صفحة رئيس الوزراء سعد الحريري
"نحنا الخرزة الزرقا" شعار الحملة الانتخابية لتيار المستقبل

للحرب أدوات أخرى: انتخابات لبنان في 7 دقائق بدون معلّم

منشور الأربعاء 9 مايو 2018

 

بعد تسع سنوات من الانتظار، لم تأتِ الانتخابات التشريعية اللبنانية بجديد يُبعَث حياً على خشبة المسرح السياسي. من كان يتحدث بلغة الآمال، عرف أن "الأمل" كاذب. سبقهم إلى ذلك من قاطع هذا الاستحقاق، بقرار أو من دونه، وقد كان المقاطعون نحو 50%. برغم ذلك، فقد عكست الانتخابات الأخيرة موازين قوى كانت تختمر طوال المرحلة الأخيرة.

انبثق عن هذه النتائج مشهد جديد يكاد يُختصر بالآتي: أولاً، تكريس تحالف حزب الله وحركة أمل (أو ما يُعرف بالثنائي الشيعي) لقوته السياسية عبر حصوله على كل المقاعد البرلمانية التي كانت تعنيه بشكل مباشر. ثانياً، خروج العاصمة بيروت، وصيدا الجنوبية، وطرابلس الشمالية، من الهيمنة السياسية لعائلة آل الحريري التي يتزعمها رئيس الوزراء سعد الحريري. ثالثاً؛ نجاح نسبي لرئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل، بوراثة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، الذي كان قد أسس هذا التيار وأورثه لصهره وزير الخارجية الحالي.

لعلّ السبب الرئيس الذي أوصل إلى مجمل هذا المشهد، هو قانون الانتخاب نفسه الذي عمل على هندسته جبران باسيل.

رشوة شرعية

"رغم اعتماد قانون الانتخاب للنظام النسبي، لكنه جعل من عتبة الاستبعاد مرتفعة ومتبدّلة وفقاً للدائرة الانتخابية، إذ تتراوح بين حوالي 7% في بعض الدوائر، لتصل إلى ما يُقارب الـ20% في دوائر أخرى، ما يمنع عملياً حصول الأحزاب ضد النظام على فرصة فعلية للوصول إلى البرلمان" يقول أستاذ الأعمال التطبيقية للقانون الدستوري في جامعة القديس يوسف وسام اللحام، مضيفاً في تصريحات إلى المنصة أنّ هذا القانون "أقرّ سقفاً عالياً جداً للإنفاق، وهو شرّع الرشوة تحت مسميات مختلفة كالمساعدات الدورية ومصاريف التنقل"، ولافتاً إلى أنّه برغم إنشاء القانون لهيئة للإشراف على الانتخابات، فإنّه "لم يمنحها الوسائل الفعلية لتحقيق أهدافها بل جعل السلطة الفعلية بيد وزارة الداخلية التي كان وزيرها نهاد المشنوق، مرشحاً على لائحة الحريري في دائرة بيروت الثانية (بيروت مقسّمة وفق هذا القانون إلى دائرتين، عملياً: شطر مسلم وشطر مسيحي).

رصاصة في رأس "الطريق الثالث"

في العاصمة اللبنانية، كان الجو مختلفاً عن كل الانتخابات السابقة التي عرفتها منذ بداية الألفينات، وهو تاريخ سياسي مهم، لأنّ في عام 2000 تحديداً تكرّست سلطة المال في بيروت حين أطلق الراحل رفيق الحريري، في انتخابات ذلك العام، رصاصة الرحمة على آخر الوجوه المعارضة في حينه، وكان يمثّلها رئيس الوزراء الأسبق سليم الحص، برفقة ابن رئيس وزراء آخر هو تمام صائب سلام، الذي عاد منذ مدّة ليلتحق بركب "الحريرية" وقد ترشح مع زعيمها على لائحته في بيروت، وفاز.

لم يكن سليم الحص سليل عائلة سياسية، وهو لم يورث زعامةً، لكنّ المال السياسي أكله، كما أكل عائلات بيروت. ضمن هذه المعادلة السياسية الثلاثية التي كانت بين المال السياسي (أي الحريري) وعائلات بيروت وشخصية مثل سليم الحص، صاحب التاريخ الوطني الكبير والذي كان عملياً يُمثّل مستقبلاً للبلد، من مات سياسياً بعد هذا الزمن هي هذه الشخصيات، ليبقى الصراع دائراً بين الطرفَين الآخرين (ورثة العائلات السياسية، وأصحاب المال السياسي)، بتخاصم حيناً وتحالف حيناً آخر.

صحيح أنّ رأس المال ومنطق العائلات الرجعي، يتصارعان، ليلغي الأول الثاني، حتماً، لكن من كان يراقب لافتات بيروت قبل هذا الاستحقاق سوف يُلاحظ مدى استعانة "رأس المال" بالمنطق "الرجعي" حين يواجه أزمة كتلك التي واجهها الحريري الابن خلال الأعوام الماضية، مادياً وسياسياً: غالبية اللافتات المرفوعة كانت تؤيد "نهج الشهيد رفيق الحريري" و"تُبايع" الابن، وهي موقّعة باسم عائلات بيروتية. في الأثناء، إذا ضعُف رأس المال، جاء خصومه من "حيتان المال" ليُنافسوه على مساحاته، وهذا كان حال الحريري أيضاً، تحديداً في بيروت وطرابلس.

أمراء الطوائف

بأي حال، بيروت التي كانت "تتكأ على الأفق" في عام 2000، بيروت التي كانت لا تزال حالمة في حينه، خلعت عباءة الهيمنة الحريرية في هذه الانتخابات، ولكن "الورثة" كانوا من نفس "الطينة". ففي العاصمة، كما في غيرها، تبقى "الملاحظة الكبرى أنّ من فاز في هذه الانتخابات هم أمراء الحرب (أمراء الطوائف) وحيتان المال. فالكتل الكبرى في البرلمان تُمثّل هوية طائفية غير علمانية وهي: التيار الوطني (مسيحي) وتيار المستقبل (سني مسلم) وحزب الله وحركة أمل (شيعي مسلم) وحزب القوات اللبنانية (مسيحي) والحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط (درزي)، إضافة إلى كتل أصغر هي أيضاً طائفية وجزء من نظام أمراء الحرب.

يضاف إلى هؤلاء حيتان المال، وهم منتشرون في أنحاء لبنان ومتحالفون حتماً مع التركيبة الحاكمة، ولقد فاز أصحاب الأموال بمقاعد مثل نجيب ميقاتي (طرابلس، وهو منافس للحريري) وفؤاد مخزومي (بيروت، وهو منافس أيضاً للحريري). يقول الكاتب اللبناني كمال ديب في منشور على صفحته بموقع فايسبوك  "منظومة الفساد فازت بـ121 مقعداً (من أصل 128)، وبقي 7 مقاعد، ستة منها ذهبت إلى أحزاب وتنظيمات غير طائفية كالتنظيم الناصري في صيدا (أسامة سعد) والحزب السوري القومي الاجتماعي، الخ. ولكن غاب تماماً تمثيل حزب عريق كالحزب الشيوعي وقوى ناصرية ويسارية، ولهذا فإنّ ضآلة تمثيل أحزاب اليسار العابرة للطوائف دليل إضافي على بلد لا وزن فيه للقوى العلمانية".

رئيس الحكومة القادمة

فور انتهاء الانتخابات التي جرت ليوم واحد فقط، بقيت بيروت هادئة لنحو ساعتين، ما أفهم البعض أنّ لائحة الحريري في دائرة "بيروت الثانية" تعرّضت إلى خرق. بعد ذلك بقليل، خرجت مسيرة دراجات نارية، ضخمة نسبياً، لمناصري حزب الله وحركة أمل، تُظهر نجاح هذا الطرف في إحداث خروقات في لائحة الحريري، تبيّن لاحقاً أنّها بعدد أربعة من أصل 11، فيما ذهب خامس لفؤاد مخزومي، نفسه، وهو رجل أعمال له منطقه في السياسة "والسلاح" أيضًا.

سعد الحريري لم يُبدِ قلقاً في مؤتمره الصحفي في اليوم التالي. أرجع تقلّص عدد مقاعد كتلته (من 33 إلى 21) إلى طبيعة القانون الانتخابي، مضيفاً أنّه لو جرت الانتخابات وفق المنطق الأكثري (بمعنى أنّ صاحب أعلى أصوات يكسب تلقائياً)، كانت لوائحه ستتعزز أكثر مما هي عليه اليوم. لكن رهان اسمترار الحريري في رئاسة الوزراء، وهو الأبرز وفق منطق النظام السياسي اللبناني، أجاب عليه الرجل في مؤتمره، ملمحاً من قناة حزب الله "إذا أردتُ تشكيل حكومة، يجب أن تكون الشروط لمصلحة البلد. وفي الأساس لا أحد يستطيع أن يفرض عليّ شروط، وإذا لم يعجبني ذلك أمشي". 

هذا السقف المرتفع لسعد الحريري، يبدو مضطراً عليه أمام احتمال تمكّن حزب الله وحلفائه (لو بقوا صفاً واحداً، والحديث هنا بشكل خاص عن التيار الوطني الحرّ الذي يقوده جبران باسيل) من تشكيل غالبية برلمانية بسهولة للمرة الأولى منذ الهزات التي بدأت باغتيال الحريري عام 2005. وبذكر ذلك العام، لا بدّ من التذكير أنّ وجوهاً بارزة (وهي حليفة، أو بدرجة أقل قريبة، لحزب الله) خرجت من البرلمان القائم على أنقاضه، لم تعد إلى قبته إلا في هذه الانتخابات.

وأيضاً، بذكر "التيار العوني" (الاسم الشعبي للتيار الذي يقوده باسيل)، لا يجب أن تفلت الإشارة إلى أنّ بقاء التحالف بينه وبين حزب الله محكوم بمدى التزام الطرفين باتفاق الطائف، أو بالأحرى بالدستور اللبناني بشكله الحالي، فهذه المسألة تبقى لدى الكثيرين مثيرة للشكوك. ففي الوقت الذي يحلم به باسيل، ومن خلفه العماد عون، بتعديل هذا الاتفاق، من غير المعروف وُجهة حزب الله على هذا الصعيد. وثمة نقطة أخرى تتمثل في مدى ذهاب باسيل في تحالفاته الخارجية.

سلاح حزب الله والحرب الدائمة

في حديث إلى فرانس برس، تقول مديرة مركز كارنيجي للشرق الأوسط مهى يحيى، إنّ "فوز حزب الله يُقوّي بالتأكيد نفوذه.. إذ سيمسح له بفرض شروط أفضل لتكريس دوره ودور سلاحه في المرحلة المقبلة، ليس فقط في لبنان بل في المنطقة كافة"، فيما تنقل الوكالة نفسها عن الباحث في معهد العلاقات الدولية والإستراتيجية كريم بيطار، أنّ "قضية سلاح حزب الله لن تعود على الأرجح الى دائرة النقاش السياسي في لبنان"، مضيفاً "حتى خصوم حزب الله مثل سعد الحريري، سلّموا إلى حدّ ما بالأمر الواقع". وجهة النظر الأخرى تقول إنّ مشكلة هذه المقاربة هي في إصرارها على إخضاع سلاح حزب الله لمعادلة لبنانية بحتة، بما يُنافي الوقائع.

إذا كان لهذه المقاربة خط بياني، أو إذا تطورت، فهي قد تنتهي عند مقالة الكاتب والروائي إلياس خوري، الأخيرة، من أن "ما جرى في لبنان كان نصف انتخابات تقليدية في مقابل استفتاء على طريقة الأنظمة العربية"  و"لا نرى أمامنا سوى الانقلاب الزاحف الذي يستولي على لبنان. فكيف نقاوم هذا الانقلاب؟"، في إشارة واضحة إلى حزب الله. 

لعلّ المشكلة هنا أنّ هذا المنطق نفسه هو الذي حمى حزب الله بين "أيّارين" (بين مايو 2008، تاريخ الاضطرابات الأمنية والعسكرية التي شهدتها بيروت أيام حكومة فؤاد السنيورة، ومايو 2018). 

 

منشور انتخابي لكتلة القوات اللبنانية

عقيدة "القوات" 

كل ذلك لا ينفي أنّ حزب الله مثّل منذ تأسيسه، ولا يزال يُمثّل، شبه قطيعة مع الاجتماع السياسي اللبناني. لكن بوراثته للحرب، وانعكاس ذلك على بعض أعماله السياسية، هو ليس وحده. على سبيل المثال، ومع كل الفروق بين الطرفين "حزب القوات اللبنانية الذي يقوده سمير جعجع فاز بكتلة مهمة، ستُحدث ثقلاً في السياسة اللبنانية. ولكن حزب القوات يُدين بعقيدة مختلفة، بأنّ لبنان هو مجرد مكونات تتعايش أو تتجاور، فلا زواج مختلط ولا تنظيم مدني للدولة ولا أمل في قيامة شعب واحد ومجتمع واحد، والعدو بالنسبة لعقيدة القوات هو السوري والفلسطيني، كما أنّ حزب القوات لا يتخلى عن "عقيدته" ولا يُراجع المرحلة التاريخية التي كان خلالها حليفاً رئيسياً لإسرائيل في لبنان في زمن الحرب. ولذلك فعدد مقاعده لا يمكن تصريفه سلطةً ونفوذاً إذا لم يُغيّر منطقه العنصري تجاه اللبنانيين الآخرين ولذلك فإن عملًا داخلًا عميقًا أمرٌ مطلوب من "القوات" خاصةً إذا كان الهدف هو رئاسة الجمهورية عام 2022" يقول الكاتب كمال ديب، صاحب الكتاب المرجعي "أمراء الحرب وتجار الهيكل؛ رجال السلطة والمال في لبنان".

هكذا، تبقى هذه الانتخابات صورة مصغّرة عن "حرب لبنانية" لا تزال مستمرة، ولو بأدوات أخرى، ويبقى البلد محكوماً بسياسات التجاذبات ورهاناتها، من دون أن يعني ذلك أنّ "بيروت ثانية" سيُسمح لها بالولادة. أمام هذا المشهد، كتب شاب لبناني على فايسبوك، ساعات قليلة بعد انتهاء الاستحقاق: "طوبى للمهمشين والهامشيين، فهم بقية الضمير في الأرض".