مواجهة الشائعات: حملة رئاسية بأغراض خفية

منشور الأحد 19 أغسطس 2018

صدق الرئيس عبد الفتاح السيسي مطلع هذا الأسبوع على قانون مكافحة الجريمة الإلكترونية الذي يدافع عنه مؤيدوه بكونه وسيلة فعالة "للحد من الشائعات"

في عظته الأسبوعية مساء الأربعاء (8 أغسطس/ آب)، حذَّر البابا تواضروس مما أسماه "الصفحات الصفراء" في وسائل الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي. لم تكن عظة البابا تواضروس هي الاستجابة الأولى لمقولة السيسي في خطابه في ذكري 23 يوليو عن وجود حرب شائعات "حرب معنوية" ضد الدولة، نتج عنها إطلاق 21 ألف شائعة في ثلاثة أشهر.

استعادة البابا تواضروس لتصريح الرئيس جاء في معرض طمأنته للأقباط ومناشدتهم بعدم الانصياع للشائعات وترويجها، عقب مقل الأنبا إبيفانيوس رئيس دير أبو مقار بوادي النطرون. لكن الاستعادة نفسها تأتي في إطار حملة كبيرة على الفضائيات وفي الصحف للتحذير من الشائعات والرد عليها وتفنيدها، استجابة لدعوة رئيس الجمهورية. 

في إطار حملة من أجهزة الدولة والإعلام لمكافحة الشائعات استجابة للتحذيرات الرئاسية، بدأت القنوات الفضائية في إذاعة تنويهات تلقي باللوم علي وسائل التواصل الاجتماعي ومستخدميها، باعتبارها العدو الذي ينشر الشائعات. ولكن؛ ألم تكن هناك شائعات قبل ظهور شبكة الانترنت؟ بل وحتي قبل ظهور التليفزيون والصحف؟

في كتابه "شائعات غيرت العالم. تاريخ من العنف والتمييز"، يرصد يوجين شيروفيتش عدد من الشائعات التي نجمت عن أحداث تاريخية كبرى وصار لها قوة كالحقيقة، وشائعات أخرى تسببت في اندلاع حروب وكوارث أهلية. ويعود تاريخ بعض تلك الشائعات إلى القرن الأول الميلادي، كشائعة أن نيرون وقف يشاهد احتراق روما بينما يلعب القيثارة، وصولا لحريق الرايخستاج (البرلمان الألماني) في فبراير/ شباط 1933 والتي ألصقت الشائعات مسؤوليته بالشيوعيين أعداء هتلر، ما مهد لصعود النازية. 

إِشاعات.. إشاعات

في دراسته المنشورة بعنوان "الإشاعة: تعريفها وأنواعها وعوامل انتشارها" يحلل دكتور صبري خليل أستاذ الفلسفة بجامعة الخرطوم عوامل انتشار الشائعات في مجتمعات بعينها، ويرى أن عوامل انتشار الشائعة تشمل؛ الشك العام وهو عدم وضوح الخبر بشكل كاف، وتقاعس وسائل الإعلام عمدًا أو سهوًا عن عرض الحقيق كاملة، بالإضافة لدور الفرد في نشر الشائعة.

يساعد على انتشار الشائعات كذلك "شيوع أجواء التوتر والقلق وعدم اليقين والخوف من المستقبل" في المجتمعات ما يدفع الفرد للبحث عن جديد يطمئنه أو يشرح له الأوضاع المحيطة به حتي لو كان خبرا غير مؤكد. 

هذه العوامل الواردة في الدراسة وفي دراسات أخرى، تحدد ظروف انتشار الشائعات في شعور الناس بالقلق، وبغياب الشفافية والمصداقية، وانتشار الشك وغياب اليقين بشأن الواقع وبشأن المستقبل كذلك، وعندما يكون الناس بحاجة للمعلومات لكنهم يواجهون تعتيمًا وغيابًا للمعلومات المتصلة بحياتهم اليومية. كما يلجأ الناس للشائعات ويدعمون نشرها عندما تكون هناك ظروف ومعلومات أخرى تؤهلهم لتصديق تلك الشائعات. وبمراجعة هذه العوامل نجد كثير منها تنطبق على المجتمع المصري. 

فلنخلق الشائعات ثم نحاربها

مع وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي للسلطة رسميًا في يونيو/ حزيران 2014، تكررت في أحاديثه العديدة اتهامات للإعلام، وتمنيات خاصة منه بأن يتخذ الإعلام شكلا وأسلوبا محددًا، يرى الرئيس أنه يساعد على حفظ هيبة الدولة وتماسكها. 

خلال السنوات الأربع الأولى من حكمه أخذت المعارضة تنخفض تدريجيًا في وسائل الإعلام حتى تلاشت، إلا أن غياب المعارضة السياسية ونقد آداء الحكومة أو السلطة التنفيذية -التي يرأسها السيسي نفسه- في الإعلام، لم يكن كافيًا بالنسبة له ليرضى عن أداء وسائل الإعلام، وهو ما ظهر خلال الحوار الذي أجرته معه المخرجة ساندرا نشأت وأذيع عشية فوزه بفترته الرئاسية الثانية، إذ أبدى الرئيس ضيقه من قيام الإعلام بإظهار نماذج إنسانية حقيقية لمواطنين يمرون بظروف صعبة، ورآها مجرد محاولات لملئ الهواء.

بعد شهرين اثنين من فوزه، نشهد الآن تغيرًا كبيرًا في خريطة البرامج في القنوات التي باتت مملوكة للدولة عبر شركات قابضة، إذ يتراجع على شاشة التلفزيونات عدد برامج التوك شو السياسية، وتغلق القنوات التي انبنت سمعتها وقاعدتها الجماهيرية على هذه البرامج لصالح مزيد من التوسع في برامج الترفيه. 

النتيجة المنطقية لتلك الرحلة القصيرة، هي غياب المنفذ الأخير تقريبًا لمناقشة شؤون الحياة اليومية والآداء الحكومي في مصر، ما يعني غيابًا كاملا تقريبًا للمعلومات الكاملة، وانتهاء إمكانية طرح نقاش اجتماعي مدعم بالمعلومات حول الشؤون الاقتصادية والسياسية والمجتمعية، ليناقش الناس شؤونهم فيما بينهم دون معلومات حقيقية، وهو وسط ثري لنشر الشائعات. 

يرصد موقع مصراوي -وهو لا يحسب أبدًا ضمن المواقع المعارضة- علاقة السلطات المصرية بالإعلام خلال السنوات الأربع الأولى لرئاسة عبد الفتاح السيسي، في تقرير أظهر علاقة الرئيس بالإعلام عبر مفتاحين "التوجيه والعتاب". أما مؤسسة كارنيجي فنبهت في تقرير لها أن علاقة الرئيس بالإعلام تظهر إيمانه بأن المعلومات يجب أن تكون في اتجاه واحد، وأنه "يزدري" وسائل الإعلام، ويستخدم أجهزة الدولة في إسكات الأصوات الإعلامية التي لا ترحب بما يفرض عليها ترويجه من آراء ومعلومات. 

الثقافة العامة والتعليم الذي يتلقاه الشعب المصري منذ الصغر، والذي يعتمد علي فكرة التصديق وعدم التشكيك في ما يتلقاه من المدرس والإعلام ورجل الدين والأهل؛ يلعب دورا في تركيب الشخصية المصرية؛ فالتشكيك يصبح في الغالب شيئًا مكروهًا وغير معتاد، وعليك أن تتلقى المعلومات التي تُمنح لك تلقيًا سلبيًا، دون أن تراجعها أو تنقدها أو تفكر فيها، ثم تكررها لتصبح عضوًا إيجابيًا في المجتمع.

أما من يسأل أو يشكك فيعتبره المجتمع في كثير من الأحوال "متفذلك"، متفلسف، هدام، متآمر، يسعى للتشكيك في مؤسسات الدولة أو كافر في بعض الأحوال.

هذه التنشئة التي يتعرض لها معظم الأفراد عبر مؤسسات التربية المجتمعية والنظامية والدينية، تجعل الفرد غير قادر على "التفكير النقدي" الذي يجعله يسائل المعلومات، وبالتالي؛ يستجيب أكثر لتصديق الشائعات وترديدها حتى لو كانت غير منطقية.

 

لافتة دعائية من الحملة الانتخابية للرئيس عبد الفتاح السيسي- صحيفة وول ستريت جورنال

الخوف أبو الشائعات

مع تحليل بعض الشائعات الأكثر تكرارًا وانتشارًا خلال الفترة الماضية، يمكن التعرف على العوامل التي تحددها البحوث الإعلامية والنفسية والاجتماعية التي تتناول أسباب انتشار الشائعات في بعض المجتمعات.

في حادث انتابه الغموض في الأيام الأولى، عثرت أجهزة الأمن في يوليو/ تموز الماضي على جثامين ثلاثة أطفال في شارع خال بالهرم. بمجرد صدور البيان الأمني الأول سرت الشائعات على وسائل التواصل الاجتماعي بأن جثث الأطفال وجدت وقد تعرضوا لجراحات لانتزاع أعضائهم. بعد ساعات طويلة من سريان تلك الشائعات، أصدرت الأجهزة الأمنية بيانًا ثانيًا تنفي فيه ما يتردد، لكن الشائعة القوية كانت قد وجدت من يصدقها ويتبناها.

هذه النوعية من الشائعات تلعب على غريزتين من أقوي الغرائز؛ هما غريزة الخوف وغريزة حب الأبناء - خاصة لدي الأمهات- فمن الطبيعي أن يخاف الأهل علي الأطفال، وبخاصة من فكرة فقدهم عن طريق الاختطاف والذي قد يتطور إلى القتل. وهو ما يؤدي الي غياب التفكير العقلاني، حتى بقبول نفي الأطباء والعلماء لإمكانية نقل الأعضاء دون تجهيزات معينة، لا تتوافق مع فكرة الخطف. ولكن الخوف المسيطر علي الأهل يكون أقوي من التفكير. بالعودة إلى عوامل انتشار الشائعات، نجد أن تصديق هذه الشائعات تعكس ارتباكًا في الشعور بالأمان؛ ما يجعل الناس مستعدين لقبول فكرة أن أمن أطفالهم مهدد بشكل دائم ويومي، كما أن الشائعات نابعة من انطباع منتشر بأن الشرطة تخلت عن تأمين الناس

 كذلك يمكن للمخاوف المتعلقة بصحة الإنسان وعائلته أن تقوده لتصديق شائعات عن الجمبري والسمك الصيني أو البيض البلاستيكي، وذلك لاعتبار الأكل نشاط يومي يقوم به كل الناس. لكن انتشار مثل هذه الشائعات مؤشر واضح على عدم ثقة الناس في أجهزة الدولة الرقابية والطبية، والاعتقاد بأن الفساد المنتشر يمكن أن يجعل أي طعام موجود في السوق المصري ضار بالإنسان. يدعم ذلك تعدد وقائع مصادرة أطعمة فاسدة في المحال والمطاعم حتى الكبرى منها.

 

مستودع أغذية منتهية الصلاحية في إحدى الضبطيات الأمنية

فيسبوك متهمًا

بينما تتهم وسائل الإعلام التقليدية غريمتها وسائل التواصل الاجتماعي، بكونها "منبعًا" للشائعات؛ تتجاهل هذه الوسائل من قنوات فضائية وصحف أن لديها صفحات ومنشوارت علي وسائل التواصل نفسها، ما يعني أنها جزء منها. بل إن هذه الوسائل التقليدية نفسها كانت منبعًا لشائعات أودت بحياة العشرات، كما في واقعة "مذبحة ماسبيرو" التي مهدت لها شائعة أطلقتها رشا مجدي عبر شاشة التلفزيون المصري عندما ادعت أن "المسيحيين يعتدون على قوات الجيش". أو كادت تتسبب في فقد البعض لمدخراتهم كما حدث من المذيع المقرب من الأجهزة الأمنية أحمد موسى عندما أطلق شائعة عن انخفاض الدولار

شبكات التواصل الاجتماعي إذن هي مجرد وسائل إعلامية كغيرها، يمكن عن طريقها نشر الحقائق أو الشائعات. لكن ما يميزها هو اشتراك الناس في صناعة وترويج محتواها؛ إما بمشاركة الأخبار أو بصنعها. وهو ما يجعل من الصعب أن يتم تحديد الفاعل فيها والمساعد له.

وهناك نوعان من الشائعات المنتشرة علي فيسبوك وتويتر، الأول هو النوع التلقائي الذي يقوم به أفراد يعتقدون أنهم ينشرون أخبارًا حقيقية، لكنهم لا يقومون بجهد التأكد من صحة تلك الأخبار ومصادرها. 

أما النوع الثاني فهو الشائعات المقصودة، التي تنشرها صفحات وأشخاص أصحاب توجه سياسي معين، فنري أن هناك صفحات مؤيدة للنظام تقوم بفبركة ونشر أخبار مؤيدة للنظام أو تهاجم المعارضين، وتبدأ في نشرها حتي تعطي انطباعا بصحتها ثم يقوم الأفراد الآخرين بمشاركتها اعتقادا منهم بصحتها. وهو نفس ما تفعله صفحات وأفراد معارضين للنظام من نشر شائعات مضادة.

 إذن فالفكرة ليست في شيطنة وسائل التواصل الاجتماعي، بل تنمية القدرة على التفكير النقدي لدى عموم الناس ليتمكنوا بأنفسهم من التأكد من صحة ما يجري تداوله من أخبار، ووجود مناخ إعلامي صحي، يجد الناس فيه ما يطمحون إليه من معلومات صحيحة وشاملة، ما يعني ضرورة وجود مناخ من حرية تداول المعلومات وحرية التعبير والنشر، نحن أبعد ما يكون عنه الآن.

حملة "رئاسية"

تأتي الحملة الأخيرة علي وسائل التواصل الاجتماعي من رأس النظام و من الإعلام التقليدي (تلفزيون وراديو وصحف مطبوعة والمواقع الإلكترونية التابعة لها) كمقولة حق يراد بها باطل؛ فالشائعات ليست قاصرة على مواقع التواصل الاجتماعي، فهناك برامج فضائية وصحف ومسؤولين هم مصدر للشائعات والأخبار والوعود الكاذبة.

وفي ظل سيطرة الدولة علي الاعلام المرئي والمسموع، أصبح الإنترنت ووسائل التواصل منفذًا يكاد يكون وحيدًا لسماع أي صوت مخالف، ما أدي الي وجود عداء بين النظام ووسائل التواصل، ليس بسبب الشائعات؛ ولكن السبب الحقيقي هو وجود أصوات معارضة ومخالفة، ما يدفع السلطات إلى مهاجمة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي بشكل شامل، ووصمها بأنها أدوات للشائعات؛ رغبة منه في نزع الثقة عنها وإعادة الناس لتلقي المعرفة من المصادر التي تسيطر عليها الدولة حصرًا. لكن هذا لن يمنع الشائعات؛ بل سيجعل التربة المجتمعية أكثر خصوبة ومناسبة لانتشارها.

تظل المجتمعات المغلقة التي لا تتمتع بالحرية والشفافية هي الأكثر عرضة لانتشار الشائعات، طالما ظلت السلطة - بكل أنواعها- تعتبر نفسها صاحبة الحق في تحديد ما يجب أن يعرفه الناس وما يجب أن لا يعرفوه. لذلك يصبح هناك فراغ ونقص في المعلومات تملأه الشائعات والأخبار الكاذبة. وتصبح الشائعات نتيجة منطقية لطبيعة السلطة والمجتمع؛ وليست وسيلة للحرب عليه كما يعتقد البعض.