الشيخ محمد متولي الشعراوي

الشيخ الشعراوي.. من قبره يحكم الجماهير

منشور الأحد 17 يونيو 2018

لا يزال الشباب في الشوارع، اعتصامات واحتجاجات بعد 18 يومًا من ثورة لم تخمد بتنحي مُبارك. ينتشر فيديو للشيخ محمد متولي الشعراوي في الفضائيات وعبر فيسبوك وتويتر، وتحتفي به صحف، فالشيخ، يتحدث عن "الثائر الحق" الذي يجب عليه أن يهدأ كي "يبني الأمجاد".

هدأ الثوّار، ولم يمض إلاّ عامان حتى شهدت الشوارع مظاهرات جديدة. فيديو آخر للشيخ، لا يتحدث هذه المرّة عن أي ثائر، بل عن مصر "التي ستظل وتبقى دائمًا مصر"، وكما الفيديو السابق انتشر كلمات الشيخ في مختلف الفضائيات، وكنغمة رنين لدى شركات المحمول.

في هذين الحدثين السياسيين اللذين وقعا بعد سنوات كثيرة من رحيل الشيخ، استدعت السُلطة صوته إلى الإعلام، إيمانًا بقوة التأثير التي أخضعت، في أبريل/ نيسان 2018، أستاذ جامعي لإجراءات تأديبية، لأنه "تطاول" على الشعراوي، ولم يشفع له اعتذاره لاحقًا، بل لاقى ما لاقته قبله الكاتبة فريدة الشوباشي، وما سيُلاقيه بعده مَن يذكر "إمام الدعاة" بغير التبجيل، الأقرب للتقديس.

للشعراوي شعبية جارفة غامضة، لم تعرف تبديلاً كبيرًا منذ عقود، ولم تتأثر عندما ظهرت للشيخ آراء مثيرة للجدل لو قالها غيره؛ لعرّضته لانتقادات وخصمت من شعبيته ولو قليلاً. لكن الشيخ في نظر قطاع واسع من المصريين أصحاب الإيمان السني "الوسطي"؛ خط أحمر منذ ما يُناهز 40 عامًا، وحتى اليوم الذي يؤرخ لمرور 20 عامًا على رحيله. فما السرّ؟ هذا ما سنحاول معرفته.

شرعية الكتاب

على مدار 4 عقود منذ أطل الشعراوي على جمهوره من برنامج "نور على نور"، ارتبط اسمه بالقرآن، عالمًا يُبسّط، حصريًا، كتاب الله للعوام؛ ما منحه بينهم شرعية دينية كانت نُقطة الارتكاز اﻷهم في بناء ما سيأتي من عوامل نجاح وشعبية.

تقول دراسة صادرة عن مركز بيو للأبحاث، في يونيو/ حزيران 2018، إن 72% من الشعب المصري يرون الدين "مُهمًا جدًا" في حياتهم.

هذا هو الشعب نفسه الذي نجد منه من يضع أدعية الشيخ كنغمة رنين لهاتفه الموبايل، الشعب الذي رأى الشعراوي يقف في المضمار وحيدًا بلا منافس أو شريك، وذلك على العكس من رجال دين آخرين كالمقرئين والمنشدين أو حتى رجال الفتوى، الذين يقفون في ساحات تعجّ بمنافسين يختار بينهم المرء حسب أيديولوجيته وهواه.

أما الشعراوي، فليس أمامه إلاّ تفسيري الطبري وابن كثير، وقد كان أوفر حظًا منهما بالوصول للملايين عبر التليفزيون وشرائط الكاسيت والكتب. بل إن في ذكر اسمه بجانب المفسرين الكبيرين شيء آخر في صالحه، إذ يجعله في نظر أبناء عصره -تقريبًا- على قدم المساواة معهما.

"واحد من الناس"

من خلال "نور على نور" وما تلاه من برامج، خلق الشعراوي أُلفة بينه وبين مُشاهديه، ورسم لنفسه صورة داعية جديد لا يُشبه الأزهريين أو أبناء الجماعات السلفية.

ارتدى الشيخ جلباب وعباءة يُشبهان ما قد يرتديه أفراد جمهوره، وخاطبهم بمفردات ولهجة بين فُصحى العُلماء وعامية البسطاء مع قليل من لكنة فلاحي الدلتا؛ فصار كواحد منهم، رجل مثلهم لكنه أعلم منهم، يخاطبهم بتواضع وعلى قدر عقولهم.

وفقًا لموقع Mass communication talk المعني بأبحاث ونظريات الإعلام، فإن التشابه بين مصدر الرسالة الإعلامية وبين الجمهور، يعزز من جاذبيته وبالتالي تأثيره.

تميز الشيخ عن غيره أيضًا بأدائه الحركي خلال الحديث، ونبراته المتنوعة بين الهدوء والحماس حسب ما يقصّه على مستمعيه، فتراه يميل ويعتدل ويضحك ويعبس. طريقة حوار لا تليق إلاّ بحكايات ودودة بين أصدقاء، لا خطابًا دينيًا من إمام لجمهوره. هو شيخ لم يكن في حديثه بهدوء الغزالي ولا ضجّة كشك أو أي من أبناء الجلابيب البيضاء القصيرة واللحى الطويلة.

حصاد سنين

كان الشيخ دائم الظهور على شاشات التليفزيون منذ السبعينيات؛ النتيجة الطبيعية لهذا العامل بجانب العوامل السابقة هو أن يعتاد الجمهور حلقاته التي ارتبطت بتوقيتات مُقدّسة لدى المصريين، إلى حد صارت موسيقى تتر برنامجه علامة مميزة.

حظي الشيخ ببرنامج أسبوعي تُذاع حلقاته بعد صلاة الجمعة؛ يوم اجتماع العائلة الأسبوعي، وتذاع في رمضان قبل انطلاق مدفع الإفطار بقليل، ويستمر هذا حتى هذه اللحظة وعبر أكثر من شاشة، دون أن يحدّ من انتشاره ما يوجد في مكتبات الفضائيات المصرية والعربية من برامج لغيره من قدامي أو شباب الدعاة.

هكذا جعل الزمن من الشيخ أحد ثوابت البيت المصري منذ الثمانينيات التي تربى فيها أحد الأجيال الشابة الموجودة اليوم، وبنجاح يُرد جزء من الفضل فيه إلى العامل التالي؛ الإعلام.

قوة الشاشات

ساهم في بناء شعبية الشعراوي ظهوره في زمن كان فيه ينفرد فيه "ماسبيرو" بساحة العقول، فلا صوت أو رأي يناطح صوت الدولة؛ فترسّخت صورته الذهنية لدى الجمهور باعتباره "مُمثل الإسلام الوسطي"، وذلك بطريقة تراكمية وقبل أن تنفتح السماوات أمام اﻹعلام الجديد وشبابه وانتقاداته.

 

كان الشعراوي اختيار الإعلام، ونظام مبارك بوجه عام، لمواجهة شيوخ الجماعات الإسلامية التي ظلّت لأعوام فزّاعة يلوح بها النظام الحاكم في وجه الشعب.

وقد تُقدّم هذه الصورة للشيخ "الوسطي"، تفسيرًا لخروجه من معاركه منتصرًا، بينما خصومه يلقون منه ومن جمهوره هجومًا عنيفًا، كما كان في معركته مع الأديبين توفيق الحكيم ويوسف إدريس والمُفكّر زكي نجيب محمود، حسبما وثّق الدكتور فؤاد زكريا في كتابه "الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المُعاصرة".

تلك كانت معركة شيخ ضد أدباء وكُتّاب، واجه أحدهم (الحكيم) اتهامًا بأنه "يتجرأ ويحاور الله" بعد سلسلة مقالات نشرها في الأهرام. لمعرفة من سيحظى منهم بدعم شعبي حتى هذه الحظة، يجب أن نتذكّر أن دراسة حكومية صادرة عام 2010، كشفت أن 88% من المصريين لا يقرأون إلاّ الكُتب المدرسية.

خط النظام

بقليل من الترتيب المنطقي. شعبية الشعراوي سببها استمراريته على الشاشة، واستمراريته على الشاشة ضمَنَها له أنه لم يكن شيخًا مُثيرًا للمشكلات، بل حافظ على علاقته بالسُلطة صافية بلا كدر يُذكر.

الأدلة على هذا الصفاء ليس فقط قصائد شعره في عاهل السعودية أو ملك مصر فاروق أو الزعيم الوفدي مُصطفى النحاس، ولا فقط قوله عن الرئيس السادات أمام مجلس الشعب "والذي نفسي بيده لو كان لي من الأمر شيء؛ لحكمتُ لهذا الرجل الذي رفعنا تلك الرفعة وانتشلنا مما كنا فيه إلى قمة؛ ألا يُسألَ عمَّا يَفعل". فالأكثر دلالة هو مواقف الشيخ الذي عاد من السعودية في أوائل السبعينيات، وقت صعود التيار الإسلامي، في محاولة لخلق عهد يختلف به الرئيس الجديد عن عهد سلفه ناصر.

ففي عهد السادات، حيث الانفتاح وصعود الإسلاميين، انضم الشعراوي إلى الحكومة وزيرُا للأوقاف، وفي وقت احتجاجات 1977 المعروفة بـ"انتفاضة الخُبز"، انحاز الشيخ للفريق المتبني لرؤية السادات الذي أسمَاها "انتفاضة الحرامية"، ووقتها أكد الشعراوي ضرورة طاعة الحاكم وأن "الفتنة نائمة لعن الله مَن أيقظها"، حسبما يذكر الناشط السياسي كمال خليل في كتابه "حكايات من زمن فات".

على الرغم من ذلك التاريخ المُشبّع بالسياسة، كان الشيخ "ليس له علاقة بالسياسة ولا يتحدث فيها"، هكذا أكد للصحفية سناء السعيد، حين سألته عن رأيه عن المعارضة في مصر وهل هي أهلٌ للحُكم، وذلك في سلسلة حوارات أبدى فيها الرجل رأيه في شخصيات وأمور سياسية بامتياز، مثل الديمقراطية، التي أكد الشيخ أنها "مصطلح مستورد"، لكنه "مالوش في السياسة" مثله في ذلك مثل بُسطاء الشعب.

تيار الأغلبية

أحكم الشيخ قبضته على منتصف العصا، وكما لم يكن صداميًا على المستوى السياسي، فإنه مُجتمعيًا لم يكن صاحب معارك تقدمية أو تجديدية، وهو وإن لم يحمل مظهر العائدين من السعودية، إلاّ أنه حمل أفكارهم كما يبدو من آرائه حول المسيحيين، وعمل المرأة أو مساواتها بالرجل.

في عام 2017، كان رأي 69% من الرجال المصريين و25% من المصريات أنه لا يحق للزوجة أن تخرج للعمل مثل زوجها، بينما أكد 78% منهم و77% منهن أن دورها الرئيسي هو أن تكون ربّة منزل، حسبما كشفت الدراسة الاستقصائية الدولية بشأن الرجال والمساواة بين الجنسين (IMAGES)، التي أجرتها هيئة الأمم المتحدة للمرأة ومؤسسة بروموندو اﻷمريكية.

إذن، كان طبيعيًا أن يحظى الشعراوي بقبول ومحبّة مَن يتحدث لغتهم، حرفيًا ومجازًا، مَن يشاركهم آرائهم وأفكارهم حتى تلك الأكثر غرابة، فهو مَن يؤكد أن "سيطرة الجن على الإنسان حقيقية، ﻷن السحر حقيقة وتسخير الجن أمر واقع"، حسبما ورد في كتاب "الشعراوي وفتاوى العصر" لمحمود فوزي.

لم يتهمهم الشيخ بـ"الجهل" ولم يحاول هدم معتقداتهم. ووفقًا لما يرد في كتاب "العلاقات العامة وفن إدارة الأزمات" للباحثة غادة البطريق، فإن الجمهور يميل لتدعيم الاتجاهات التي يتبناها ويقاوم الاتجاهات المُضادة، فيما يعرف باسم حواجز الاتجاه، والتي تعني أن لكل فرد حواجز نفسية تمنعه من تقبل الآراء المعارضة للاتجاهات التي يتبناها، حتى ولو كانت آراءً مدعومة بحجج منطقية.

كان الشيخ أيضًا دائم العزف على وتر يُحب الجمهور أنغامه، وهو الندّية، إن لم يكن التفوق واﻷفضلية على الغرب، فهو مَن يطعن في الاستنساخ وزراعة الأعضاء، ويستهين بعلوم الفضاء مؤكدًا أن "الإنسان الذي اخترع ورق الكلينكس أو عود الكبريت أفاد البشرية بأكثر مما أفادها ذلك الذي اخترع صاروخًا يصل للقمر" حسبما نقل عنه فؤاد زكريا في كتابه سالف الذكر.

وإذا اتفقنا على أن كلمات الشعراوي تلك تحمل تحقيرًا للعلم والتكنولوجيا؛ فلنتذكر بالتبعية أنه ما يزال الشيخ المُفَضّل ﻷبناء بلد بلغت نسبة الأُمية فيه، عام 2017، نسبة 25%.

على مدار 40 عامًا، رأى الجمهور في الشعراوي "إمامًا للدعاة"، تُكرّمه دولاً عربية وتمدحه فنانات ساهم في "هدايتهن"، وتستدعيه السُلطة كلما احتاج الأمر. لهذا ومع بعض الاقتناع بنظرية دوامة الصمت أو spiral of silence، فقد نفهم كيف نجت صورته من عواصف الانتقادات المواجهة له من مثقفين ومفكرين بسبب عدد من مواقفه وخياراته، كدوره في دعم شركات توظيف اﻷموال، أو حتى إقراره بسجوده لله شكرًا على هزيمة 67. وليس أدل على نجاح الشيخ في بناء وحفظ صورته من جيوش الغاضبين التي لا تزال تتحرك ضد كل مَن "يتجرأ" على انتقاد الإمام، حتى بعد عشرين عامصا من وفاته.