السادات خارجًا من مقر إقامته "دوجوود" وخلفه أسامة الباز وحسن التهامي- كامب ديفيد بلوج

وثائق الخارجية الأمريكية| مستوطنات سيناء: لعبة بيجن وديان لتجنب الحديث عن مستقبل فلسطين؟

منشور الاثنين 13 أغسطس 2018

قبل عامين من حرب أكتوبر؛ بدا أن السادات كان يعرف مبكرًا ماذا يريد. فقد أرسل مع وزير الخارجية الأمريكي رسالة واضحة ومختصرة لديفيد بن جوريون، مؤسس الدولة العبرية: أريد السلام مع إسرائيل.

كتب بن جوريون في رسالة لصديقه كينيث تريم "السلام في الشرق الأوسط يعتمد على مصر وعلى روسيا. السيد روجرز، وزير الخارجية الأمريكي، وصل بالأمس إلى إسرائيل وجاء لمقابلتي. قال لي إن السادات يريد إقامة السلام. لو كان ذلك حقيقيًا، فسوف نقيم السلام. لكنني لست مقتنعًا بعد أن السادات يريد السلام. جزء كبير يعتمد على روسيا. ينبغي أن ننتظر ونرى. المخلص د. بن غوريون 7 مايو 1971".

 

صورة من خطاب بن جوريون لصديقه كينيث تريم في مايو 1971

في صيف العام التالي؛ طرد السادات الخبراء العسكريين السوفييت من القواعد العسكرية المصرية. وفي خريف العام الذي تلاه عبرت القوات المصرية إلى الضفة الشرقية من قناة السويس. وبعد انتهاء العمليات القتالية بدأت المفاوضات بين القادة العسكريين من الطرفين من أجل فك حصار الجيش الثالث الميداني والاتفاق على تبادل الأسرى والقتلى.

وما بدا رغبةً في السلام نقلها روجرز من القاهرة إلى تل أبيب في عام 1971؛ تحولت إلى مسارٍ تفاوضي بين مصر وإسرائيل برعاية الولايات المتحدة وغياب الحليف الأكبر لمصر، الاتحاد السوفيتي. وهنا يمكن فهم الجملة التي كتبها بن غوريون "جزء كبير يعتمد على روسيا"، أو للدقة: غياب روسيا.

ذهب السادات إلى كامب ديفيد دون أن يكون معه السوفييت أو العرب. كان لديه تصور غائم أن أي اتفاق قد يحصل عليه خلال المفاوضات سوف يجعل الفلسطينيين والأردنيين والسعوديين وبدرجة ما السوريين ينخرطون في عملية التفاوض، وبالتالي لن تكون مصر حينها وحيدة في علاقتها مع إسرائيل أو في سلامها المنفرد.

لكن التصور الأغرب لدى السادات قبل بدء التفاوض تمثّل في اعتباره عملية التفاوض مسألة بسيطة تقوم على تقديم مصر مقترحها من أجل السلام، وهو ما سترفضه إسرائيل، وفق توقع السادات، وحينها يتدخل الرئيس الأمريكي جيمي كارتر ويضغط على بيجن لقبول العرض المصري، فيقبل بيجن وتكون مصر قد حققت إنجازًا هائلاً. أما إذا رفض بيجن فإن مصر، وفق تصور السادات الذي تكشفه الوثائق المفرج عنها، لن تخسر شيئًا بل أنها ستكسب علاقةً أوثق مع الولايات المتحدة.


لتفاصيل أكثر عن رؤية السادات لمسار التفاوض؛ اقرأ الحلقة الثالثة من الوثائق.  

في كتابه "ثلاثة عشر يومًا في سبتمبر"  يذكر الكاتب الصحفي لورانس رايت،  أن السادات قال لمستشاريه "ما نسعى إليه هو أن نكسب الرأي العام العالمي. الرئيس كارتر يقف إلى جانبنا. هذا سوف يسهم في سقوط بيجن".

عقدة المستوطنات

في اليوم الثالث من المفاوضات وبالتحديد في العاشرة والنصف صباحًا اجتمع كارتر مع السادات وبيجن في مقر إقامته داخل منتجع كامب ديفيد. في الاجتماع العاصف بين السادات وبيجن بدا لكارتر أن مهمة إيجاد مساحة مشتركة بين مواقف الرجلين تكاد تكون مستحيلة.

فبيجن يرفض تفكيك المستوطنات الإسرائيلية في سيناء بينما يريد السادات سيادةً كاملة عليها. كما أن لإسرائيل عشر مطارات على أرض سيناء تريد الإبقاء عليها أو نقل إدارتها إلى الولايات المتحدة واستخدامها، وهو ما رفضه السادات بشكل قاطع. ولم يكن من الواضح أمام الرئيس الأمريكي كيفية نزع السلاح من سيناء، وما هي حدود تسليح القوات المصرية على الأرض.

أما فيما يتعلق بدولة فلسطينية مستقلة فإن بيجن اعتبر ذلك خطرًا داهمًا على أمن إسرائيل، فيما اعتبرها السادات قادمة لا محالة ولكن ضمن ترتيب خاص يربط الدولة الفلسطينية مع الأردن أو إسرائيل، وهو أمر يرى السادات أن الفلسطينيين هم أصحاب القرار فيه.

 

السادات كان يعتقد أن باستطاعته قلب الطاولة على بيجن اعتمادًا على علاقته بكارتر

خطبة السادات

في الرابعة مساءً اجتمع نائب الرئيس الأمريكي والتر مونديل ووزير الخارجية سيروس فانس والسفير الأمريكي في القاهرة هيرمان إيلتس مع الوفد المصري الذي مثّله وزير الخارجية محمد إبراهيم كامل والدبلوماسي أحمد ماهر، وزير الخارجية فيما بعد. 

في الاجتماع حدد الدبلوماسيان المصريان الملفات التي لن يتساهل فيها السادات وأهمها ضرورة تفكيك المطارات الإسرائيلية في سيناء. بعدها بساعة اجتمع السادات وبيجن وكارتر مرةً أخرى في مكتب الأخير. أصر بيجن على موقفه من مستوطنات سيناء ووصفها بأنها حيوية من أجل أمن إسرائيل وبأن أحزاب المعارضة أيضاً تعارض تفكيكها، بينما رفضها السادات بغضب وربط بين تفكيكها وبين تحقيق السلام.

قال السادات لبيجن إن الشعب المصري "يتوق للسلام لكنه لن يقبل أي مس بسيادته على أراضيه"، ووصف وجود أي مستوطنة لإسرائيل على أرض سيناء بأنها إهانة لمصر. ثم ختم مداخلته بالقول إنه يحاول تقديم "نموذج للصداقة والتعايش (مع إسرائيل) لبقية الزعماء العرب من أجل أن يحذو حذوي. لكن بدلًا من ذلك تلقيت إهانةً شديدةً من إسرائيل، وتقريعًا وإدانةً من بقية الزعماء العرب. لا أزال أحلم بعقد اجتماع يضمنا نحن الثلاثة على جبل سيناء، كي نمثل ثلاث أمم وثلاث ديانات".

على عكس الأداء الدرامي الغاضب من السادات، جاء رد الفعل البارد من بيجن والذي قال إن هناك نحو ألفي إسرائيلي يقيمون في ثلاثة عشر مستوطنة على أرض سيناء، فلماذا لا يقنع السادات المصريين بقبولهم كمقيمين دائمين لا يشكلون خطراً على مصر ولا يمثلون مسًا بسيادتها.

تقول الوثيقة المفرج عنها حديثًا، إن رد السادات جاء على ذلك بأنه لا يرى أي فائدة من مواصلة المفاوضات. أصيب كارتر بالرعب وحذر الرجلان من أن فشل المفاوضات قد يعني حرباً عالمية. وجه كلامه إلى بيجن وقال إنه لا يتصور أن يختار الإسرائيليون المستوطنات على إقامة السلام مع مصر، ثم طالبه بالذهاب الى الكنيست وعرض الأمر على النواب إذا لم يستطع تقديم تنازلات حول المستوطنات خلال المفاوضات، وقال كارتر إنه واثق من أن نواب الكنيست سيوافقون. رفض بيجن ذلك وقال إن الشعب الإسرائيلي لن يقبل به وسيجلب ذلك نهاية حكومته، كما أنه غير مقتنع بأن تفكيك مستوطنات سيناء أمرٌ صائب. ذهب الرجلان باتجاه الباب، ووفق ما ذكره لورانس رايت فإن كارتر اعترض طريقهما وترجاهما للبقاء يوماً واحداً كي يكون قد أعد مخرجًا لاستكمال التفاوض. وافق بيجن وهز السادات رأسه موافقًا.

الحفلة

في المساء حاول كارتر وزوجته تخفيف الأجواء المحتقنة بين السادات وبيجن عبر إقامة عرض صامت بالسلاح أدّاه جنود مشاة البحرية المارينز. لكن السادات كان غاضبًا للغاية من بيجن لدرجة عدم ذكر اسمه ووصفه في حواراته مع كاتر أو زوجته بـ "هذا الرجل".

أكد كارتر للوفد المصري أن موقفه من مستوطنات سيناء متطابق مع موقفهم وإنه يعتبرها غير قانونية ويجب تفكيكها ولكن ليس لديه حل، وهو يريد فقط مزيدًا من الوقت. عبّر السادات عن نفاد صبره وقال إنه "مستعدٌ لإبداء مرونة، لكن ليس حول سيناء. لابد أن أحصل أيضًا على قرار حول الضفة الغربية وغزة".

 

صورة من عرض مشاة البحرية الذي حضره السادات وهو غاضب من بيجن- كامب ديفيد بلوج

خلال الليل لم يستطع وزير الخارجية المصري محمد إبراهيم كامل النوم وتبادل الحديث مع زميله في الغرفة بطرس غالي حتى ساعة متأخرة من الليل. كان كامل غاضبًا من أن السادات يجلس صامتًا معهم ولا يخبرهم بتطورات المفاوضات مع بيجن وكارتر، وأن كارتر ألقى بملاحظة ألمح فيها "أن السادات معتدل بينما مساعدوه متشددون".

لعبة ديّان

في الثامنة والنصف من صباح اليوم التالي اجتمع كارتر مع أعضاء وفده وبدوا متشائمين من نجاح المفاوضات. بعدها بقليل علم كارتر أن السادات يستعد للرحيل وأن بيجن بدأ في العمل على صياغة أسباب فشل المفاوضات. طلب كارتر من بيجن الاجتماع به في الثانية والنصف ظهرًا وطلب من السادات الاجتماع به في الثالثة والنصف من عصر اليوم الرابع من المفاوضات.

على الرغم من ذلك عقد الوفدان الأمريكي والإسرائيلي اجتماعًا في التاسعة والنصف صباحًا ضم وزراء خارجية ودفاع البلدين. ووفق محضر الاجتماع لم يتطرق الوفدان لمستوطنات سيناء وتم التركيز فقط على ترتيبات الأوضاع في الضفة الغربية وغزة. وهو ما يشي أن هدف الإسرائيليين منذ البداية كان إشغال المصريين بمسألة المستوطنات في سيناء من أجل الحصول على تنازلات في ملف الضفة الغربية وغزة.

ومن اللافت أن وزير الخارجية الإسرائيلي موشيه ديان حدد بوضوح في الاجتماع سياسة إسرائيل في التعامل مع "السكان الأصليين" للأراضي الفلسطينية التي تم احتلالها بعد حرب عام 1967، إذ قال إن "إسرائيل تفرق بين مستقبل الفلسطينيين العرب أنفسهم وبين مستقبل الأراضي في الضفة الغربية وغزة". وأكد على أن الاعتراف بحق الفلسطينيين العرب في المشاركة في تقرير مصيرهم لا يعني أنهم سيأخذون أراضيهم. كما جادل بأن السماح للفلسطينيين العرب بتقرير مستقبل الضفة الغربية وغزة يعني أنهم في موقع يسمح لهم بتقرير عنصر هام في مستقبل اليهود، وهو ما لا تستطيع إسرائيل القبول به" حسب الوثيقة.

 

موشيه ديان وزير الخارجية مع عزرا وايزمان وزير الدفاع- كامب ديفيد بلوج

مصر تريد إشراك العرب

بعدها عقد الوفد المصري برئاسة وزير الخارجية كامل اجتماعًا مع الوفد الأمريكي برئاسة وزير الخارجية فانس وناقشوا مطولاً السلطة القضائية لمحكمة العدل الدولية فيما يتعلق بالخلافات حول تطبيق أي اتفاق للسلام، كما ناقشوا مسألة السيادة في الضفة الغربية وغزة، المستوطنات الإسرائيلية، وعودة اللاجئين الفلسطينيين، ومستقبل القدس. وفق محضر الاجتماع بدا المصريون مشغولين بأمرين: الأول أن تتضمن الرؤية الأمريكية مقترحات تسهل إشراك الدول العربية في المفاوضات، والثاني التركيز على المستوطنات في سيناء.

حول القدس قال كامل إن "مصر مشغولة بأن يكون المقترح الأمريكي مقبول لدى السعوديين. ينبغي أن يتضمن (المقترح) بعض العبارات حول القدس من أجل إشراك الأردنيين. ينبغي على الولايات المتحدة أن تساعد مصر في تعزيز موقفها. فمصر تعتمد على الصداقة المستمرة مع الولايات المتحدة، والمصريون يريدون حلاً شاملاً. وزير الخارجية (سيروس فانس) أوضح أنه دائمًا ما يتحدث عن حلٍ دائم".

لاحقاً قال المصريون لإيلتس (السفير الأمريكي لدى مصر) وكواندت (عضو مجلس الأمن القومي) إنهم يعتقدون أن مستوطنات سيناء ينبغي أن يتم التعامل معها في ورقتهم (الورقة الأمريكية) بشكل مختلف عن تلك الموجودة في الضفة الغربية".


الحلقة الثانية من الوثائق: الحالة الذهنية للوفد المصري: السادات متعجل على التنازلات.. و "الخارجية" خائفة​


المراجع:

FOREIGN RELATIONS OF THE UNITED STATES, 1977–1980, VOLUME IX, ARAB-ISRAELI DISPUTE, AUGUST 1978–DECEMBER 1980, SECOND, REVISED EDITION: الوثائق أرقام 35 و36 و37

Thirteen Days in September: Carter, Begin and Sadat at Camp David by Lawrence Wright