قراءة "عدو الإمبريالية" للتاريخ: نحب فيتنام.. ونكره الفيتناميين

منشور الثلاثاء 4 سبتمبر 2018

بعثت وفاة جون ماكين، القطب الجمهوري البارز وشيخ أريزونا والأسير السابق في فيتنام، تقليدًا عربيًا عاميًّا ونخبويًا أصيلًا، فحواه التجريد؛ أي إجمال الأشياء والوقائع والبشر والبلدان والدول في مقولات جامعة وبليدة لكنْها سعيدة، ثم صبّهم في قوالب تطفح يقينًا بلا ضفاف، أو بكلمة أخرى الخروج من رحابة النثر إلى ضيق الشعر، وهو ضيق ليس مردّه اتساع الرؤى بل العكس تمامًا، أي الضرب في عماية مترامية، على ما سنرى بعد قليل.

على خلاف تجريد المتصوّفة الذي هو إيذان ببدء "رحلة"، فالتجريد المقصود هنا هو نهاية مطاف من الاختزال والتنميط وبثّ السحر والعصي والحبال في قضايا شديدة المادية، وانتزاعها من ظرفيتها وشروطها وزمنها، ومن ثم تتويجها بالتزوير الصريح.

لم ترَ الأخبار والمقالات والمقولات والتعليقات التي تناولت وفاة جون ماكين فيه إلا سفاحًا غازيًا وتجليًّا لغطرسة القوة ورمزًا لطيارات الفانتوم والـ "F 16"، على نحو ما لم ترَ في فيتنام سوى "ساحة" لتمريغ أنف الإمبريالية في التراب، أو مياه المستنقعات في الأدغال الآسيوية، على وجه الدقة.

 

جنازة جون ماكين

هنا، لا وجود للفييتناميين (الجنوبيين خصوصًا) ولا ملامح لوجوههم وأسمائهم وأحلامهم وأشواقهم ولا أحوالهم الداخلية ومنازعاتهم وكدحهم ونضالهم ضد دكتاتوريتهم أولًا وقبل كل شيء. فكأنّ هذا البلد لا يحضر على الألسنة عندنا إلا بصفته محاربًا للإمبريالية ولا مهنة لأهله سوى قتال الغزاة، أي أن فيتنام هنا تُعرّف بالسلب أو النفي أو الضد، بهذا المعنى، يغدو البلد الذي اسمه فيتنام ويسكنه مائة مليون إنسان، غير قابل للتعيين والوصف من داخله وذاته ولذاته، بل يستقي تعريفه من خارجه أو بالضد من الغير. والغير هذا ليس سوى الولايات المتحدة طبعًا (أو إسرائيل، لولا أن هذه بعيدة جدا عن جنوب شرق آسيا).

يُلحَظ أول ما يلحظ في المعجبين بـ"التجربة الفيتنامية" طمس هوية بعض الأطراف المتقاتلة، واختزال النزاع بين ثوار فيتناميين شرفاء وبين غزاة أمريكيين، وليس بين شمال استبدادي شيوعي متنمّر يسعى لقضم جنوب ديموقراطي متفرنس ذي هوى غربي أمريكي، بذريعة "التوحيد القومي". وهي عملية قضم تبدو شبيهتها الأسدية في لبنان والصدّامية في الكويت بإزائها، شديدتي التهذيب واللباقة.

ثاني ما يُلحظ في العرب المتفتنمين هو تغييب السياق التاريخي العريض الذي وقعت فيه الحرب. فكأنها حربٌ اندلعت في لحظة خارجة عن الزمن والعالم، وليست ابنة فتيّة للحرب الباردة ونهاية الحرب العالمية الثانية، وأفول الإمبراطوريتين اليابانية والفرنسية، وصعود قوتين عظميين هما أمريكا والاتحاد السوفييتي، وانخراط أمريكي أوسع في العالم (بعد سبات طويل دام قرونًا وراء المحيطين) عنوانه "عقيدة ترومان"، أي جعل العالم مكانًا آمنًا للديموقراطية. 

الحرب الباردة.. سياق محتدم

كانت حرب فيتنام حربًا أهلية في المقام الأول، وفي جوهرها، حربًا بالوكالة بين أمريكا والاتحاد السوفييتي، أكثر بكثير مما كانت حرب استقلال أو مقاومة شعبية كما يحب كثيرون أن يتصوروها.  بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، بدأ الافتراق بين القوتين العظميين الصاعدتين والمنتصرتين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. استولى هذا الأخير عسكريًا على الشطر الشرقي من ألمانيا ونصّب حكومة شيوعية عميلة، فيما عملت أمريكا وبقية الحلفاء على تأسيس الشطر الغربي من ألمانيا ومساعدته اقتصاديًا.  تبع ذلك توقيع معاهدة حلف شمال الأطلنطي عام 1949، فجاء الرد السوفييتي بتأسيس حلف وارسو عام 1955. أخذ التوتر يزداد بين الحلفين أو الكتلتين الغربية والشرقية. وبدأت تظهر ملامح أيديولوجية وثقافية واقتصادية لكلاهما. اتخذ التنافس بين الكتلتين طابعا باردا في البداية، لكنه سرعان ما أخذ يسخن تدريجيًا.  كانت الحرب اليونانية (1946-1949) المواجهة الأولى بين الكتلتين. فدعمت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة جيش الحكومة اليونانية، بينما دعم الاتحاد السوفييتي "جيش اليونان الديموقراطي". لكن المواجهة الحقيقية والأكثر سخونة كانت الحرب الكورية (1950-1953)، وذلك بالنظر للاتصال الجغرافي بين كوريا والصين، ما يعزز الحضور الشيوعي في آسيا ويشكل خطرًا على حلفاء أمريكا هناك: الهند وأستراليا واليابان.

ثم كرّت السبحة وشرعت البؤر الساخنة تظهر في طول العالم وعرضه حروبًا أهلية تارةً وثورات تارةً أخرى. ومن أبرز الصراعات وقتذاك الحرب اليونانية الأهلية والثورة الكوبية وحرب فيتنام والحرب اللاوسية وحرب الدومنيكان والحرب الكمبودية والحرب الإثيوبية والحرب اللبنانية والحرب الأنجولية وحرب موزمبيق وحرب السلفادور. وهكذا كانت تشتعل الحرب، أو تُشعل، فتدعم أمريكا طرفًا ويدعم الاتحاد السوفييتي الطرف المضاد.

الحلقة الفيتنامية

حرب فيتنام كانت حلقة في تلك السلسلة. وكانت بمثابة التعويض السوفييتي عن فشل كوريا الشمالية الشيوعية في غزو كوريا الجنوبية. وهذا ما سرّع النجدة الأمريكية لفييتنام الجنوبية ولكي يكون حلفاء أمريكا في آسيا بمأمن عن الحضور السوفييتي. آنذاك شاعت "نظرية الدومينو"، ومفادها أن سقوط حليف في آسيا في قبضة الاتحاد السوفييتي سيفضي إلى سقوط البلدان المجاورة.

غداة جلاء الاحتلالين الياباني والفرنسي، قُسمت فيتنام إلى شطرين، شمالي وجنوبي. وفي السنوات التي أرهصت بالحرب الأهلية ومهدّت لها بداية الخمسينات، وفي طريقه لإقامة فردوس اشتراكي جميل، أجبر النظام الشيوعي الشمالي مليون فيتنامي على الفرار نحو الجنوب بعد جولات من عمليات الإرهاب والقتل والخطف طالت المثقفين والمهنيين والمحامين ومُلّاك الأراضي والكاثوليك وكل المتحفظين على عملية "إصلاح الأراضي"، التي كانت "برنامج" النظام الوحيد للحكم.

بعض التقديرات أشارت إلى 150 ألف قتيل. وفي أقل من أربع سنوات (من 1953-1957)، نفّذ النظام الشمالي، بواسطة ميليشيات دولتية كانت تجوب الأرياف، اغتيالات ميدانية تجاوزت 200 ألف من ملاك الأراضية في خطوة تهدف لتأسيس اقتصاد موجّه. عمليات القمع الرهيب هذه شهدت أيضًا تدمير دور العبادة من معابد وكنائس، وحُظرت كل الممارسات الدينية. فالدين أفيون الشعوب، بحسب ماركس. وماركس ولينين "لا يمكن أن يكونا على خطأ"، على ما صرّح هو شي مينه (الذي أعُطي اسمه لمدينة سايغون غداة سقوطها، في واحدة من أشد لحظات عبادة الفرد قتامةً).

النظام الشمالي هذا، وقياداته التي تتلمذت على جوزيف ستالين واستلهمت تجربة ماو تسي تونج مستضيئةً بـ"قفزته العظيمة للأمام"، التي أدت لقتل 45 مليون صيني (أكثر مما قتل هتلر)؛ النظام هذا هو ما يلهب خيال الجماعة عندنا ويحسبونه مقاومة للإمبريالية، ويعدّون الفيتناميين الجنوبيين خونة وعملاء لأنهم استنجدوا بأمريكا. 

 

جون ماكين في حرب فيتنام

بالطبع ارتكبت أمريكا أخطاءً وربما خطايا في تلك الحرب، ولم تكن دوافعها بريئة، لكنّ نظرةً على الجوار، تدفع للظن الجازم أن نار الإمبريالية وجحيمها، خيرٌ من برد الشيوعية ونعيمها. فالشبه يكاد يتطابق بين حال فيتنام وبين حال الكوريتين. فلو انتصرت "مقاومة" آل كيم على الكوريين الجنوبيين، لكانت شبه الجزيرة الكورية كلها الآن مقبرة عظيمة. أما في كمبوديا المجاورة، فقد واصلت الشيوعية فتوحاتها وانتصاراتها الظافرة، فارشةً الطريق إلى جنتها بمليون ونصف المليون جثة على يد الخمير الحمر.

باعتبارها أول حرب متلفزة، غيّرت حرب فيتنام الكثير في الوعي الأمريكي لجهة تدخّل أمريكا في شؤون العالم. صحيح أن حرب الخليج الثانية، أي حرب تحرير الكويت، وحرب إطاحة نظام صدام، أعادتا أمريكا للعالم، لكن الحربين هاتين، في نفس الوقت، كانتا بداية انكفاء أمريكي وصل ذروته مع أوباما الممسك والممتنع بإصرار لا يلين عن الرجوع للعالم والتأثير فيه، ولو وصل الأمر إلى مذابح مديدة تمارسها أنظمة الطغيان ضد شعوبها.

عقيدة الانعزال الأوبامية هذه تبناها دونالد ترمب بحذافيرها لا تكسرها سوى بضعة تغريدات وصواريخ لطيفة كانت أشبه بمداعبة للنظام الأسدي. فلا بدّ إذن من تهنئة الممانعة التي نجحت فعلا في عزل أمريكا وإبعادها عنا، لكي تسير المذبحة بلا إزعاج.

تبقى فقط تلك المفارقة الجارحة: الصراخ والعويل من بطش أمريكا وجرائم الإمبريالية، وفي الوقت نفسه التغني بهزيمة الإمريالية إياها ورفع رايات النصر... فوق الأنقاض المتفحّمة!

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.