العاصمة الرواندية كيجالي من السماء (تصوير أحمد عبد الفتاح)

دروس من رواندا: كيف نتجاوز الإبادة ونتقدم للأمام؟

منشور الأحد 26 أغسطس 2018

في 1994 احتلت رواندا، البلد الإفريقي الصغير الحبيس الذي لا يطل على أي بحر، عناوين الأخبار في العالم بسبب مأساة إنسانية ضخمة راح ضحيتها ما بين 800 ألف إلى مليون شخص خلال 100 يوم، في أكبر جريمة إبادة جماعية موثقة في التاريخ ارتكبتها الأغلبية المتنمية إلى مجموعة الهوتو ضد الأقلية المنتمية إلى التوتستي. 

ولكن بعد أكثر قليلًا من عشرين سنة تحولت رواندا، وهي بلد لا تتجاوز مساحته 27 ألف كيلومتر مربع ويقترب عدد سكانه من 12 مليون نسمة ما يجعله واحدًا من أكثر الدول الإفريقية كثافة بالسكان -290 شخصًا للكيلو متر المربع، تحولت إلى واحدة من أهم الاقتصاديات الناهضة في العالم بمتوسط معدل نمو 7.5 بالمئة من عام 2015 إلى عام 2017.  

نهضة رواندا الاقتصادية تزامنت مع نهضة اجتماعية شملت جميع نواحي الحياة، فعلى سبيل المثال؛ حازت العاصمة الرواندية كيجالي لقب أنظف عاصمة إفريقية، كما أن روندا تعد واحدة من أكثر 10 وجهات سياحية أمانًا في العالم وفق ترتيب موقع travelandleisure.

أي زائر لرواندا أو حتى أي مهتم بما حدث في هذا البلد الصغير، لن يتوقف عن التساؤل عن الكيفية التي تحققت بها تلك المعجزة، وكيف تجاوزت هذه الدولة أهوال الحرب الأهلية والإبادة الجماعية وإرثها في ذلك الوقت الصغير، مع كل تلك المعوقات، وهو التساؤل الذي حاولت عشرات الأبحاث الأكاديمية والأفلام الوثائقية الإجابة عنه، وقد لا يتسع له المجال الذي تتيحه قصة صحفية تحاول رصد انطباعات زيارة استغرقت أسبوعين إلى هذا بلد الألف تلة كما تعني كلمة "رواندا" باللغة المحلية. 

 

العفو أكثر فاعلية من الثأر

داخل إحدى قاعات النصب التذكاري لعملية الإبادة الجماعية يمكن للزائر أن يشاهد مقطعًا مصورًا لأحد الناجين الذي فقد جميع أفراد أسرته - زوجته وابنائه - على يد ميليشيات الهوتو، وهو يروي قصته بتأثر شديد، ثم يروي كيف أن أمنيته الوحيدة في الحياة حاليا أن يتقدم له من قتل أسرته ويعترف بذنبه حتى يتمكن من مسامحته، هو لا يبحث عن الثأر ، هو كبقية الرواندين الناجين من الإبادة سامح بالفعل من فعل ذلك ولكنه يريد أن يعرفه ليخبره بأنه قد سامحه بالفعل.

قد يبدوا الأمر غريبا للوهلة الأولى، ولكن هذا هو الدرس الرواندي الأول، الثأر لن يقدم أي شيء سواء للناجين أو حتى للمجتمع، فخلال فترة توليه الرئاسة في البلاد  (1994- 2002)، حاول الرئيس باستور بيزيمونجو تطبيق القانون الجنائي على مرتكبي أعمال القتل والمتورطين في جرائم الإبادة، ما أدخل البلد في حالة من الفوضى العارمة، وامتلأت السجون عن أخرها ولم تستطع المحاكم أن تنظر كل هذا العدد من القضايا. 

بدا واضحًا أن هذا الحل لن يجدي نفعًا ولن يتقدم بالبلاد إلى الأمام، ومن ثم حين تولي الرئيس بول كاجامي مقاليد الأمور قال في كلمة شهيرة وجهها للشعب "لم نأت لأجل الانتقام، فلدينا وطن لنبنيه، وبينما نمسح دموعنا بيد، سنبني باليد الأخرى". وبناء على هذا أسس كاجامي هيئة الوحدة والمصالحة التي حملت على عاتقها حل تلك المشكلة عبر تشكيل محاكم محلية في القرى عرفت باسم جاكاكا، نحو 1200 محكمة محلية كل محكمة مكونة من تسعة قضاة يختارهم سكان القرية.

لا تقوم جاكاكا على فكرة القانون والعقاب، وإنما على فكرة الاعتراف بالخطأ والتكفير عنه عبر خدمة المجتمع، فقط المحرضون وكبار القادة هم من تم تقديمهم إلى المحاكم الجنائية ومنهم من قدم إلى المحكمة الدولية لرواندا.

 

فلسفة جاكاكا أمتدت لتشمل الجميع في رواندا، فالقتلة تقدموا طواعية إلى أهالي من قتلوهم ليعترفوا لهم بذنبهم، ومن جهتهم حرص الأهالي على مسامحة القتلة، ولولا ذلك لم تكن الحياة لتستمر في البلاد خاصة وأنه خلال عملية الإبادة كان الطبيعي أن يقتل الجار جاره بحكم أنه يعلم إلى أي مجموعة ينتمي.

 

نتذكر دوما ما حدث

"نتذكر لنتعلم"، شعار مكتوب على ستة نصب تذكارية توثق وتؤرخ وتذكّر الروانديين بالثمن الذي دفعوه لقاء القبلية والتعصب. أغلب تلك النصب، وهي في معظمها كنائس أو مدارس شهدت عمليات قتل للآلاف، لا تزال تحتوي على عظام وجماجم من قتلوا، معروضة للزوار.

في موبامبي مثلًا أقيم نصب تذكاري لضحايا المذبحة في مدرسة فنية قتل داخل فصولها نحو خمسون ألف من التوتسي في ثماني ساعات فقط، أجساد العشرات من الضحايا على وضعها الذي قتلت عليه داخل الصفوف المختلفة، أما بقية الخمسون ألفًا فقد دفنوا في ساحة المدرسة.

زيارة هذا المكان أو غيره من نصب الإبادة في رواندا ليست بالأمر الهين على النفس، لكنها دائمًا تذكر الروانديين والزوار بما حدث والثمن الذي دفع، وهو ما جعلها المكان المفضل الذي تجمع فيه هيئة الوحدة والمصالحة الناجين والجناة معًا، في جلسات للمصارحة والمسامحة.

 

المرأة تقود النهضة

قبل الإبادة كانت المرأة الرواندية مهمشة إلى حد كبير، لا يحق لها الاقتراع ولا تستحق أي ميراث، أما بعد الإبادة برزت مشكلة من نوع آخر حيث أصبح 70 بالمئة من سكان البلاد من النساء، على اعتبار أن معظم ضحايا المجازر كانوا من الرجال إضافة إلى فرار الكثيرين خارج البلاد. 

نسبة كبيرة من أولئك النساء كن من الأرامل أو المعيلات بالإضافة إلى نصف مليون إمراة تعرضن للاغتصاب خلال الإبادة، حملت كثير منهن بأطفال لم يتمكنوا من معرفة آبائهم، لذا فقد وقعت على كاهل تلك النساء بشكل أساسي مسؤولية النهضة بالبلاد من ركام الإبادة، اليوم تشغل النساء أكثر من 60 بالمئة من مقاعد البرلمان بالإضافة إلى نحو ثلث مقاعد الحكومة ومناصب عليا كثيرة في البلاد مثل منصب رئيس المحكمة العليا ومفوض الشرطة.

النساء اليوم في روندا يتمتعن بكامل حقوقهن ويمكن أن تلاحظ في أغلب القري الرواندية كيف تحتل النساء مناصب قيادية في مجتمعاتهن المحلية بل أن أغلب التعاونيات الزراعية التي تنتشر في أنحاء البلاد تتولى مسؤوليتها نساء.

 

التعاونيات هي الحل

يقوم الاقتصاد الرواندي بشكل رئيسي على زراعة البن والشاي وتصديرهم، بعد الإبادة ظهرت التعاونيات الزراعية كحل لمشكلة إيجاد فرص عمل للناجين من الإبادة، فعملت بعض المنظمات الدولية على شراء قطع أرض زراعية في مناطق مختلفة في البلاد وتقديمها لمجموعات السكان الأكثر فقرا في تلك المناطق والذين هم في الأغلب من الناجين من الإبادة أو النساء المعيلات اللاتي قتل أزواجهن أو سجنوا لمشاركتهم في جرائم الإدابة. 

هذه التعاونيات تقوم على مبدأ الديمقراطية، فالتعاونية تنتخب رئيسها وتصوت على قراراتها في مجلس يضم أعضاء التعاونية ويتقاسم أعضاؤها الربح حسب مشاركة كل شخص في العمل. في هذه التعاونيات يعمل أحد المشاركين في جرائم الإبادة جنبًا إلى جنب مع أسرة أحد ضحاياه الذي ربما يكون قد قتله بنفسه، وهو ما يبدو مستحيلًا لو لم تكن المصارحة والمصالحة متغلغلة في المجتمع. 

نموذج التعاونية لاقى نجاحًا باهرًا في رواندا وامتد من المجال الزراعي إلى مجالات مختلفة كالصناعات اليدوية التقليدية وغيرها من الأنشطة الاقتصادية الأخرى، فالعمل داخل التعاونية يكفل للمشاركين تبادل الخبرة والتعاون فيما بينهم في إنجاح العمل والحفاظ على معدل إنتاج وجودة يضمن الربح المادي للمشاركين.

 

لا مكان للفساد في بلاد المعجزة

رواندا بلد معادٍ للفساد، فهي تحتل المركز الـ 44 عالميًا والأولى على مستوى إفريقيا في مؤشر مدركات الفساد الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية وهو مركز متقدم للغاية، ويمكن ملاحظة هذا في جميع مناحي الحياة في رواندا، فالرشوة فعل مستهجن لأبعد الحدود، والأهم أن السكان يشعرون طوال الوقت بأن لا أحد فوق القانون، وهو ما ساعد على جذب المستثمرين الأجانب إلى جانب توفر الأيدي العاملة. 

المشاركة تعني المسؤولية

إحدى السياسات التي تتبعها رواندا هي سياسة مشاركة المواطنين في صناعة الإنجاز وهو ما يولد لديهم الإحساس الدائم بالمسؤولية تجاه هذا الانجاز ويدفعهم للمحافظة عليه، فعلى سبيل المثال كل مواطن رواندي يشعر أنه من صنع السلام في البلاد سواء عبر اعترافه شخصيًا بالجرم الذي ارتكبه وخدمة مجتمعه تكفيرًا عن هذا الجرم، أو بمسامحة الجاني إذا كان أحد الناجين أو ذوي الضحايا. 

لا يتعلق الأمر فقط بقضية المذابح والناجين منها ومرتكبيها، ولكنه يمتد إلى كل تفاصيل الحياة، سياسة "أومجاندا" مثلًا تقتضي أن يخرج جميع سكان العاصمة كيجالي يوم السبت الأخير من كل شهر لتنظيف شوارع مدينتهم، من رئيس البلاد حتى أصغر طفل، وهي السياسة التي انتهت إلى اعتبار كيجالي أنظف المدن الأفريقية. 

 

سياحة المعجزة

في إطار بحث رواندا عن مصادر مختلفة للدخل القومي بالإضافة إلى الزراعة برزت السياحة كمصدر جديد للدخل، رواندا لا يوجد بها ما يميزها كوجهة سياحية، باستثناء بعض الحدائق الوطنية التي يقوم فيها الزوار بمشاهدة الحيوانات في بيئتها الطبيعية، وهي ليست أمرًا مميزًا باعتبارها موجودة في عدة دول إفريقية، كما يشكل افتقاد البلاد للسواحل نقطة سلبية. 

ولكن البلاد استغلت تجربتها خلال السنوات الأخيرة، فكثيرون يدفعهم الفضول إلى زيارة هذا البلد، لرصد ملامح تلك التجربة العظيمة، حيث لا يخلو أي برنامج سياحي من زيارة واحدة على الأقل لأحد النصب التذكارية للإبادة أن لم يكن أكثر من واحد.

أضف إلي ذلك كون رواندا إحدى أكثر البلدان أمانا بشكل عام وهو ما يجعلها وجهة سياحية مثالية، خاصة مع ارتفاع معدلات الجريمة والفساد أو وجود اضطرابات في دول الجوار.

التجربة الرواندية في النهاية تحمل الكثير والكثير من التفاصيل التي لا يتسع المجال لذكرها وإن كان كافيًا لاستخلاص الدرس الأهم، وهو أن ما حدث في هذا البلد مثال حي على قدرة الشعوب علي النهوض من أحلك الظروف في حال توافر رؤية واضحة وإرادة سياسية وشعبية لتنفيذها.