلت نعم. جهزنا كل شيء، ثم بدأت مكالمات النشرات الأكاديمية المحترمة تقل وتقل. وفي النهاية، تحدثت إلى الناشر وقلت له "ما الذي يحدث؟"، قال "ما زلنا ننتظر الحصول على إذن من الورثة". وبعيدًا عن سرد القصة الطويلة، انتهى الأمر بأنهم رفضوا الإذن، بسببي: [قال أحد أبناء أوارباخ]، "أن يحرر شخص مثل سعيد مجموعته، سيكون أمرًا ضد قناعات أبي السياسية إلى أبعد مدى".

فيليب: ولكن هذا لا يعني أن أويرباخ نفسه لم يكن مهتمًا بك. سعيد: ولكن قد يكون هناك شعور بالعداء، والذي أعتقد أنه مهم. جزء من جمال الأمر كله، هو أن هذا العداء ليس حالة مستحيلة.

فيليب: لن تقابل أوارباخ، لأنه مات. الشيء الوحيد الذي يجعلك شخصية معقدة ومثيرة هو أنه من ناحية، سيكون هناك أناس، خاصة في العالم الفكري اليهودي، سوف ينظرون إليك على أنه شيطان متجسد. سعيد: ليس بالضرورة. فيليب: من ناحية أخرى، فإن عرضك الكامل للذات، وضعك الخاص، يتلاءم كثيرًا مع الحياة الفكرية اليهودية في نيويورك. جزء من تقاربي كيهودي معك أنت، هو أنني أيضًا خارج على عشيرتي في بعض الأحيان. أنا لا أحب الشوفينية القبلية، لكن على الرغم من خطر أن أبدو سنتمتاليًا، أليس هناك شيء سامي يخلق جسرًا بين العرب واليهود؟ سعيد: بالتأكيد، هذا صحيح في حياتي. لقد لاحظت ذلك أولًا في أبي الذي كان دائمًا ما يختار اكتساب زملاء يهود. لا تنس أن القاهرة وفلسطين كانتا مليئتين باليهود.

فيليب: في كثير من الأحيان عندما أذهب إلى إسرائيل وأتوجه إلى المناطق العربية، أشعر بدفء فوري، لذلك يجب أن يكون هناك بعض الارتباط. ولكن يبدو أنك توحي بأنك كنت بحاجة إلى مرشدين مثقفين لا يحبونك. سعيد: لا مرشدين. أحد الأشياء التي لم أشعر بها قط، وأنا فخور بها، أني لم أكن أبداً مريدًا لأحد. هناك أناس يعجبوني، لكني لم أعرفهم أبدًا. على العكس من ذلك، لم أرغب أبدًا في أن يكون لي مريدين. آخر شيء أريده هو الأشخاص الذين يحاولون فعل ما أفعله. فيليب: هل تريد أن تقول أي شيء عن سيد تشاريس؟ سعيد: تعرف، لقد قابلتها. فيليب: لم أكن أعرف. لقد قلت في كتابك أنك وقعت في حبها. سعيد: وأنت أيضًا؟ فيليب: أوه! نعم. سعيد: سأخبرك بالسر، إنها حقًا قصة استثنائية في حد ذاتها. منذ ما يقرب من سبع أو ثماني سنوات، جاءت إلى نيويورك لتقديم الدعم لشخص ما في فندق جراند، وكنت قد قرأت مقابلة قالت فيها: "في تلك الأيام، كانت الرقابة صارمة للغاية بحيث كانت الطريقة الوحيدة التي يمكننا بها ممارسة الجنس في الأفلام هي من خلال الرقص".

فيليب: أنت تذكر ذلك في الكتاب. سعيد: لهذا اشتعلت بيّ النار مرة أخرى بعد سنوات من السكون. حادثت صديقتي المقربة جين ستاين (محررة في جراند ستريت، نشأت في هوليوود)، وقلت لها إنني سأقدم أي شيء لمقابلة سيّد تشاريس، واختصارًا للحكاية الطويلة؛ رتبت جين الموضوع، والتقينا في Café Des Artistes. وكانت هناك جين، بالطبع، وزوجها، ومريم، ولقد وصلت إلى هناك متأخرًا..

فيليب: هل سمحت لزوجتك بحضور هذه المقابلة؟ سعيد: الجميع، ليس فقط زوجتي، ولكن كذلك أصدقائي الذين رتبوا المقابلة. وكان الثلاثة جالسين في أحد طرفي الطاولة مع هذه الكائنة الرائعة التي بدت تمامًا كما كانت تظهر في أفلامها. جلست وللحظة أو اثنتين؛ كنت معقود اللسان. ولكن بعد ذلك بدأت أتحدث، سألتها عن الأفلام العجيبة مثل On an Island with You ، وهو فيلم أنت حتى لم تشاهده. فيليب: لم أشاهده. سعيد: كنت أريد أن أعرف كيف شعرت عندما رقصت مع ريكاردو مونتالبان. لقد رقصوا رقصة حارة في منتصف الفيلم. وهي قالت "أوه، ريكاردو. إنه شخص رائع لكنه لا يستطيع الرقص. كنت أحمله طوال الرقصة". أخبرتني أنها كانت متزوجة من نفس الرجل لمدة 44 سنة. أعتقد أنها كررت ذلك مرات عديدة لتريحني. فيليب: صحيح. توني مارتن، المغني. سعيد: قلت لجين، "هي واحدة من أجمل فتيات أحلامي في سنواتي الأولى، أشعر أنني يجب أن أعطيها شيئًا". قالت، "لا تجلب أي زهور. إن غرفتها في الفندق غارقة في الورود ". لذا أحضرت لها نسخة من الاستشراق، ملفوفة في كيس ورقي بني. عند نقطة ما، كنا جميعًا خارجين من المطعم وكانت هناك سيارة ليموزين تنتظرها. كانت تلك هي اللحظة الوحيدة التي استطعت فيها رؤية ساقيها على الطبيعة. كانتا رائعتين مثلما يتذكرها الواحد من أفلامها؛ طويلتين، سامقتين، كانتا مذهلتين. بدأت تقول وداعا للجميع، وقلت "سيدة تشاريس، أود أن أقدم لك كتابي هذا ... " ثم ، لسبب غير مفهوم أضفت بغباء "لكن لا تشعري أنك ملزمة بقراءته". فالتفتت إلى جين وقالت "أيظن أني أُميّة؟" ثم احتضنت جين وصافحت الجميع بحرارة، ثم قالت لي بلا اكتراث "وداعًا" وركبت السيارة وهي تمسك بالكتاب على مضض. (ضحك)

فيليب: لقد خسرت قُبلَتُك، لكن حسنًا، لقد رأيت ساقيها، وهذا هو الشيء المهم. تعرف، كمذكرات حميمة، أنت خجول للغاية، فأنت لا تقول أبدًا متى فقدت عذريتك. نحن نذهب من مدرسة إلى أخرى معك، وما زلت تقول، لا، لم يكن هناك جنس في جبل الشيخ (منطقة تقع حيث سلسلة جبال بين سوريا ولبنان)، ولم يكن هناك جنس في برنستون. ولا زلت أنتظر متى يدخل الجنس إلى حياة هذا الرجل؟ سعيد: يجب أن أخبرك أنه لم يدخل حتى بعد انتهاء المذكرات.

إذن أنت لم تكن خجولًا ، لقد كنت صريحَا؟ سعيد: كنت صادقًا. قد يكون هذا صادمًا. لكنني [صاحب لقب] أكبر شخص حافظ على عذريته.. عمليًا.