العنف والسخرية في سيرة ألبير قصيري

منشور الثلاثاء 14 أغسطس 2018

في رواية "شحاذون ونبلاء"، يحكي الشحاذ لجوهر أفندي (حكاية الانتخابات)؛ ففي إحدى قرى الدلتا فوجئ الموظفون أثناء فرز أصوات انتخابات العمودية أن الأهالي أعطوا صوتهم ل"برغوت". كان الاسم غير مقيد لدى اللجنة. وبعد بحث؛ اكتشفت الحكومة أن الاسم لحمار يقدره الأهالي لحكمته. لم تتم الانتخابات، "لأن الحمار الذي تريده الحكومة يجب أن يكون بقدمين لا أربع".

تعبر هذه الحكاية/النكتة عن روح الرواية التي كتبها ألبير قصيري وطُبعت للمرة الأولى بالفرنسية عام 1955، بعد عشر سنوات من هجرة كاتبها إلى باريس. ثم صدرت في طبعة جديدة مختلفة في القاهرة قبل أسابيع، كرواية مصورة من رسوم الفنان الفرنسي "جولو"، في إطار احتفالية 10 سنوات على رحيل قصيري.

ترجمت الرواية للعربية للمرة الأولى عام 1988، وترجمها الناقد والمترجم محمود قاسم بعنوان "شحاذون ومعتزون". وقُدمت في فيلم سينمائي حمل اسم "شحاتين ونبلاء" للمخرجة أسماء البكري. 

 

ملصق دعائي للفيلم المأخوذ عن رواية قصيري

في تلك الأعمال التي أنتجت نصًا فنيًا جديدًا، بناءً على النص الروائي الذي أبدعه قصيري، كانت روح الكتابة التي ميزت الروائي الراحل بارزة ومسيطرة. وهي الروح التي لخصها الكاتب الراحل محمد عودة في مقال قديم، نُشر عام 1971 بعنوان "تائه في باريس"، ضمن كتاب سبعة باشاوات وصور أخرى. ويتضمن المقال حكايات شخصية لعودة مع قصيري في القاهرة، قبل هجرة الأخير ثم لقاءاتهما في باريس بعدها. 

لقاء أول

في لقائه الأول بألبير قصيري، يحكي الكاتب الصحفي الراحل محمد عودة أنه ذهب لرسام صديق يرأس تحرير مجلة متواضعة، ليعرض عليه قصة من تأليفه. حينها أشار الرسام إلى قصيري الجالس بجواره وقال إنه قاص يكتب بالفرنسية، واقترح أن هذه فرصة ليقرأ عودة القصة أمام قصيري. يفاجأ عودة فور انتهائه بثورة قصيري "هذا هراء. هذا هو الأدب الهزيل المريض. الذي لا يمكن أن تنتجوا غيره. أنتم كسالى جبناء سطحيون، ومعظمكم يعيش هاربًا أو غريبًا في هذا المجتمع. هذا المجتمع الملعون كان يجب أن ينجب جوجول وتشيخوف وديستوفيسكي وجوركي معا مرة واحدة، ولكن كيف يمكن أن ينجبهم وأنتم تعيشون على سموم يبيعها لكم كتابكم الكبار؟ كيف يمكن أن ينجب إذا كان كل كتابه مثل كل زعمائه خانوه".

وقبل أن يطوي محمد عودة قصته ويرحل، يكمل ألبير قصيري "هذه ليست كتابة. إنني أجن غيظا من كل شيء أقرأه وأسمعه، خصوصًا لهؤلاء المبتدئين. إن الكاتب في هذا المجتمع الملعون يجب أن يحمل فأسا. يجب أن يجد الشجاعة ليتحدى كل شيء وليصدم كل أحد. لمن تكتب إذا لم تجعل البغال التي تركبنا تخجل من نفسها أو ترتعب من مصيرها، و لمن تكتب اذا لم تجعل الأشلاء التي تزحف في قرانا وحوارينا وفي إنسانيتنا تقف. أو حتى تحاول أن تقف".

وتنتهي الليلة بدعوة عشاء من قصيري. تبدأ فيها صداقتهما. ويبث قصيري لعودة حزنه لأنه لا يستطيع أن يكتب بالعربية، يقول "لو كنت أكتب مثلكم بالعربية. كنت أجعل كل مصري هنا يخجل من نفسه. كنت أجعل كل مصري يستبشع حياته. كنت أجعل الأرق والقلق والأشباح المخيفة تعذب كل مصري حتى لا ينام، وحتى يسأل نفسه كل يوم كيف أقف متفرجًا من هذه المأساة".

دم وصديد

                               

من الرواية المصورة

يقرأ عودة قصص قصيري في محاولة لترجمتها، فيفزع. قصصه تنزف دمًا وصديدًا. شخصيات مهزومة مستذلة مسحوقة. يصارحه بأنه لا فائدة من ترجمة القصص لأنها لن تنشر في بلد يحكمها الملك والباشوات والخواجات. يثور قصيري " لهذا لن يزدهر أدب حقيقي في مصر. لن يقوم كتاب حقيقيون في مصر ولن نرسم صورة كاملة لمصر. لن نكتشف أنفسنا ولن نكتشف حياتنا".

يعارضه عودة بأن مصر ليست هذه النماذج المنهارة المحطمة التي نسيها الله، وأن هناك مصر أخرى إيجابية لا تموت ولا تنهزم "ولا تعترف بالنهاية ولا بالهزيمة". فاتهمه قصيري بأنه "مجرد خطيب واعظ ديماجوجي"  يرفض المواجهة، متسائلا "أين مصر الايجابية هذه؟" محاججًا بأنه لا يمكن النفاذ إلى مصر الإيجابية تلك التي يبشر بها محمد عودة دون رؤية "ما في قاع البئر"، وفهم "هذه الطاحونة العمياء التي تسحق الانسان كل يوم".

وهنا يفسر قصيري لعودة لماذا يكتب "هؤلاء هم الذين أريد أن أضعهم في كل واجهة وعند كل منعطف. وأعلقهم في كل حائط وعلى كل جدار. وأقول للذين قذفوا بهم إلى الهاوية والذين أسدلوا ظلاما كثيفا عليهم، والذين أداروا أعينهم لكي لا تلتقي بهم: إنكم لا تستطيعون أن تهربوا من آثامكم ولا تستطيعون أن تخفوا جرائمكم".

العنف والسخرية 

 

يقول محمد عودة، أن تلك النقاشات العنيفة تكررت، ليس معه فقط؛ بل مع الجميع. حتى صار احتمال قصيري صعبا على من يعرفونه من الكتاب والنقاد والصحفيين المصريين. وصارت حياته "خناقة طويلة" تتخللها أحيانا اللكمات والبصقات.

كان قصيري يؤمن بنفسه وعبقريته جدًا، وعندما قرر الهجرة، وفي حفل الوداع، يحكي عودة أن قصيري غرق في الشرب بينما يلقي خطبته التي قال فيها "إن مصيبة الكاتب العبقري مثلي أنه لا ينتمي لمجتمعه الراكد بل يسبقه، ولهذا أرحل إلى مجتمع متمدن. المجتمع المتمدن هو الذي ترى فيه امرأة جميلة مغرية فتذهب إليها قائلا، لماذا لا تقضين الليلة معي. إنني أحق رجل بك لأنني فنان موهوب استطيع أن أفهمك وأن أتذوقك. والمجتمع المتمدن هو الذي ترى فيه رأسماليا مكرشًا بغيضًا فتذهب إليه و تقول إنك خنزير وضيع تملأ الحياة حقدًا وكرها وجشعا.. وتصفعه على قفاه.. إني راحل أيها الأصدقاء، وستسمعون الكثير عن صفعاتي وعشيقاتي".

لقاء ثان

 

بعد خمسة عشر عاما، يسافر عودة إلى باريس ويلتقي قصيري. يدهشه هدوء صديقه العصبي القديم ووداعته وأدبه الجم. "لم يعد البوهيمي الثائر الصاخب على كل شيء والساخر من كل شيء وغير المكترث لأي شيء كما عرفته في القاهرة".

يجلسان على قهوة الديماجو، يطلب قصيري كأسا من الفرموت ويسأله عودة، ماذا تفعل؟ يجيب قصيري "أعيش في الفراغ المطلق. وليس في رأسي ولا في قلبي شيء. ولا أفكر إلا في شيء واحد، أريد أن أرجع إلى مصر. أريد أن أعود للقاهرة مرة أخرى. إنني أنتمي إلى هناك ولا أنتمي إلى هنا. أريد أن أرجع وأتعلم العربية وأكتب بها .. أليس غريبا أن أحس، أنا الذي عشت في باريس كما أحس الآن بالصقيع؟ أحيانا أقضي ليالي عصبية وأرى أحلاما مزعجة وأظل مؤرقا طول الليل مصمما على أنني سأجري في الصباح وألحق بأول طائرة ذاهبة إلى القاهرة، وأنني حينما أصل سأذهب إلى النيل وأشرب ماءه العكر وأشتري قدره فول وكومة من الطعمية وأظل آكل بشراهة حتى أشبع من الجوع". يودعه عودة مفكرا أن البير قصيري صار كأبطاله؛ لا خلاص لهم.


المصادر محمد عودة. سبعة باشوات وصور أخرى. الكتاب الذهبي، أبريل/ نيسان 1971. مقال داخل الكتاب بعنوان تائه في باريس ملحوظة: لم يذكر محمد عودة اسم ألبير قصيري صراحة بل (أ.ن) لكن الإشارات الكثيرة إلى عناوين كتب ألبير قصيري تؤكد أنه المقصود.