جدارية لكارل ماركس

واقعنا الذي رآه "ماركس"

منشور الأحد 6 مايو 2018

نشرت صحيفة إندبندنت البريطانية هذا المقال لسلافوي جيجيك بمناسبة الاحتفال بالمئوية الثانية لميلاد كارل ماركس.

هناك نكتة سوفيتية قديمة لذيذة من نكات راديو يريفان؛ يتساءل فيها مستمع "هل فاز رابينوفيتش حقًا بسيارة جديدة في اليانصيب؟" فيرد المذيع "من حيث المبدأ نعم، هذا صحيح؛ لكنها لم تكن سيارة جديدة بل دراجة قديمة، ولم يفز بها بل سُرِقَت منه".

ألا ينطبق نفس الكلام علي إرث ماركس اليوم؟ لنسأل كراديو يريفان "هل نظرية ماركس ما زالت صالحة اليوم؟" يمكننا أن نخمن الإجابة "من حيث المبدأ نعم. هو يصف ببراعة الرقصة المجنونة لديناميكيات الرأسمالية والتي وصلت إلى ذروتها اليوم فقط، بعد أكثر من قرن ونصف [على صدور كتابه رأس المال]، ولكن ... أورد جيرالد كوهين السمات الأربعة للمفهوم الماركسي الكلاسيكي للطبقة العاملة: (1) أنها تشكل غالبية المجتمع (2) أنها تنتج ثروة المجتمع (3) تتكون من أعضاء المجتمع المُعرَّضين للاستغلال و (4) أعضاؤها هم الأكثر احتياجًا في المجتمع. عندما يتم الجمع بين هذه المحددات الأربعة، فإنها تولِّد صفتين-نتيجتين إضافيتين؛ (5) الطبقة العاملة ليس لديها ما تخسره من الثورة ؛ و (6) بإمكانها المشاركة، وستشارك بالفعل في تحول ثوري للمجتمع. 

اقرأ أيضًا: حُمر الثورة الروسية.. سينما البروباجاندا المضادة

لا تنطبق أي من المحددات الأربعة الأولى على الطبقة العاملة اليوم، ولهذا السبب فإن إمكانية وقوع الحالتين (5) و(6) غير واردة. وحتى إذا استمر تمثُّل بعض هذه السمات في أجزاء من مجتمع اليوم؛ فإنها لم تعد متحدة في عنصر واحد؛ كما لم يعد المحتاجون في المجتمع هم العمال، وهكذا.

 ولكن لنبحث أكثر في سؤال الصلاحية والملاءمة. إن نقد ماركس للإقتصاد السياسي وتحديده لديناميكيات الرأسمالية ليسا مجرد عنصران مؤسسان من نظريته يحتفظان بأهميتهما إلى الآن؛ بل يمكن أن نذهب أبعد من ذلك وندعى أنهما -اليوم فقط- ومع الرأسمالية العالمية؛ صارتا صالحتان تمامًا للتطبيق. 

اقرأ أيضًا: ثورة أكتوبر الاشتراكية.. كيف انهارت دولتها

 ومع ذلك، في قلب لحظة الانتصار تكمن لحظة هزيمة. وبعد التغلب على المعوقات الخارجية، يأتي التهديد الجديد من الداخل. بعبارة أخرى، لم يكن ماركس مخطئًا، لقد كان محقًا في الغالب - لكن بشكل حرفي ربما أكثر مما توقعه هو نفسه.

 على سبيل المثال، لم يكن ماركس يتخيل أن الديناميكيات الرأسمالية لإذابة جميع الهويات الخاصة سوف تترجم إلى الهويات العرقية أيضًا. إن الإحتفاء القائم بـ "الأقليات" و"المهمشين" هو موقف الأغلبية السائدة من اليمين المتطرف الذي يشكو من رعب "الصوابية السياسية"، لكنه يستغلها من خلال تقديم نفسه كحامي لأقلية مهددة بالإنقراض، في محاولة منه لاستنساخ حملات الجانب الآخر.

اقرأ أيضًا: مقدمة في حياة كارل ماركس

ثم هناك حالة "فيتشية/ صنمية السلعة". أذكر النكتة الكلاسيكية عن الرجل الذي يعتقد أنه بذرة من الحبوب ويتم نقله إلى مؤسسة للأمراض العقلية، حيث يبذل الأطباء قصارى جهدهم لإقناعه بأنه ليس بذرة؛ بل رجل. وعندما يتم شفاؤه (مقتنعًا بأنه إنسان) ويُسمح له بمغادرة المستشفى، يعود على الفور وهو يرتجف. هناك دجاجة خارج الباب ويخاف أن تأكله.

"يا ابني" يقول طبيبه، "انت عارف كويس إنك مش حباية درة، إنت راجل".

"أنا طبعا عارف ده" يجيب المريض، "بس هل الفرخة تعرف ده؟"

إذن كيف ينطبق هذا علي مفهوم فيتشية [تُرجِمَت كذلك وثنية - صنمية] السلعة؟ لاحظ بداية الفصل الفرعي الحامل لهذا العنوان  في كتاب "رأس المال" لماركس، ويقول فيه " تبدو السلعة لأول وهلة شيئًا واضحًا تمامًا، وتافه. لكن تحليلها يبرز أنها شيء غريب للغاية، تكثر فيه التفاصيل الدقيقة الميتافيزيقية والجماليات اللاهوتية".

تصنيم السلعة (اعتقادنا أن السلع كائنات سحرية تتحلي بقوة ميتافيزيقية كامنة) ليس تصورًا يقع في أذهاننا، بالطريقة التي (نخطئ) بها في فهم الواقع فحسب؛ بل هي ظاهرة في واقعنا الاجتماعي نفسه. قد نعرف الحقيقة، لكننا نتصرف كما لو كنا لا نعرفها - في حياتنا الحقيقية، نتصرف مثل الدجاجة في النكتة.

 

نايلز بور

 نيلز بور، الذي منحنا ردًا صحيحًا على قولة أينشتاين "الإله لا يلعب بالنرد" عندما قال له "لا تخبر الله ماذا يفعل!". قدم كذلك أفضل مثال لكيفية يعمل الإنكار الصنمي fetishist disavowal للإيمان. حدث هذا عندما رأى أحد ضيوفه حدوة حصان معلَّقة على بابه، فعلق الزائر بأنه لم يعتقد أن بور يؤمن بالأفكار الخرافية مثل أن حدوات الخيل تجلب الحظ السعيد. وكان رد بور "أنا لا أؤمن بها بالطبع. لكن وضعتها لأنه قيل لي أنها تعمل حتي لو لم تكن مؤمنًا بها".

اقرأ أيضًا: في ذكرى وفاته الخمسين... قصة إعدام تشي

هكذا تعمل الأيديولوجيا في عصرنا المُزدري: ليس علينا أن نؤمن بها. لا أحد يأخذ الديمقراطية أو العدالة على محمل الجد، فنحن جميعًا مدركين لفسادهما، لكننا نمارسهما - وبعبارة أخرى، نظهر إيماننا بهما - لأننا نفترض أنهما تعملان حتى لو لم نؤمن بهما.

فيما يتعلق بالدين، لم نعد "نؤمن حقا"، نحن نتَّبِع فقط (بعض) الطقوس والأعراف الدينية كجزء من احترام نمط حياة المجتمع الذي ننتمي إليه، نجد هذا في مثل اليهود غير المؤمنين الذين يطيعون قواعد الكوشر  (الطعام الحلال) احترامًا للتقاليد.

 "أنا لا أؤمن بها حقًا، إنها مجرد جزء من ثقافتي" تبدو نمطًا سائدًا دالا على "الإيمان النازح"، وهو سمة عصرنا. "الثقافة" هي اسم كل تلك الأشياء التي نمارسها دون أن نؤمن بها أو نأخذها على محمل الجد.

هذا هو سبب نبذنا للمؤمنين الأصوليين ووصمنا لهم بكونهم "برابرة" أو "بدائيين"، ككائنات ضد الثقافة وخطر عليها. فهم يجرؤون على التعامل بجدية مع معتقداتهم. إن الحقبة المُزدَرِية التي نعيشها لن تفاجئ ماركس.

 ومن ثَمّ، فإن نظريات ماركس أكثر من مجرد "نظريات حيّة"؛ ماركس هو شبح مستمر في مطاردتنا - والطريقة الوحيدة لإبقائه على قيد الحياة هي التركيز على أفكاره التي أصبحت اليوم أكثر واقعية وتحققًا مما كانت عليه في عصره.