دروس سياسية من ديمقراطية فيسبوك

منشور الأحد 5 أغسطس 2018

اختلفت دائمًا وأختلف حاليًا وسأظل أختلف دومًا مع الفكر الرأسمالي الذي أعتبره شر من كبريات شرور هذا العالم، والمتسبب الأول والأخير فى الفقر المدقع الذي يعيش فيه الجزء الأكبر من سكان هذا الكوكب، وهو أيضاً الآلية التي تخلق أشد الاختلالات في ميزان العدالة الإجتماعية حتى في أكثر الدول ثراءً. 

لكنني في الوقت نفسه؛ لا أجد مفرًا من الاعتراف بأن بعض الممارسات الرأسمالية، على الأقل فى الرأسماليات الغربية الأكثر نضجًا، تحمل فى طياتها ملامح يُمكننا وصفها بأنها ذات طابع ديمقراطي من حيث المبدأ، بصرف النظر عن الدوافع من ورائها، والتي غالبًا لا تستهدف سوى تعظيم الأرباح وحسم الصراع حول السيطرة عليها. ولدينا فى هذه الأيام مثالاً واضحًا على ذلك، يتمثل في الطلب الذي تقدمت به شركة "تريليوم لإدارة الأصول" Trillium Asset Management الأمريكية، إلى الجمعية العمومية القادمة لشركة فيسبوك؛ المزمع عقدها في مايو/ أيار  2019 للتصويت على إزاحة مؤسس الموقع مارك زوكربرج من مقعد رئيس مجلس إدارة فيسبوك.

وتستند الشركة في طلبها على امتلاكها أسهم تصل قيمتها إلى 11 مليون دولار في عملاق التواصل الاجتماعي. وتدفع في اتجاه أن يكتفي زوكربرج بمنصب الرئيس التنفيذي.

وهناك أمران لافتان للنظر حقًا فى هذا الحدث الجلل فى عالم المواقع الإلكترونية؛ أولهما هو موعد تقديم هذا الطلب الذي جاء قبل عشرة أشهر كاملة من موعد انعقاد الجمعية العمومية. وهو ما بررته تريليوم بأنها تريد إعطاء زوكربرج فرصة الموافقة وترك منصب رئيس مجلس الإدارة طواعية. بما يمثل إشارة واضحة إلى رغبتها في أن يتم التغيير بالتوافق وليس بالإقصاء، رغم أن مثل هذا التصويت -إن حدث- سيمثل عملية ديمقراطية مثالية حتى لو جاءت النتيجة بما يطيح بزوكربرج جبرًا.

ولكن بالرغم من كل تحفظات الشركة على زوكربرج، فهي لا تزال ترى، على ما يبدو، أن الصراع مع بطريرك الشركة على السلطة بداخلها لن يكون فى صالح مجموعة المساهمين. وقد يؤدى إلى تشابكات وقصور فى إدارة الكيان ستؤثر حتمًا على ربحيته. وهي بذلك تلقن العديد من الدول والحكومات حول العالم – ومنها مصر بالطبع – درسًا مهمًا عن كيفية نجاحها فى إدارة مجتمعاتها، بما يحقق مصلحة شعوبها وليس النُظم الحاكمة.

ففd هذه الدول دائمًا ما نجد أصحاب السلطة متشبثين بمواقعهم ومقاعدهم، وكأن هذه السلطة غاية في حد ذاتها، وهم غير مؤمنين على الإطلاق بأهمية التغيير، الذي إن أتى؛ فيأتي ثمنه باهظًا بصرف النظر عن الطرف المُحق أو غير المُحق. ولنا عبرة بذلك في أحداث 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013 على حد سواء على اختلاف الدوافع والميكانيزمات والخلفيات السياسية بين الموقفين، واختلاف الإطار التاريخي أيضًا، رغم أنه لا يفصلهما عن بعضهما البعض سوى عامين.

 

ومن المهم أيضًا الإشارة إلى الأسباب التفصيلية التي أوردتها "تريليوم لإدارة الأصول" في طلبها الذي تأمل أن يوافق عليه زوكربرج بدون تصويت، حيث قالت أن الجمع بين منصبي الرئيس التنفيذي ورئيس مجلس الإدارة يمثل تضاربًا واضحًا في المصالح، ويعطيه سلطات زائدة عن الحد تمكنه من السيطرة شبه الكاملة على شركة بها الآلاف من المساهمين وتقدر قيمتها بمليارات من الدولارات، وهو ما يتناقض مع فكر السوق الحر وأسسه.

وتستند الشركة مُقدمة الطلب هنا بالطبع على مبدأ "فصل السلطات" الذي أسس له فلاسفة وسياسيين عظماء بداية من أرسطو، مرورًا بجون كالفين ووصولاً إلى شارل مونتسكيو، سعيًا لمنع سوء استغلال السلطة والجنوح بها إلى الفساد، وهو ما حدث مع "فيسبوك" فعلا في وقائع مختلفة، تتقدمها فضيحة تسريب بيانات المستخدمين إلى شركة Cambridge Analytica، والتي ترتب عليها محاولة التلاعب فى نتائج الإنتخابات الرئاسية الأخيرة بالولايات المتحدة.

وترى "تريليوم" هنا بالتالي، أن تمركز السلطة فى يد زوكربرج يصب فى غير صالح الشركة (ولنعتبرها الدولة) ومساهميها (وفلنعتبرهم الشعب)، أي أنها تفند الفكرة البائسة السائدة فى بلادنا، بأن الإدارة الفعالة تعتمد على قوة الفرد المدير وليس على قوة نظام الإدارة نفسه.

وعززت الشركة مُقدمة الطلب حججها بقولها إن طلبها هذا ليس بدعة، بل مُطبَّق بالفعل فى العديد من الشركات الأمريكية الكبرى، ذكرت منها عمالقة مثل "جوجل" و"مايكروسوفت" و"أبل" و"تويتر" و"أوراكل" وغيرهم. أي أن مثل هذا الشكل من الإدارة هو الذي يضمن نجاح الكيان، وليس تسلُّط الفرد الواحد الذي يُخضع الأشياء لوجهات نظره الشخصية.

نتعلم من هنا إذن أن حتى أشد النظم عداءً لفكرة الديمقراطية الحقيقية، لن تتمكن مهما بلغت درجة استبدادها واستغلالها وشموليتها من البقاء على قيد الحياة، دون تطبيق الحد الأدنى من نفس تلك الفكرة التى يكرهونها لكونهم يرون فيها تهديدًا لمراكزهم وسلطتهم، أو بالأحرى  تهديدًا لمساحات تسلطهم على الآخرين.

أذكر من حصص التاريخ أنه في قديم الزمان ببلاد الأغريق، عندما ظهرت أولى أشكال الديمقراطية كانت مقصورة على طبقة النبلاء والأغنياء Patricians مع استبعاد عامة الشعب، وكانت تتلخص فى إمكانية أن يرفض هؤلاء الحاكم الجديد حال موت القديم ولكن دون إمكانية اختياره، بل كانت السلطة العليا ترشح حاكمًا غيره إلى أن تتم الموافقة على أحدهم. وأقسم بالله العظيم أن مثل هذا النظام – الذي يظل شديد التسلط- هو أقصى أمنياتي في هذه الأيام، من منطلق أنه "أحسن من مفيش". وقد يكون مؤشرًا على أن النخبة الحاكمة استوعبت جزءًا من دروس الماضي، ولا تعتبر مجرد المطالبة بالتداول السلمي للسلطة نوعًا من الخيانة للوطن.

كما أتمنى أن تكون وجهة نظر مارك زوكربرج في هذه الأمور، قريبة نوعًا من رؤيتي؛ وإلا فربما نرى في المستقبل المنظور كبار مديرين -وربما صغار موظفي- "تريليوم" وقد أغلقت حساباتهم على "فيسبوك" عنوة وتم اتهامهم بمخالفة نظام "البوستات"، مما سيترتب عليه تحقيقًا ربما يؤدى إلى أنهم منضمين لجماعة أسست لدعم "تويتر" أو وتستهدف زعزعة استقرار "فيسبوك".

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.