أيام المونديال | عايزين نتفرج: رحلتي من الراديو إلى القمر الإسرائيلي آموس

منشور الاثنين 11 يونيو 2018

كانت القنوات المشفرة وما زالت هي الشجرة التي ينعم الفيفا بقطف ثمارها، أيقن الفيفا هذا مثلما أيقن أن الفارق الضخم بين عروض القنوات المشفرة وعروض القنوات المفتوحة، يجعل حرمان البسطاء من متابعة كأس العالم في منازلهم أمرًا مقبولًا.

لا صوت يعلو فوق صوت المونديال، هي أيام التأهب وساعات شحن الدماغ بالذكريات والآمال ولحظات الانتظار الطويلة، ولكن ابتداءً وقبل أي شيء يجب أن نشاهد المونديال، لتصدُق عبارة ألا صوت فوق صوته.

مرت قضية متابعة كأس العالم حتى وصلت لشكلها الحالي بمحطات عديدة، كان كل مشاهد في العالم شريكًا في أكثر من محطة منها، بدأت هنا في مصر بمتابعة كأس العالم عبر موجات الراديو، ولست كبيرًا لأدعي مروري بهذه المرحلة لكن أعلم تمامًا مدى تأثيرها الذي توارثته الأجيال حتى ترى في الجيل الحالي بعضًا من الشباب ما زالوا يستبدلون تعبير "نسمع الماتش" بتعبير "نتفرج على الماتش".

أخذت مرحلة الراديو كامل تأثيراتها على المجتمع وبدأت بعدها مرحلة العرض التليفزيوني الذي بدوره مر بعدة محطات، بداية من كأس العالم 1954 الذي حصلت دول معدودة على حقوقه وكانت تلعب المباراة في يومها ثم عليك أن تنتظر ثلاثة أيام ليصلك بعدها لقطات المباراة وأهدافها، واستمر تسجيل المباريات على أفلام وعرضها بعدها على التليفزيون حتى جاء مونديال 1966 بانجلترا بظهور تسجيلات الفيديو التي بالإمكان تداولها إضافة إلى تقنية الإعادة لأول مرة، ثم في مونديال 1970 في المكسيك كانت النقلة الكبرى بأول مرة تشاهد الجماهير مباراة كرة قدم منقولة على الهواء مباشرة.

وفي مصر لم تكن هناك أية أزمة لسنوات طويلة في هذا الأمر حيث كان اتحاد الإذاعة والتليفزيون متعاقد مع الفيفا لعرض مباريات كأس العالم متاحة لجميع المصريين على القناة الثانية المصرية الموجودة في كل بيت، استمر هذا الحلم الجميل حتى مونديال فرنسا 1998، ولكن مع مونديال كوريا واليابان 2002 رأت الفيفا إمكانية مضاعفة عوائد حقوق البث لما يقارب العشرة أضعاف، فقط بالاتجاه إلى القنوات المشفرة.

كانت القنوات المشفرة وما زالت هي الشجرة التي ينعم الفيفا بقطف ثمارها، أيقن الفيفا هذا مثلما أيقن أن الفارق الضخم بين عروض القنوات المشفرة وعروض القنوات المفتوحة، يجعل حرمان البسطاء من متابعة كأس العالم في منازلهم أمرًا مقبولًا، فعلى سبيل المثال، حصل الاتحاد الدولي لكرة القدم على أربعة مليارات دولار أمريكي عوائد البث الحصري لمونديال 2014 في البرازيل. 

بالفعل تم البيع في 2002 وحصلت شبكة قنوات ART  على حق النقل الحصري للمونديال، ولكن لم يتم التشفير بشكله الكامل حيث احتفظت التلفزيونات الرسمية لبعض الدول العربية ببقايا حقوق المواطن العادي فاشترت حقوق البث من ART ؛ الأمر الذي لم تقدر عليه في مونديال 2006 ليصبح إيذانًا كاملًا ببدء مرحلة "للأغنياء فقط".

 

لقطة من كأس العالم 1994 في الولايات المتحدة عبر تلفزيون ART

واكب هذه المرحلة المشفرة ظهور "الوصلة"، وهي اختراع مصري بامتياز يتكون من غرفة تعج بالأسلاك والأجهزة، وتخرج من هذه الغرفة وصلات إلى كل بيوت المنطقة مقابل مبلغ زهيد تدفعه لصاحب الوصلة ويختلف من منطقة لأخرى ومن جودة لأخرى ومن عدد القنوات الذي يتيحها لك صاحب الوصلة، أتذكر في 2006 كنا ندفع 20 جنيهًا في الشهر مقابل قنوات ART  وShowtime كليهما.

تسنّى لي من خلال تلك الوصلة الجميلة متابعة أحداث ما تزال في ذاكرتي ما حييت، شاهدت عبر الوصلة هدف أبو تريكة في الصفاقسي 2006، هدف هنري في البرازيل في السنة نفسها، نطحة زيدان لماتيراتزي في نهائي كأس العالم 2006، أهداف مصر والبرازيل وهدف حمص في إيطاليا في كأس القارات 2009، ثم جاء عام 2010 لينتقل التعاقد من ART إلى شبكة قنوات الجزيرة الرياضية ويبدأ تدريجيا عصر انتهاء الوصلة.

بدأت المفاوضات قبل كأس العالم 2010 وبالفعل في صيف 2009 تم الاتفاق بين الجزيرة الرياضية وشبكة قنوات ART  على شراء الجزيرة للست قنوات الرياضية والحصول على حقوق بث كأس العالم 2010 حصريًا في الشرق الاوسط.

جاءت قنوات الجزيرة الرياضية التي تحولت لاحقًا إلى beIN sports بأساليب أحدث وتقنيات أكثر أمانًا وحماية تكنولوجية مما سبب تضييقا أكبر على الوصلات وأصحابها، وصار الاتجاه للقهوة في كأس العالم 2010 هو خيار إجباري لا يحتمل المفاضلة، وأعلنت شبكة قنوات الجزيرة الرياضية حينها عن قيمة الاشتراك الجديد لباقة قنوات كأس العالم 130 دولارًا أمريكيًا لغير المشتركين في باقة الجزيرة، أي ما يوازن حينها 975 جنيه مصري، بينما دفع المشتركون في باقة الجزيرة الرياضية حينها 100 دولار أمريكي لمشاهدة المونديال.

سارت الجزيرة ثم beIN بكأس العالم 2010 و2014 بنسق تصاعدي، أرباح متزايدة طبيعية وتضييق أكثر فأكثر على الوصلات وسرقات البث؛ بتفعيل أكواد للتشفير وزيادة الرقابة على الريسيفر التجاري الذي يوضع في المقاهي والكافيهات وبأسعار اشتراك توازي ثلاثة أضعاف الريسيفر العادي، وكلها محاولات للحفاظ على حقوقهم كما يرونها، ومحاولات لسلب حقوقنا نحن في المتعة كما نراها.

 

مونديال 2014 في البرازيل عبر شاشة beIN sports 

حتى وصلنا إلى العام الأخير قبل كأس العالم 2018 ومع زيادة الصراعات السياسية بين السعودية وقطر قد تعود الفائدة على الغلابة راغبي المتعة الخام، حيث غمرت أسواق السعودية أجهزة استقبال تحمل اسم  beoutQ وهي الشركة التي أعلنت في بيان رسمي لها أنها تحارب الاحتكار الجائر وتؤمن بحق الشعوب في الاستمتاع بمشاهدة الفعاليات الرياضية الكبرى مهما كان حالتهم المادية.

على الجانب الآخر فإن الأسعار الرسمية التي أعلنتها beIN لمشاهدة مونديال روسيا، فهي 150 دولارًا أمريكيًا أي بزيادة 20 دولارًا فقط عن كأس العالم 2010، لغير المشتركين أصلًا، وهو ما يساوي 2800  جنيه مصري، أما المشتركين في باقات beIN، فعليهم دفع 1847 جنيهًا هي قيمة الاشتراك 1620 جنيهًا مضافًا إليها ضريبة القيمة المضافة.

الأمر الآن أشبه بألعاب القط والفار، محاولات قرصنة ومحاولات تصدي، مرة تنجح بي أوت في البث ومرة أخرى لا تنجح، ونحن في اللحظات الأخيرة قبل بداية الحدث لكأس العالم 2018 ليس في وسعنا سوى الانتظار وجني ثمار المشاهدة أيًا كان الفائز.

وحتى لو لم تنجح التجربة السعودية فهناك تجربة أخرى قائمة بالفعل تعرضت لها بنفسي في كأس العالم 2014 بالاتجاه إلى القمر الاسرائيلي "آموس" حيث كنت من الذين انساقوا وراء شهوة الكرة وتابعت كأس العالم حينها على القمر الاسرائيلي، حقيقة تابعت عليه مباريات دور المجموعات فقط ثم تركته في سبيل القهوة والاستمتاع بأصوات الزحام، وأيضًا لضيقي بالمعلق الإسرائيلي وهو ينطق بالعبرية التي كانت تذكرني دائمًا بأنني "خائن" بالفعل.

أعلن التلفزيون الاسرائيلي هذا العام أنه سيذيع أيضا مباريات كأس العالم مجانا عبر قمر "آموس" في دول مصر ولبنان والأردن، وهو ما يجعلنا أمام خيارات أكثر هذا العام، إما اسرائيل وإما انتظار انتصار السعودية ضد beIN وإما نزول القهوة وسط الجموع، كلها خيارات ويبقى خيار المشاهدة مع الأهل في المنزل هو الرفاهية الأكبر التي لا قبل للكثيرين بها.