تصوير: فايد الجزيري

سيرة الرهبنة المصرية: من القديس أنطونيوس للبابا تواضروس

منشور الثلاثاء 21 أغسطس 2018

أثارت جريمة القتل التي راح ضحيتها نيافة الأنبا إبيفانيوس، رئيس دير القديس الأنبا مقار الكبير، شهية الكثيرين للحديث عن أوضاع الكنيسة القبطية، وخصوصًا ما يتعلق منها بالرهبنة. لكن كثير مما كتب ليس له علاقة بالواقع، ويدل على حجم جهل المسلمين في مصر  بالأمور المتعلقة بالأقباط.

غياب المعرفة أدى بطبيعة الحال إلى انتشار الخرافات ونظريات المؤامرة من أمثال وجود أسود مفترسة بالأديرة أو محاولات بناء دولة قبطية من خلال السيطرة على الأراضي، وهي الخرافات التي تنتشر داخل التيار الإسلامي، وإن لم تكن حكرًا عليه. ومن هذا المنطلق وجب الحديث عن الرهبنة وتطورها في عصرنا الحالي، وعن التحديات التي تواجهها، والقرارات الأخيرة للجنة الرهبنة بالمجمع المقدس، التي تستهدف إصلاح المنظومة. 

الراهب في الصحراء

ولدت الرهبنة في مصر على يد القديس الأنبا أنطونيوس الكبير في بدايات القرن الرابع، عندما أسس الرهبنة في الصحراء الشرقية. بالتأكيد سبقه البعض في اختيار الصحراء، لكن معه هو بدأت الرهبنة في اتخاذ شكل الحركة الواسعة.

كانت الرهبنة أحد المعالم الرئيسة لكنيسة الأسكندرية، إلى جانب الاستشهاد والمدرسة اللاهوتية ذائعة الصيت. هناك أسماء أخرى اشتهرت بجانب الأنبا أنطونيوس، مثل الأنبا مكاريوس الكبير أب رهبنة وادي النطرون، والأنبا باخوميوس أب الشركة الذي وضع الأسس التنظيمية لحياة الرهبنة.

ترجمة كتاب البابا إثناسيوس الذي خطه في منفاه بأوروبا لسيرة حياة أنطونيوس، بنقل النص للاتينية، ساهم في نشر الرهبنة حول العالم. مئات من غير المصريين جاءوا إلى صحارى مصر إما للعيش الدائم؛ أو في زيارة ليستلهموا التجربة وينقلونها إلى بلدانهم. الفترة بين القرنين الرابع والسادس حفلت بالعديد من النصوص التي جمعت أقوال آباء البرية وقصص حياتهم التي صارت المثال والنموذج للحياة الرهبانية.

في تلك الحقبة لم تكن الأديرة المصرية بمنأى عن السجالات والخلافات اللاهوتية، وخير مثال على ذلك الدور الذي لعبه الأخوة الطوال في محنة القديس يوحنا ذهبي الفم بطريرك القسطنطينية مع بابا الأسكندرية ثاؤفيلوس، أو دور شنودة رئيس المتوحدين في مجمعي أفسس وخلقدونية.

 

اجتماع ممثلي الكنائس والمدارس اللاهوتية في مجمع إفسس الأول- فسيفساء في بازيليكا نوتردام الفرنسية 

الرهبنة تحت حكم الإسلام

بعد الغزو الإسلامي لمصر في القرن السابع عانت الرهبنة بشدة، وانحدرت بشكل ملحوظ خاصًة مع هجمات البربر. ويلاحظ ذلك في انخفاض عدد الأديرة والرهبان، وضعف جودة الانتاج الفكري الروحي واللاهوتي عقب الغزو الإسلامي. ومع الفترة العثمانية (1517) وصل الحال بالأديرة إلى منتهى الضعف. وهو ما استغله الأوروبيون في سرقة وشراء المخطوطات القديمة التي تنتشر الآن في أنحاء العالم.

بحلول القرن التاسع عشر كانت الأديرة في أزمة حادة. لم يبق من آلاف الأديرة القديمة سوى سبعة أديرة للرهبان؛ أربعة في وادي النطرون (أبو مقار، البراموس، السريان، الأنبا بيشوي)، وديري الأنبا أنطونيوس والأنبا بولا في الصحراء الشرقية، بالإضافة لدير العذراء المحرق في أسيوط، وخمسة أديرة للراهبات في القاهرة.

كان أغلب الرهبان في تلك الأديرة فقراء وأُمّيون، وكانت للأديرة مصادر تمويل محدودة بجانب الأراضي الموقوفة للأديرة عبر القرون، بسبب الحالة العامة للأقباط في تلك الفترة. رغم ذلك، حتى في تلك الفترة المظلمة، بزغ نجم آباء عظام مثل الأنبا ابرام أسقف الفيوم وأبونا عبد المسيح المسعودي الكبير.

علم وجوع 

الأربعينيات والخمسينيات جاءت بالبركات والتحديات. في عام 1948 ترهب لأول مرة جامعيون؛ يوسف اسكندر (الأب متى المسكين) وسعد عزيز (الأنبا صموئيل) ثم تبعهم كثيرون فيما بعد، مما أسهم في إحياء الرهبنة القبطية. لكن في نفس الوقت، دمرت سياسات عبد الناصر الكنيسة اقتصاديًا عن طريق تدمير مُلّاك الأراضي الأقباط ممن كانوا مصدرًا للتبرعات للكنيسة، وكذلك عن طريق السيطرة على الأوقاف مما أدى إلى تجريد الأديرة من مصادر الدخل. كمثال على ذلك يمكننا الرجوع إلى ما ذكره الأب متى المسكين في مذكراته عن الحياة في دير الأنبا صموئيل المعترف، حيث كان الرهبان هناك يعيشون لشهور دون طعام لائق، وكانوا يقومون في غير أوقات الصوم بصب الماء على قطعة جبن واحدة ثم يغمسون الخبز الجاف في الماء للأكل.

 

رهبان يقومون بتنقية البلح في دير صحراوي - ستينات القرن العشرين 

هجمة الحداثة 

صار من الطبيعي أن تبحث الأديرة عن مصادر أخرى للتمويل الذاتي. ومع انضمام خريجي الجامعات صار الأمر ممكنًا. فالمهندس السابق الذي صار راهبًا يؤسس ورشة في الدير لصنع المنتجات الخشبية، وخريج الزراعة يستصلح الأراضي المجاورة. جزء من هذا التحول كان طبيعيًا وامتدادا لرهبنة القرون الأولى التي شجعت الأعمال اليدوية، لكن الصناعة الحديثة أخذت الأمر لأبعد من ذلك؛ أصبح للأديرة عمال يُحصون بالمئات والآلاف، مما ساعد على توفير فرص عمل للأقباط حُرِموا منها في مصر.

النتيجة هي أن الدير أصبح قرية صغيرة (دون نساء بالطبع) لكنه على اتصال بالعالم بشكل مستمر، عبر بيع المنتجات وشراء المستلزمات وتوظيف الأقباط. تزامن ذلك مع التغير الذي شهدته وسائل المواصلات، فالعزلة التي كانت سبب اختيار آباء الرهبنة للصحراء أصبحت مستحيلة، مع شبكة المواصلات والطرق الحديثة. المسافة بين أديرة وادي النطرون والقاهرة صارت ساعة من الزمن. بعد أن كان يستغرق السفر إليها أيام ما جعل الأقباط يلوذون بها هربًا من الاضطهاد قديمًا. 

بعض هذه التغيرات ليس للأديرة نفسها يد فيها. صارت الأديرة وجهة العطلات الوحيدة للأقباط غير القادرين على تحمل نفقات الرحلات الأخرى، وأصبحت حافلات الكنائس تنقل الآلاف إلى الأديرة يوميًا لرحلات اليوم الواحد. بطبيعة الحال صار من الصعب على الرهبان الحفاظ على الحياة الهادئة التي صاغها آباء الصحراء، لقد جاء العالم إليهم بكل رذائله ومشاكله.

اختلفت طريقة كل دير في تعامله مع هذا الأمر، فلم يسمح دير الأنبا مقار بهذه الرحلات باختياره وبقرار دعمه الخلاف بين الأب متى المسكين والبابا شنودة، بينما كان الأمر محكومًا في ديري الأنبا أنطونيوس والأنبا بولا لبعدهم عن المناطق السكانية. لكن بعض الأديرة أصبحت أشبه بالحدائق العامة مثل دير السريان في وادي النطرون، ودير مار مينا، والأنبا بيشوي (بسبب وجود المقر البابوي) حيث يزورها الآلاف يوميًا، ويبيت البعض في المناسبات الدينية الشعبية، فدرجت العادة أن يتحول الدير لمولد يتجاهل فيه الناس القواعد الرهبانية، التي تستلزمون الهدوء والعزلة وتكريس الحياة للصلاة والتعبُّد.

تمثل التحدي الآخر في احتياج الكنيسة للمزيد من الرهبان؛ تحت قيادة البابا شنودة زاد أعضاء المجمع المقدس من 29 إلى أكثر من 100 عضو. وهذا يعني بالطبع أن الرهبان رُسِّمُوا أساقفة. كانت الحاجة إلى قساوسة في بلاد المهجر هي التحدي الأكبر، لم يكن باستطاعة المهاجرون الأوائل تحمل تكاليف إحضار قساوسة بعائلاتهم وأولادهم الذين يحتاجون إلى سكن وتعليم، وبدلًا من ذلك كان الأوفر إرسال راهب زاهد غير متزوج، لن يحتاج الكثير من المال.

والآن لنتخيل راهب يتم إرساله لإدارة الكنيسة القبطية في هاواي، بل إن بعض الرهبان ممن لم يقضوا الكثير من الوقت داخل الأديرة أصبحوا يُنقلون من كنيسة في أمريكا إلى أخرى في هولندا كمثال. هذا وضع غير ملائم بطبيعة الحال لإحياء الرهبنة. ورغم أن الرهبان ممنوعين من تلقي اعترافات النساء، وجد هؤلاء المساكين الذين اختاروا الصحراء أنفسهم فجأة، مُطالَبون بحل المشاكل الزوجية، إذ لم يكن ثمة قساوسة غيرهم في المنطقة.

ساءت الأمور مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، بدأ الأمر طبيعيا مع استخدام الرهبان السوشيال ميديا لنشر أقوال الآباء، ولكن سرعان ما أضاف هؤلاء الرفاق أصدقاء على فيسبوك، وتبادلوا معهم الرسائل وراح الناس يطلبون منهم النصائح.

 

الدير الأبيض بسوهاج

عبء التاريخ

من بين الأمور بالغة التأثير؛ اختلال توازن سنكسار الكنيسة القبطية (سير القديسين)، ولا يقتصر الأمر على الكنيسة القبطية، بل تعاني منه كنائس رسولية عديدة. أغلب القديسين إما رهبان أو شهداء، والنتيجة هي أنه يخيل للطفل القبطي -بغير قصد- أن الحياة المسيحية السليمة غير ممكنة إلا عبر هاتين الوسيلتين، إما الرهبنة أو الشهادة. ونادرًا ما نجد قديسًا لم يندرج تحت أي منهما. خلال تلقين الاطفال مبادئ الحياة المسيحية السليمة، لا نشدد بما يكفي على إمكانية تحقيق الحياة الصالحة في الحياة العادية. ينشأ الطفل القبطي وأبطاله هم القديسين إثناسيوس وأنطونيوس، هؤلاء هم أبطال طفولته.

النتيجة أننا نجد الكثير ممن لا تتلائم شخصياتهم وقدراتهم مع حياة الرهبنة، منجذبين إليها. كثيرون في الأديرة ما كان ينبغي لهم التواجد فيها، وكان من الأفضل لهم أن يخدموا الكنيسة في وظائف أخري.

بعد مقتله انتشرت كلمة منسوبة للأنبا أبيفانيوس حول الحاجة إلى الإصلاح الرهباني. لعل دماءه تحقق ما عجزت كلماته عن تحقيقه.


اقرأ أيضًا: أزمة الكنيسة المصرية.. مقتل الأنبا إبيفانيوس يفتح بابًا جديدًا للتسامح


اعتمدت أجزاء من هذا المقال على ترجمة قام بها كريم كيلاني لتغريدات كتبها الباحث صامويل تادرس