طفلة تتلقى وجبة مطهية في مطبخ مدرسي - بنك الطعام المصري

الوجبة المدرسية الجديدة.. مكافحة التسمم باختيار الجوع

منشور السبت 1 سبتمبر 2018

 

في منتصف الثمانينات كنت تلميذًا بمدرسة الامبركاب الابتدائية بأسوان. في مدرستي كان هناك مطبخ مدرسي يقدم وجبة ساخنة يوميًا، يعدها طهاة من أبناء قريتي "دهميت"، والقرى المجاورة "امبركاب وكشتمنة"، يعملون في المدرسة التي يتعلم بها أبناؤهم.

ربما كنت مع زملائي وأبناء جيلي من أوائل المستفيدين من برنامج الوجبات المدرسية الذي بدأ عام 1981، لمواجهة الأنيميا وتقزم الأطفال بالمناطق المهمشة بجنوب مصر. استمر برنامج التغذية، لكنه تعرض خلال الثلاثين عامًا الماضية لتغيرات عدة. في البداية، تراجعت الوجبة الساخنة ليحل محلها وجبة جافة تحوي بيض وجبن وخبز وفاكهة ومربي، بعد ذلك اختفت هذه الوجبة أيضا، وحل محلها علب البسكويت السادة "المُحسَّن بالفيتامينات"، والذي لم يكن يأتي كل يوم أو بانتظام.

لم يكن الأطفال يحبذون هذا البسكويت، وكنت أرى الصغار من أبناء عائلتي يقدمونه لأمهاتهم في مقابل بضعة قروش لشراء حلوي أو بسكويت محشو بالشيكولاتة "غير محسن".

ضربات التسمم

يغطي برنامج الوجبات المدرسية حوالي 12.5 مليون تلميذ، وتستثمر الحكومة المصرية مبلغ 110 ملايين دولار سنويًا بهذا البرنامج. 

حتى 2017 كانت الوجبات المقدمة تنقسم إلى خمسة أنواع؛ 

1- الوجبات المطهوّة، وتقدم لتلاميذ المدارس الداخلية (ذات المبيت) وبعض المدارس الرياضية التجريبية وبعض مدارس التربية الخاصة.

2- الوجبات الجافة؛ وتتكون من رغيفي خبز بلدي، وجبن أو بيض، وحلوى طحينية أو مربى. ويمكن أن تشتمل على ثمرة فاكهة.

 3- وجبة البسكويت؛ وتتكون من وحدة بسكويت محسنة بالفيتامينات والحديد وزن 80 جرام، أو وجبة الفطيرة (فطيرة محسنة بالفيتامين والحديد ومحشوة بالعجوة أو المربى.

4- عبوة حليب مبستر. وحدها دون أي إضافات.

ووفقا لتقرير "منظومة التغذية المدرسية في مصر" الصادر عن مجلس الوزراء عام 2014، كانت الوجبات الساخنة تمثل نسبة 0.2% من اجمالي الوجبات المقدمة والوجبات الجافة تمثل 6.8% ووجبة البسكوت 29.8% ووجبة الفطيرة 49.1 % والحليب 14.1.%. أي أن غالبية الوجبات التي يقدمها البرنامج، هي وجبات جافة ومعلبة ولا تحوي خضروات علي الإطلاق.

 

أطفال يتناولون وجبة

بعد سلسلة من حوادث التسمم التي حدثت عام 2017 بعدة محافظات، أصدر وزير التعليم قرارًا بوقف الوجبات المدرسية لحين إعادة هيكلة نظام الوجبات. وجرى وضع نظام جديد للتطبيق هذا العام (2018-2019) بعد إجراء مجموعة من التعديلات أبرزها هو تدخُّل هيئة سلامة الغذاء للإشراف على المصانع المنتجة للوجبات المدرسية. كذلك تم وضع ضوابط جديدة لمناقصة إنتاج التغذية، تتمثل في كراسة شروط وعقد موحد لجميع الموردين، مع تحويل المناقصة من عامة إلى محدودة.

وتضمنت التعديلات أيضا قيام المحافظين بالتوقيع على عقود التوريد. ومن أهم التغيرات التي حدثت أيضًا؛ إلغاء الوجبة الجافة نظرًا لتعدد حالات التسمم بسببها، وإقرار وجبة البسكويت المحسن وزن 50 جرامًا لتلاميذ رياض الأطفال، و80 جرامًا لطلاب المرحلة الابتدائية. كما تم أيضا إقرار وجبة الفطيرة " سادة" أو " بالعجوة" وقطعة حلاوة طحينية بدلًا من الوجبة الجافة.

تعاني الوجبات المقدمة وفقًا للتعديلات الأخيرة -أكثر من سابقتها- من افتقارها إلى الغذاء المتوازن، والغياب التام للخضروات والفاكهة والوجبات الساخنة أو الجافة. اختارت الدولة الحل الأسهل لمواجهة التسمم، وهو إلغاء الوجبة الجافة التي تكررت معها إصابة التلاميذ بالتسمم. لكن المشكلة ليست في الوجبة؛ ولكن في مواصفات التوريد والرقابة ونظام حوكمة الغذاء المقدم لطلاب المدارس.

 

تلميذات في المستشفى للعلاج من التسمم بعد وجبة مدرسية فاسدة - المنوفية 2017

العبء المزدوج لسوء التغذية

يعرِّف صندوق الطفولة التابع للأمم المتحدة "يونيسيف" الجوع أو نقض الغذاء بأنه عدم كفاية الغذاء المتناول، أو عدم الاستفادة منه الاستفادة الكاملة، مما ينتج عنه الإصابة ببعض الأمراض كنقص الوزن مقارنة بالعمر، أو التقزُّم (قصر الطول بالنسبة للعمر) أو الهزال (انخفاض الوزن بالنسبة للطول) أو نقص المعادن والفيتامينات (سوء التغذية). ويرتبط الجوع بتناول كمية طعام أقل مما يُلبي الاحتياجات الأساسية للإنسان من الطاقة.  

في مصر يجتمع شكلين متناقضين من أشكال سوء التغذية، الأول مرتبط بنقص التغذية والأخر مرتبط بالتغذية المفرطة وغير الصحية. تُسمّى هذه الحالة في دراسات التغذية بالعبء المزدوج لسوء التغذية.

تُظهر دراسة حديثة أجريت عبر المركز الدولي لبحوث سياسات الغذاء أن 31.2 % من الأطفال في مصر من عمر ستة أشهر إلى عمر 59 شهرًا (حوالي خمس سنوات)  مصابين بالتقزم. و29.2% وزنهم زائد. من ضمن هؤلاء المصابين بالتقزم هناك 45% يعانون زيادة الوزن. أي أن حوالي 14% من جملة الأطفال يجمعون بين التقزُّم وزيادة الوزن في الوقت نفسه.

 ويتضح من الجدول الذي تشمله الدراسة أن التفاوتات بين الريف والحضر، وبين المجموعات الاجتماعية المختلفة ليست كبيرة جدًا. وهذا يوضح مدي إشكال أزمة التغذية في مصر.

المُلاحظ أيضا أن النمو الاقتصادي الذي شهدته مصر خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين لم يؤدِ إلى تراجع التقزم.

في إطار متصل، وفي دراسة أجراها مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار في مصر بالتعاون مع صندوق الغذاء العالمي عام 2013؛ اتضح أن من آثار الجوع زيادة الإنفاق على الخدمات الصحية، ونقص القدرات البدنية والمعرفية، وتدني التحصيل الدراسي وتدني القدرة الإنتاجية، ما ينعكس على إنتاجية الأفراد.

كما ظهر أن 41 % من المصريين في سن العمل يعانون من التقزُّم. وأن حوالي 11% من وفيات الأطفال تعود إلى نقص الغذاء. وقدَّرت الدراسة التكلفة الاقتصادية والاجتماعية لنقص التغذية لدى الأطفال -عام 2009- بحوالي 20.3 مليار جنيه مصري.

كرد فعل للأزمات الغذائية وانخفاض القدرة الشرائية للأسر؛ تتبنى العائلات استراتيجيات معينة للتأقلم. وتشمل هذه الاستراتيجيات عادة تقليل كمية الغذاء المُستَهلَكة؛ والاعتماد علي أغذية أقل تكلفة ومرتفعة السعرات الحرارية، وغالبًا ما تكون أغذية أقل في الجودة. بالإضافة للاعتماد على تقليل أو اختفاء اللحوم والدواجن والأسماك من الوجبات.

في إطار مسح بالعينة أجراه مركز دعم اتخاذ القرار بالتعاون مع مرصد الغذاء المصري، بين أبريل ويونيو 2013 (نيسان - حزيران 2013)؛ أعربت الأسر الأكثر احتياجًا عن أن هناك مجموعات غذائية صارت أعلى من قدرتها على الشراء، وهذه المجموعات هي البروتينات الحيوانية (اللحوم بأنواعها) والخضروات والفاكهة، ثم البقول (باستثناء الفول البلدي). وهذا يفسر انتشار فقر الدم (الأنيميا) وسوء التغذية.

 

أطفال يأكلون من تبرعات المارة في الشارع 

روشتة مُجرَّبة

تشير تجارب عديدة في دول مثل البرازيل وشيلي واسكتلندا إلى أهمية شراء المواد الخاصة بالتغذية المدرسية من السوق المحلية، وإعداد الوجبات المدرسية من مصادر محلية كذلك، مما يدعم الاقتصاد المحلي، كما أن النتيجة المنطقية هي سلامة الغذاء لحرص المجتمع المحلي على صحة أبنائه الذين سيتناولون هذه الوجبات.

وفي مناطق كثيرة من العالم تم الاستغناء عن الوجبات الجافة (عالية الفيتامينات)، وحل محلها وجبات ساخنة متجانسة القيم الغذائية. في الولايات المتحدة يقدم برنامج الغداء المدرسي الوطني NSLP وجبات مدعومة، تتضمن وجبات متوازنة غذائيًا؛ إما بدون مقابل أو بمقابل منخفض للتلاميذ في كل يوم دراسي.

في عام 2016 كان البرنامج يغطي 30.4 مليون طفل، وتديره وكالة التنمية الزراعية الأمريكية، وبالتالي يدعم البرنامج في ذات الوقت المنتجين الزراعيين بالاضافة الي التلاميذ.

 

وجبة مدرسية لطفل في شيلي -

رغم أن تكلفة الجوع في مصر تتجاوز 20 مليار جنيه تفقدها الدولة نتيجة جوع الأطفال وتراجع قدراتهم الذهنية صغارًا، وإنتاجيتهم كبارًا، كما أسلفنا؛ إلا أن الحكومة تنفق أقل من 5% من هذا المبلغ على التغذية المدرسية لمواجهة جوع الأطفال.

ويفتقر البرنامج إلى وجود علاقة مع الإنتاج المحلي ومعالجة المشكلات الهيكلية في النظام الغذائي والزراعي في مصر. مع أن تقديم وجبة ساخنة ومتكاملة غذائيًا قد يساعد على الحد مشكلات الجوع بين أطفال المدارس. وعلى الرغم من المبادرة الرائدة لبنك الطعام المصري في نشر فكرة المطابخ المدرسية؛ إلا أن التنفيذ لا يزال هزيلا؛ حيث يغطي البرنامج 30 مدرسة فقط، ويحتاج تعميمه إلى وجود تدخُّل وتعاون جاد من الدولة، وألا يعتمد على التبرعات غير المضمونة أو المستقرة.                                                  

https://www.youtube.com/embed/xuGyp-8s32o

يوضح الأستاذ حسين إبراهيم، الأمين العام لنقابة المعلمين المستقلة خلال مقابلة صحفية علي موقع البوابة نيوز أن وجبة البسكويت التي يتم توزيعها على الطلاب "لا تُسمن ولا تُغني من جوع"، ومن الأفضل أن " يتم تقديم وجبة غذائية صحية".

ولكي تحقق الوجبات الغذائية أهدافها؛ يجب إعادة صياغة التغذية المدرسية بحيث ترتكز على الغذاء الصحي وتقديم وجبة متكاملة للأطفال تعتمد في إنتاجها علي المكونات المحلية، ويتم إعدادها داخل المدرسة؛ مما سيوفر فرص عمل في المجتمع المحلي ويقلل حجم الفساد المرتبط بالمناقصات القُطرِيّة أو الإقليمية، كما سيدعم المنتجين المحليين.

إذ يستحوذ القطاع الخاص على 70% من حجم توريد التغذية المدرسية، في حين تتولى مصانع وزارة الزراعة توريد 30% فقط من إجمالي الأغذية المُورَّدة الي وزارة التربية والتعليم. وقد كشف مدير أحد المصانع لموقع البوابة نيوز عن تحجيم عمل مصانع التغذية المدرسية التابعة لوزارة الزراعة، بغرض تمكين القطاع الخاص من الاستحواذ علي الحصة الأكبر من توريد الوجبات المدرسية.

إن تحويل برنامج التغذية المدرسية إلى المصادر المحلية، ودعم الفلاحين المنتجين للغذاء البيئي يقلص من الفساد، ويزيد من المراقبة والمشاركة المحلية في توفير الغذاء الآمن والصحي.

تتطلب مواجهة الجوع أيضًا الاستثمار في الإرشاد الغذائي (التوعية) والبنية التحتية والخدمات العامة، التي تمكن الدولة والمجتمعات المحلية من التدخل الغذائي الفعال والآمن.


اقرأ أيضًا عن الرحلات الخائبة للمطلقات في انترفيو المدارس