فليكر- حسام الحملاوي.
من مظاهرة أمام السفارة الإسرائيلية بالقاهرة- إبريل 2011.

لكل شيء تافه إلا "القضية"

منشور الثلاثاء 15 مايو 2018

 

أنا فلان ابن فلان ابن فلان.. لا أمل لي في العودة لبلدتي الأصلية التي احتلتها إسرائيل عام 1948، لا أمل لي. شكرًا على وصفي بـ "الجاسوس"، الخائن والمتخاذل.. لربما عززت لديك "كذبة" أن الفلسطينين باعوا أرضهم، ربما. لكنك لست فلسطينيًا لتفهم. ولست فلسطينيًا لتعاني. ولست فلسطينيًا بلا وطن وبلا هوية وطنية تتيح لك أن تزور غزة وقتما شئت أو أن تسهر ليلًا في رام الله، أو على أبعد تقدير أن تُحترَم في مطار القاهرة و لا تهان في بيروت. أنت لست فلانًا ابن فلان ابن فلان.. أنت لستَ أنا، ولن تكون ضمن الـ "12 مليون فلان ابن فلان". ماذا تعني لي النكبة؟ ماذا تعني لك النكبة، أنت أجبني؟ النكبة اليوم ليست إلا تاريخًا يمر كل عام، نخرج المفتاح وأوراق الطابو، استذكر جدي وحديثه عن وطنه وأرضه التي تركها لينجو بحياته وحياة أطفاله من هول القتل الممنهج لعصابات إسرائيل. يتخلل هذا اليوم مسيرات ربما شاهدت إحداها إن كنت تسكن مدن العرب، وحتمًا شاركت في واحدة إن سكنت دار الغرب، يتخلل هذا اليوم غضب وعزم مهول على العودة، هي العودة لا محالة. تنتهي أحداث يوم الغضب فنعود. أعود لعملي. وتعود لبيتك. أعود لحدود وطني الضيق. وتعود أنت لوطنك الواسع. تعود أنت لأسرتك. وأعود أنا لأسرتي ناقصة فردًا قضى نحبه متظاهرًا على حدود غزة على أمل أن يرى قريته من بين مقلاع حجر. تنتهي حياته فيعود إلى ربه ولا يعود لقريته. هذه دراما، هذا هو الحال. هذه هي النكبة. وجع وألم. خيبة وحلم، لكن الواقع مر، علقم. حلمي بالعودة لقريتي الأصلية يبقى حلمًا لأن "رب البيت بالدف ضاربُ" لكن من رب البيت؟ أنا، أنت، ومفاوض ترك اللاجئين وخصص جل اهتمامه في حل قضايا بطاقات الـ "ڤي آي بي" للتجار، لفريق كرة قدم وطني سيباع  حقه في المحافل بفعل "رجوب"، لتحويلة مَرضيّة عاجلة لزوجة وزير لكي تجري جراحة تجميلية في أنفها لعلها تبدو "أقذر" قليلاً في صورة جماعية لعشاء عمل فاخر مع ضباط الارتباط الإسرائيلي. لأي شيء تافه. لكل شيءٍ تافه إلا القضية. أنا السبب. لأني فقدت الأمل في العودة، من ولّيتهم أمري بمحض إرادتي باعونا بمحض إرادتنا أيضًا. أنت السبب، لأنك فقدت الأمل في العودة، من وليّتهم أمرك بمحض إرادتك باعوك بمحض إرادتك أيضًا. السلطة الوطنية الفلسطينية ستعيدنا لفلسطين؟ هع. ماذا فعلت تلك السلطة لمخيم اليرموك؟ لمَن قُتلوا في اللجوء مرتين؟ لمَن هُجّروا مرتين؟ لا شيء، هع! هل نثور على السلطة؟ أي واحدة فيهم؟ هل نحوّل المقاطعة لسجن الباستيل؟ أم نحول السراي الحكومي في غزة لسجن الباستيل؟ ألم يُبنَ الباستيل كسجن للمعارضين السياسيين والمحرضين ضد "الدولة" وتحول رمزًا للطغيان على مدار سنين ومن ثم أصبح شرارة الثورة الأولى؟

باستيلنا هو المقاطعة وباستيلنا هو السراي الحكومي.. الباستيل هو رمز قمع السلطة للشعب، لا مفر من هدم الباستيل. أم نحرق مقر سفارتنا في بيروت، عمان، دمشق وبوينس آيرس.. كل سفارة لم تُجدّد جواز سفر بحجة "الإتفاقيات الدولية والتنسيق الأمني".. لابد وأن تحرق. كل سفارة لنا في دولة نقلت سفارتها للقدس.. لابد أن تحرق. كل سفارة لفلسطين عُيّنَ سفيرُها لقرابته من قريب مقرّب من مقرب لقريب في سدة الحكم… تحرق. كل سفارة تعاونت من المحتل.. تحرق. كل سفارة لدولة كدولتنا لابد أن تحرق. كل سفارة لدولة تحت الإحتلال لابد أن تحرق. كيف جمعنا الدولة والاحتلال.. شو هالعبقرية.

كيف "فوتناهم ببعض".. هل انتهينا من حرق سفاراتنا؟ كم عدد القتلى؟ كم جوازًا دبلوماسيًا للقتلى؟ هل طهرّنا السلطة؟ نعم. هيييييه!

وماذا بعد؟

كيف لنا أن نحرق الأمم المتحدة؟ هذه الكارثة الدولية التي لو تأتِ بالخيام.. لعدنا. التي لو لم تحولنا لـ "لاجىء ومواطن" لعدنا. هذه الأمم المتحدة ووكالة إغاثتها التي حولتنا كلنا لعبيد أكياس قمح ودقيق وسكر لو لم تحولنا لهؤلاء لعُدنا. كيف لنا أن نحرق العواصم المتخاذلة؟ أيكفي نفط الخليج لتلك المحرقة؟ لابد أن نطلب المعونة من الخليج، يساعدونا في أن نشتري "كاز وسخ" بقرض طويل الأمد وما أن نحرق كل سجلات اللجوء.. ينتهي الأمد. ليس لنا في الحرق يد، لكن لو حرقناها.. لعدنا.

اليوم بعد كل هذه النكبات المتتابعات هل سنعود يومًا؟

نعم سنعود أنا على قناعة أني سأعود وفي عام نكبة قادم في ذكرى هذا الحدث الجلل سأبحث عن مفتاح جدّي وورقة الطابو التي تخبئها "ستّي" في صدرها خوفا عليها من السرقة أو أن يتزوج "سيدي" مرة أخرى فتضيع الأرض، سأجمع رفاقي وسننظم وقفة احتجاجية مطالبين بإنهاء سلطة العار وأن نعود شعباً محتلًا لا وصي علينا ولا سلطة، وحينها سنعود.

قناعاتي؟ لازلت مقتنعاً أن فلسطين هي من البحر للنهر، لازت مقتنعًا أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، لازلت مقتنعًا أن لا مفر من هجوم كبير لتحرير الوطن، لازلت مقتنعًا أن هذا الهجوم لن يأتِ يومًا. من أين ستأتي الجيوش لتحرير فلسطين؟

قال لي صديقي: أنا قادم من الشرق، امتطيت جوادًا عراقيًا وآتٍ إليك. قلت له: اعبر جسر اللنبي سليمًا معافى و"تعا شخ ع قبري".

قال: إذًا من الجنوب. قلت: مغلق لانشغال رب البيت في قصف دول مجاورة.

قال: شمالًا. قلت: تجنب طريق جونيه فنهايته مُرّة.

قال: قادم أنا لنجدتك من مصر. قلت: بس يا أهبل.

يا صديقي، كل تلك الرايات الخافقات في ميدان التحرير لم تحررنا، ألم نهرع سوية لنشارك في هذا الحلم؟ ألم تقف أنت على ناصية الشارع تحذرنا من جموع كلاب السلطة والمال القادمين لقتلنا لأننا ثرنا، ألم نعلق كل الأمال على ميدان لم يتسع للعدد واتسع للحلم؟ ألم تُسرق تلك الثورة من أبناء الثورة أمام أعين الثورة. ألم يأتِ "حرامي الغسيل" وسرق كل تلك الآمال المعلقات؟ ألم نمُت في غزة والقدس وبيروت ودمشق ألف مرة، وألف ألف مرة حينا سُرق منهم الميدان؟

كم علقنا آمال على كيلو متر مربع ولم نعلق آمالًا على أمة من المحيط للخليج، كم كسرنا، كم قتلنا وكم سُحلنا أمام التلفاز. ألم تر سفارة العار التي وقفنا على بابها أنا وأنت وهي تُمزّق، و"سبايدر" يصعد ويصعد ويصعد رافعًا علم هذا الحلم عاليًا.. ألم تر ذات السفارة تحتفل قرب ميدان الحلم بعيد ميلادها السبعين؟ ألم تر؟ ألم تر كيف أن أبرهة الحبشي عاد لليمن من الشمال برفقة طير الأبابيل؟ ألم تر أن كل ثوراتنا تقتلنا ولا نغير قيد أنملة في "دولة عميقة". ألم تر يا صديقي أننا لسنا بحاجة لثورات؟ نحن بحاجة للحسن بن الصباح.

المعادلة ببساطة الكلمة، أن فلسطين لن تتحرر بفعل فاعل لم يكن مفعولًا به، إي.. فلسطين لن تتحرر إلا بإنفجار ديموجرافي، أو خلل فني في ديمونا، أو تفشٍّ عام لفيروسات الكمبيوتر في أنظمة الدفاع الأرضية والجوية والبحرية لجيش الاحتلال الإسرائيلي. لن تعود فلسطين ولن نعود إلا إذا تقدمنا تكنولوجيًا، إلا إذا أصبحنا دولة رائدة في صناعة التكنولوجيا لا استيرادها. عودة هذه الأرض بالعلم.. سنعود حين نبدأ كشعب محتل.. احتلال الغريب لا احتلال ذي القربى.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.