الانمساخ لكافكا - من مدونة "العدمية الوجودية في الأدب"

مسخ وغريب ورجل محترم.. ثلاث روايات عن تدمير الذات

منشور الأربعاء 19 سبتمبر 2018

في النهاية أتته درجة المدير العام، تلك الجوهرة المكنونة التي أفنى عمره طلبا لها، وهو على فراش الموت، فكان حرمانه وجهاده الطويل في الحياة شقاء بغير جزاء.

هناك روايات تقرأها وتنساها بمجرد أن تطوي الصفحة الأخيرة، وهناك روايات تقرأها فتظل أجزاء منها في ذاكرتك ووجدانك، وروايات تقرأها فلا تعود نفس الإنسان مرة أخرى، شيء ما يتغير فيك إلى الأبد.

من الروايات التي تنتمي إلى النوع الثالث -بالنسبة لكاتب هذه السطور على الأقل- روايات ثلاث، قد يبدو أنها تنتمي إلى مذاهب متباينة ,متباعدة، لكني اكتشفت مؤخرا أن خيطا رفيعا يربط بينها جميعا. ثلاث روايات كتبت في أزمنة مختلفة، أبدعها كتاب من بلدان مختلفة، يتحدثون بلغات مختلفة، لكن أثر ما كتبوه على النفس يظل حارقا ولاذعا.

الروايات هي؛ "المسخ / الانمساخ" للتشيكي فرانتز كافكا (1915)، و"الغريب" للفرنسي ألبير كامو (1945)، و"حضرة المحترم" للمصري نجيب محفوظ (1975).

تقدّم الروايات الثلاث بطلا دمّر نفسه بنفسه بشكل ما. بطل يصر على مساره الذي اختاره لنفسه أو أجبر عليه، حتى يصل إلى النهاية المحتومة. الأبطال الثلاثة أدركوا أن الفناء هو الحقيقة الوحيدة في الحياة، فسعوا إليه، لكن هذا تم بأشكال وطرق مختلفة.

تشترك الروايات الثلاث في أنها جميعا صغيرة الحجم جدا، تتراوح أحجامها بين مائة صفحة إلى مائة وخمسين.

 

غلاف إحدى طبعات

هكذا تبدأ رواية المسخ: "استيقظ جريجور سامسا ذات صباح بعد أحلام مزعجة، فوجد نفسه قد تحول في فراشِه إلي حشرة هائلة الحجم". لا تقدم الرواية تفسيرا لما حدث، وإنما تنطلق من هذه النقطة لوصف تداعيات هذا الحدث الهائل. إن بطل كافكا لا يفعل أي شيء لمقاومة ما حدث أو البحث عن تفسير له إلا من مجرد أمنية صغيرة؛ أن يكون هذا حلما يستيقظ منه، لكن إذ يتضح أن هذا واقع وليس حلما؛ فإنه يستسلم تماما لمصيره، بل ويشعر باحتقار عميق لنفسه، وينزوي أكثر كي لا يسبب الحرج لعائلته بشكله الجديد هذا. إنه يشعر بالخزي لشيء لا يدّ له فيه. يعاقب نفسه باستمرار بلا ذنب جناه في التحول إلى تلك الحشرة المقززة، هذا التحول الذي منعه من ممارسة عمله وتدعيم أسرته التي صارت تشمئز منه، مع تقبله التام لهذا الاشمئزاز والذي كان يدفعه للانسحاق أكثر وأكثر.

في النهاية يموت جريجور سامسا، متأثرًا بجراح أصابته على إثر قيام أبيه القاسي بقذفه بتفاحة انغرست في ظهره، فيظل لأكثر من شهر متألما من تلك التفاحة التي تعفنت وأقعدته عن الحركة، فتفيض روحه المتألمة متزامنة مع رغبته في الاختفاء من العالم، كي لا يسبب لأسرته المزيد من الإزعاج.

 

غلاف إحدى طبعات الغريب لألبير كامو 

أما رواية الغريب فتبدأ بجملة تعطينا مؤشرًا لضياع البطل "اليوم ماتت أمي، أو ربما كان ذلك بالأمس، لا أدري. فقد تلقيت برقية من ملجأ المسنين تقول (توفيت الوالدة. مراسم الدفن غدا. أسمى تعازينا). لم يكن ذلك يعني شيئا، فربما كان ذلك قد حدث بالأمس".

يشعر السيد ميرسو (وهو لقب البطل ولا يوجد له اسم أول) بالحرج من طلب إجازة من رئيسه ليسافر لحضور جنازة أمه، لكنه يذهب إلى الجنازة، وهناك يجلس بجوار التابوت ويشرب كوبا من القهوة ويشعل سيجارة. إنه لم يبك في جنازة أمه. عند عودته إلى مدينته بعد انتهاء المراسم يقابل صديقة له ليذهبا للشاطئ للسباحة، ثم إلى فيلم سينما، ثم يرجعا إلى المنزل ليمارسا الجنس.

فيما بعد ستؤخذ كل هذه الأفعال ضده بواسطة هيئة المحلفين، لتفضي إلى الحكم بإعدامه. كان ميرسو قد تورط في سلسلة من الأحداث المتسارعة التي أدت به إلى إطلاق النار على شخص عربي على الشاطئ، وكما يبدو لنا فإن السبب الرئيسي في قتله لهذا الشخص هو أن الشمس كانت حارقة وساطعة جدا وتضايقه في عينيه، مما أدى به إلى ضغط الزناد، في حين لم يكن المقصود من إمساك المسدس أكثر من مجرد تهديد، أو دفاع عن النفس في حال تعرضه للهجوم.

 

لقطة من فيلم مأخوذ عن رواية الغريب - يوتيوب 

يتابع ميرسو محاكمته وكأنها تحدث لشخص آخر. إنه لا يتعاون مع المحامي ولا يحاول تبرير فعلته أو الدفاع عن نفسه. إنه يرفض لقاء قسيس السجن ويرفض مساعدته، بل ويعتدي على القس عندما يلح عليه في الحديث عن الله والصلاة وطلب المغفرة. إنه ملحد ولا وقت لديه يضيعه في الحديث عن الله. يخضع ميرسو مصيره المحتوم فلا فرق لديه بين أن تموت في الثلاثين أو السبعين، ففي كل الحالات هو الموت ولا شيء وراءه.

إنها العدمية ولا شيء آخر، حيث لا معنى لأي شيء.

 

نأتي لرواية حضرة المحترم، حيث عثمان بيومي المجاهد الأكبر في محراب السلم الوظيفي. إنه من أصول فقيرة متواضعة، لكنه يسعى بكل جهده للارتقاء، فهو يرى أن مأساة الآدمية أنها تبدأ من الطين، وأن عليها أن تأخذ مكانها بعد ذلك بين النجوم. إنه يحيا حياة رتيبة كئيبة، لا يتوقف فيها عن العمل والجد والاجتهاد والدراسة، حارما نفسه من كل متع الحياة، الصغيرة منها والكبيرة، في سبيل الوصول إلى هدفه. إنه مؤمن بالله على عكس بطل كامو، ويرى أن الهدف هو تحقيق الألوهية على الأرض، حيث المركز الإلهي الذي يراه لنفسه يكمن في منصب المدير العام، قمة السلم الإداري الذي أفنى عمره في تسلق خطواته، حيث محراب الحضرة الإدارية العليا، ومكان استواء صاحب السعادة المدير العام الذي يصفه بالإله القابع وراء المكتب الفخم.

وبعد أن ظل يسعى للزواج من بنات الحسب والنسب والعائلات الثرية، ينتهي به هذا الطموح الهائل إلى الزواج من بغي زنجية عجوز، ثم من شابة فقيرة كانت تبغي استغلاله كوسيلة للصعود الاجتماعي، بالضبط كما كان يطمح هو قبلا مع بنات العائلات، وفي النهاية أتته درجة المدير العام، تلك الجوهرة المكنونة التي أفنى عمره طلبا لها، وهو على فراش الموت، فكان حرمانه وجهاده الطويل في الحياة شقاء بغير جزاء.

ربما تكون رواية نجيب محفوظ أكثر الروايات الثلاث رعبا في مسألة التدمير الذاتي. البطل هنا لا يتعرض لأحداث ميتافيزيقية كما لدى كافكا، ولا توجد أحداث مأساوية استثنائية متسارعة تؤدي به إلى المصير المحتوم كما لدى كامو، هو لا يستسلم لمصير فُرض عليه بشكل ما، بل صنع هو مصيره بيده، التحلل هنا يتم ببطء. مرور الزمن الطبيعي الذي يعبر علينا جميعا ويسحقنا بلا رحمة. يرى عثمان بيومي نفسه كل يوم وهو يتحلل ببطء. يمر الزمن حثيثا وتمضي الأيام رتيبة ولا تتحقق الأماني ولا يأتي المراد. أليس هذا ما يحدث لنا جميعا بشكل أو بآخر؟

ثلاثة أبطال وحيدين حزانى، أغراب عن هذا العالم، جريجور سامسا الحشرة العملاقة البشعة، والمسالمة المنسحقة برغم ذلك، وميرسو الغريب اللامبالي الذي لا ينتمي لباقي الناس المفعمين بالتفاهات المتمسكين بالحياة العبثية البالية، وعثمان أفندي الراهب في محراب الوظيفة المتعبد للعمل الشاق المقدس حارم نفسه من متع العالم التي يغرق فيها عوام الناس.

البطل الأول منسحق لا ذنب له فيما حل به، ربما إذا استثنينا سلبيته المطلقة، أو إذا لم نَعتَبرها ذنبا جَعَله يستحق مصيره، أما الثاني فيلعب امتزاج تصرفاته وطباعه مع الصدف التي تعرّض لها دورا في تحديد خاتمته. أما الثالث؛ فقد كان مسؤولا تماما عن قراراته، اتخذها جميعا بوعي كامل ولم يجبره أحد على شيء مما اختار. رغم ذلك فالنهاية كانت واحدة.

ما بين جريجور سامسا المعذب، المحتقر ذاته، والمستسلم لمصيره، وميرسو اليائس الذي تنتابه أحيانا دفقات من أمل، لكنها لا تمنعه من الانحدار لمنتهاه الأسود المحتوم، وعثمان بيومي المجاهد الأبدي في سبيل الحلم الإلهي المستحيل، والذي لا يحصل منه سوى على كل ألم وحزن وشقاء، أية إنسانية معذبة تلك التي نحياها!