الكالتشيو في السينما: أمل وشغف وهوس وحياة عنيفة

منشور الاثنين 15 أكتوبر 2018

دأب بعض المخرجين في إيطاليا على المزج ما بين كرة القدم والدراما في أفلامهم، حيث كانت كرة القدم، مثل كل ما يؤثر في حياة الناس، موضوعًا مفضلًا، خاصة مع ما تتمتع به من مكانة كبيرة لدى الجماهير، فلا تكاد تمر في أي من شوارع إيطاليا إلا وتشاهد جدارية مرسومة على أحد المباني، تتعلق بتلك الرياضة أو بأحد أبطالها المحببين، أو شعارات عن تلك الأندية الجماهيرية. 

أكبر مثال على ذلك صورة الحائط الشهير الذي كتب عليه أحد الشباب لحبيبته "أنتِ جميلة كهدف في الدقيقة 90"، أو تلك الجدارية الشهيرة للاعب روما ومنتخب إيطاليا السابق فرانشيسكو توتي الملقّب بملك روما، على أحد الأبنية في "مملكته". 

 

جدارية النجم الإيطالي فرانشيسكو توتي في مدينة روما

كثير من صانعي الأفلام كانوا أيضًا مشجعين متحمسين، أدركوا في الوقت نفسه أن كرة القدم أصبحت ظاهرة مُلحة، لا يمكن استبعادها من المشهد، فالشخص الذي ربما يشعر بالملل من مشاهدة فيلم مدته ساعة ونصف أو ساعتين، لديه استعداد لمشاهدة مباراة فريقه المُفضل وإن امتدت أشواطًا إضافية، مهما كانت المباراة رتيبة. 

ولكن قبل أن نعرج إلى الأمثلة الأهم لتزاوج كرة القدم والسينما في إيطاليا، لنبدأ بمرحلة الاستشراف المبدئي لتلك الظاهرة، وكيف تم استقبال المواضيع الرياضية في السينما العالمية وفي كتابات بعض الروائيين.

كرة القدم في السينما العالمية

كانت كرة القدم في الغالب مادة مبتذلة لأولئك الذين يريدون إقحام بعض من الفكاهة في الأفلام الكوميدية بشكلٍ عابر، ويستقطب في الوقت نفسه مجانين هذه الرياضة، في الولايات المتحدة كانت هناك عشرات أو مئات الحكايات والأفلام عن رياضة كرة القدم الأمريكية أو البيسبول أو كرة السلة، لكنها لم ترقَ لأن تُساق في حبكتها الأصلية، الإنسانية.

ربما تسبب كرة القدم العديد من قصص العداء ونشوب الصراعات في كل البلدان، حيث يرى قسط من الناس، أن لا يوجد بها أي شىء شاعري، لكن تبقى المشاعر التي يطلق لها العنان في مباريات كرة القدم مقدسة، وهو ما غفلت عنه صناعة السينما في كثير من الأحيان.

 

الروائي والكاتب المسرحي سيدني هورلر

حاول بعض المخرجين في بريطانيا وهوليوود، القيام بأفلام خاصة وحصرية عن كرة القدم، وكان أغلبها يحاول الاهتمام بالإيقاع والتوتر المصاحب لمباراة كرة قدم أو مباراة في أي رياضة من الرياضات، بدون مداعبة مشاعر المتفرج، الذي هو إنسان، قبل أن يكون مُشجع لفريق ما أو مهتم بلاعب ما.

كانت تلك الإشكالية الواضحة في التعامل مع الرياضة، تؤرق محبيها بصورةٍ ما، عندما يتم تناولها في المجالس العامة بأنها مضيعة للوقت أو لا يجب أن تحظى بتلك الأهمية.

كما كثير من الكتاب والفنانين، بكرة القدم، من خلال تسليطهم الضوء على حياة هذا الرياضي أو ذاك، ولكن دون اكتراث كبير بجماهير تلك اللعبة.

يقول اللاعب الفرنسي إيريك كانتونا، وأسطورة مانشستر يونايتد السابق، في فيلم كين لوتش البحث عن إيريك (Looking for Eric)، والذي لعب فيه دوره بنفسه "أنا لست رجلًا، انا كانتونا".

 

النجم الفرنسي إيريك كانتونا في فيلم

كانتونا مثال سوريالي، يوضح كيف يشعر لاعب كرة القدم المحترف، في أواخر القرن العشرين، بأسطوريته، وأن أسماء الرياضيين المشهورين، تدوم أكثر من وجودهم في الماضي نفسه، أو في الحاضر المُعاش.

تزاوج كرة القدم والسينما في إيطاليا

 

باتيستوتا مهاجم فيورنتينا رفقة رئيس النادي شيتشي جوري

غير أن النموذج الذي وجد التعامل الأمثل مع هذه الإشكالية، كان نموذج السينما الإيطالية، والتي قدمت العديد من الإيهامات وتسليط الضوء الجدير بالاعتبار في أفلامها، حيث اهتمت بالإنسان "المُشجع" في المقام الأول، وبالطبع كان ذلك التعامل من بعض المُخرجين الذين يقدمون سينما جادة، أو يهتمون بالجزء الفني أكثر من التجاري.

علاقة كرة القدم بالسينما ليست بالغريبة في إيطاليا، حيث أن هناك العديد من المنتجين السينمائيين الكبار الذين اشتروا أندية مُنخرطة في مسابقة الدرجة الاولى لكرة القدم، أمثال شيتشي جوري رئيس فيورنتينا في التسعينيات، والذي أنتج عديد من الأعمال الفنية العظيمة، على رأسها فيلم الحياة جميلة (La Vita è Bella) والذي حصل على أوسكار أفضل فيلم أجنبي عام 1997.

 

ماسيمو فيريرو رئيس نادي سامبدوريا الحالي

في الوقت الحالي هناك أوريليو دي لاورنتيس رئيس نادي نابولي وماسيمو فيريرو رئيس نادي سامبدوريا وهناك كذلك ماسيمو موراتي رئيس إنتر السابق الذي كان لديه نفس شغف شقيقته الممثلة بيدي موراتي بالسينما.

وفي نفس الوقت، عُرف عن العديد من مُخرجين السينما الكبار في إيطاليا شغفهم بكرة القدم، وكان أبرز مثال بينهم هو المُعلم والمخرج الكبير مايكل أنجولو أنتونيوني، والذي كان محبًا لإنتر ميلان، وبيير باولو بازوليني، مشجع فريق بولونيا، والذي أنتج عنه فيلمًا خاصًا.

مفاتيح المنزل والهوس بلاتسيو

 

لقطة من فيلم

يحكي الفيلم مفاتيح المنزل (Le Chiavi di Casa) الذي أخرجه جياني إميليو عن طفل مُقعد، لا يعرف سوى أمه التي قامت على تربيته، بينما ذهبت القسوة بأبيه إلى أبعد مدى بعد انفصاله عن الأم، إذ تركها لتربي الطفل المُقعد وحيدًا، ونشأ الطفل دون أب.

بعد دعوة من زوج طليقته لكي يرى ابنه، أملًا في معجزة أن يقف على قدميه، في حالة رأى أبيع، عاد الأب، وذهب لابنه في المستشفى، خجلًا من تخليه عنه في السابق، ووجد صعوبة في إقامة علاقة صداقة معه ولكن كانت كرة القدم سبيلًا لهذا.

"كان عمره ستة سنوات، ولم يكن قادرًا على المشي وقتها، فقامت ليفيا بملء المنزل بكرات القدم، كان يزحف بكل مكان كالجرو الصغير".

 

صورة جماعية لفريق لاتسيو عام 2003

تعلق الولد بفريق لاتسيو للغاية، فهو في روما، ووالده في ميلانو، لم يكن الطفل يملك أغنية معينة ليدندنها في أوقات الفراغ، بل كانت أغنيته بسيطة وعميقة للغاية، حيث كان يردد الطفل "باولو" أسامي تشكيلة فريق لاتسيو الأساسية مع الاحتياطيين بالكامل، دون كلل أو ملل؛ بيروتزي، فافالي، كوتو، ميهايلوفيتش، بانكارو، جوتاردي، ليفيراني، فيوري، ستانكوفيتش، سيموني (إنزاجي)، لوبيز.

وفي بعض الأحيان كان يهمس بتلك الأسماء في إذن أبيه، إنهم ربما هؤلاء الأشخاص الذي لا يعلم أبيه عنهم شيئًا، وهم نفسهم من آنسوه في وحدته، بينما كان والده مع زوجته الجديدة في ألمانيا.

لأنني شبه يتيم.. ولأنني مشجع للإنتر

 

فيلم

 

أدخل جياني إيميليو مجددًا كرة القدم في سياق أفلامه، مثل فيلم الطفلة المسروقة (Il ladro Di Bambini) والذي فاز بالسفعة الذهبية في النسخة الخامسة والأربعين من مهرجان كان.

 

هنا نرى كيف تورط أنطونيو في رعاية طفلة وأخيها بعد هروبهما من المنزل، وهو يجد نفسه في موقف أخلاقي عصيب، فهو لا يريد إلا تسليم الطفلة للأحداث ولكنه في الوقت ذاته يرى نفسه مشدودًا للحنو عليها وعلى أخاها.

كان أنتونيو شغوفًا فقط بعمله، وبكرة القدم، يعلق وشاح وأعلام إنتر ميلان في غرفته حتى بعد أن أصبح شابًا كبيرًا، ظلت طفولته مختبأة بين جدران غرفته، وكانت هي الحافز الذي دفعه ليخرج مرة أخرى عن النظام، ويساعد الطفلين حتى وإن وضع نفسه ورطةٍ.

 

لقطة من فيلم

في الوقت ذاته، نرى الأخ الأصغر للطفلة روزيتا جالسًا في غرفة أحد أصدقاء هذا الشرطي، وهي غرفة مليئة بصور نابولي، بطل إيطاليا في هذا الوقت بعد تفوقه على الإنتر، وكذلك أعلامه وأوشحته وصور دييجو أرماندو مارادونا، الطفل الذي رأى مستقبله كالح السواد، ورأى مصير أخته التي قتلت أمها طفولتها، لكن هذا لم يجعله يتردد، عندما سأله الشرطي عن سبب ضيقه، حيث قال "لأنني مشجع للإنتر".

تعامل المُفكرين مع الكالتشيو

 

فيلم

الشعب الإيطالي مجنون، أو شعب مُفرط في العاطفة التي تفوق كل حد، يبدأ هذا الطابع بداية بأعلى الهرم الذي يوجد فيه النخبة والمثقفين، والذين مثل كل الشعب، يحبون الكالتشيو، أي كرة القدم، وهو ما نراه في فيلم حياة عنيفة (Una Vita Violenta) الذي عرض عام 1962 للمخرجين باولو هيوش وبرونيلو روندي، وهو فيلم قاتم تنتهي أحداثه بإصابة البطل بالسل واقتراب موته وحيدًا في غرفته.

البطل المتشرد والسارق يصارع ويحتضر ويتعرف بكثافة، يتركه أصدقائه ورفاق الشارع وأمه وخطيبته ليموت، ثم إذا به يلقي نظره على يمينه على لوحة فريق ميلان 1958، ومكتوب أسفلها "فريق لا يهزم"، حيث وصل وقتها لنهائي دوري الأبطال قبل أن يخسره أمام ريال مدريد.

 

لقطة ختامية من فيلم

كانت تلك اللقطة بردًا وسلامًا على المتفرج، حيث يرى الحيرة والتطلع والحزن في عيني البطل، ويرى في نفس الوقت الامتنان والشجن وهو يطالع صورة فريقه المحبوب، إن هذا العشق غير المنظور المختبئ داخل توماسو بوزيلي، والذي لم يرد ذكره أبدًا، طوال الفيلم بتفاصيله المكثفة، هو تجسيد لمعنى لا يفهمه إلا من يقدرون هذا الشغف بأبعاده غير المنظورة، والتي ربما تمر بشكلٍ خاطف في حياة الكثيرين لكنه يظل صامدًا رغم المرض والإنحدار والصدمات، وحتى الموت.

مات بوزيلي بطل العمل وهو يحتقر كل شيء، وقد خسر كل شيء، ومهزوم في كل شيء، ما عدا فريقه ميلان، مازال منتصرًا بداخله، فقد أظلم كل شىء بداخل أعماق بوزيلي عدا ميلان.

أظهرت السينما الواقعية الجديد من قبل هذا المعنى في فيلم روما مدينة مفتوحة (Roma Città Aperta) لروبيرتو روسيليني عام 1945، حيث أظهرت اللقطات الأطفال وهم يلعبون كرة القدم في الشارع، بينما الجيش في الحرب، لكن لم يتوقف لعب الكرة في الشوارع، وحتى في الميادين الرئيسية، أو الاحتلال النازي للعاصمة لروما، بقت الكرة هي المتعة والإغاثة من رتابة الحرب، أو من جروح الحياة.

كيف تعاملت الكوميديا مع كرة القدم؟

ماسيمو ترويسي، بطل فيلم البوسطجي (Il Postino)، أحد علامات السينما في ثمانينيات القرن الماضي، واحد من الممثلين المعروفين بتشجيع نابولي، فقد كان عفويًا للغاية في الحديث عن حبه لنابولي ومارادونا، والذي كان ظاهرة خارقة للعادة في هذا الوقت.

فيلم

وفي فيلم آسف على التأخير (Scusate Il Ritardo) كان هناك مشهد كوميدي يدور ما بين زوجته وهو، حيث يستمع ماسيمو للراديو، الذي ينقل أحداث مباراة نابولي وتشيزينا، ويدور حوار جدي مع زوجته، حول استغرابه من عدم اكتراثها بالمباراة، وبمشاعره كمشجع لنابولي.

كانت الممثلة التي تقوم بدور زوجته، جوليانا دي سيو، تتحدث في هذا المشهد عن مرحلة حاسمة في علاقتهما معًا، حيث تُشير إلى أنهما مُختلفين، وأن الحب بينهما انتهى، في الوقت الذي جاء الخبر من الراديو "انتباه، انتباه، تشيزينا يتقدم في النتيجة بهدفين لهدف، ليقول ماسيمو "اللعنة، ما هذا البؤس، نابولي يخسر من تشيزينا، وفي نابولي؟، ألهذا صرفنا الأموال لنصنع هذا الفريق، لو استمرينا بهذا الحال سنهبط للدرجة الثانية".

 

ماسيمو ترويسي رفقة دييجو أرماندو مارادونا

ربما يكون هذا الطرح (وإن كان في قالب كوميدي أكثر)، متماشيًا مع طرح جياني أميليو في فيلم سارق الطفلة، حيث تحول الرجل في فيلم اميليو إلى طفل خارج عن نظام المجتمع، وفي فيلم ماسيمو فإن الرجل يتحول إلى شكاء، يحاول أن يجد من يقدر مشاعره حتى لو كانت تتعلق بالكرة.

بعيدًا عن هذا المثال، كانت كرة القدم تحتل سمة البطولة في عشرات الأفلام الكوميدية الشهيرة، أغلبها كان مصنوعًا برداءة، والبعض الآخر حقق نجاحًا كبيرًا مثل فيلم "مدرب الكرة"، والذي صدرت 3 أجزاء منه، اشترك في إحداها نجوم كرة قدم شهيرين على رأسهم فرانشيسكو توتي، والذي تم استنساخه فيما بعد في السينما المصرية عن طريق فيلم "4/2/4".

الدين والكرة

 

الروائي والمخرج بييرو باولو بازوليني

في فيلم انتهى القداس (La Messa è Finita) للمخرج ناني موريتي في 1985، يحكي قصة بعض الكهنة الشبان المنزعجين من كونهم غير مفهومين ومُحبطين.

ويقول البطل حينما يتذكر سعادته السابقة "من الجميل أن تكون طفلًا، بلا مسؤولية، لا أحد يطلب منك شيئًا، أتذكر في أحد الأيام بعد أن لعبت الكرة طول النهار، مع أصدقائي، ذهبنا للحديقة، وكانت ليلة طويلة وجميلة، مضيئة، فقط أنا والشمس والكرة، فقط في هذه الليلة كنت سعيًدا".

أبطال فيلم

في الختام، أقتبس بعض من كلمات الروائي والمخرج الإيطالي بيير باولو بازوليني، والذي رغم أن كرة القدم كانت بعيدة عن أعماله المثيرة للجدل، لكنه كان يلعب الكرة بشكلٍ هاو، وكان كذلك مُحللًا رياضيًا في بعض الأوقات!.

فسر بيير باولو تفرد الكرة بقوله"دون سينما، ودون كتابة. ما الذي يُمكن أن يُعشق؟ لاعب أنيق، بعد الأدب والإيروتيك تصبح الكرة واحدة من أعظم المُتع، كرة القدم هى تجسيد لآخر المقدسات في عصرنا، هي لغة تجمع ما بين الشعراء وكتاب النثر، وأن تكون مُشجعًا فهو مرض يُصيبك في الشباب ويستمر معك مدى الحياة، بينما جميع المُقدسات الأخرى لدينا تتراجع، الشخصي منها والعام، كرة القدم وحدها تبقى، القادرة على أن تحل محل المسرح".