من مقال الإيكونوميست

تشويه الإعلام الغربي: جنون المؤامرة في مواجهة الحقيقة

منشور الاثنين 7 مايو 2018

 

"الذعر هو سيد الموقف الآن بين المراسلين الأجانب، الطرق لم تعد آمنة لممارسة عملنا، أصبح من شبه المستحيل النزول إلى الشارع ومخاطبة المواطنين، علينا التعامل فقط مع أشخاص نعرفهم أو نعرف من يعرفهم بشكل شخصي، مصر التي كنا نحيا فيها لم يعد لها وجود، المصريون للأسف لم يعودوا ذلك الشعب المُرحب كما اعتدنا دومًا"، هكذا تصف كيم دين - المراسلة الهولندية المقيمة في القاهرة- الوضع الحالي في مصر، متحدثة عن شعورها وشعور كثير من أصدقائها المراسلين الأجانب.

في أعقاب ثورة يناير انفتح المجال العام في مصر، وطرقت الصحافة أبوابًا لم تُطرق من قبل، كُشف المستور، ومحيت أغلب الخطوط الحمراء - أو هكذا ظن الصحفيون.

لكن مع استعادة النظام القديم عافيته مرة أخرى، بدأت رحلة تشويه الثورة والثوار من جانب، وخنق الصحافة من جانب آخر.

أما الصحافة المحلية فقد تم شراء أغلبها وأبعِد عن الشاشات كل من يحمل ميلًا ولو محدودًا للثورة والتغيير، سُجن من الصحفيين من سجن، وغادر البلاد منهم من غادر، وأغلقت الأبواب في وجه من بقي منهم، وبهذا ارتاح النظام من صداع الإعلام المحلي ولم يبقَ أمامه سوى الإعلام الأجنبي، الذي لن يقدر على شرائه ولم ينجح في إسكاته لذا تقرر تشويهه بنظرية المؤامرة.

لسنوات طويلة لم يكن الإعلام الغربي أو الآخر بشكل عام مستهدفًا من قبل السلطة و أذرعها الإعلامية، بالعكس كان "الخواجة" مرحب به دوما في بلد السياحة، لكن بعد الثورة وتحديدًا في في مطلع 2012 مع استعادة النظام "القديم" جزءًا من قوته مرة أخرى، بدأ التلفزيون المصري وبعض القنوات الخاصة الموالية للنظام توجيه اولى ضرباتها للاعلام الغربي، وذلك بعرض حمله "كل كلمة بثمن"  - وهي أقرب ما تكون للاعلانات التوعية - التي تحذر المصريين من الحديث الى الاجانب مشيرة الى انهم في الاغلب "جواسيس" أتوا لتدمير بلادنا.

حذرت الحملة من أن الشائعات هي هدف الإعلام الغربي لتشويه البلاد وتدميرها، حتى مواقع البحث عن وظائف قد تكون فخًا لاستقطاب الشباب واستخراج المعلومات منهم، فاحترس.

غياب اسم الجهة المنتجة لتلك الحملة فضلّا عن انتشارها في الوسائل الإعلامية الموالية للنظام، تجعلك تدرك أن الأجهزة الأمنية غالبًا هي الجه المنتجة لها، فالرسالة بدت واضحة؛ نحن مستهدفون، والآخر جاسوس وعميل يكرهنا ويريد تدمير بلادنا.

لكن الحملة التي بدأت على استحياء في عهد المجلس العسكري أخذت خطوات أكثر وضوحًا وشراسةً في عهد الرئيس الجديد عبد الفتاح السيسي، فالرجل الذي اتى محملا بأفكار الدولة الوطنية القوية ومصر "اللي حتبقى قد الدنيا"، كان أكثر ضيقا بالإعلام عامة والغربي خاصة، وهو ما انعكس بشكل واضح على حمله بدت منظمة لتشويه وتخوين الإعلام الغربي وجعله مرادفا للتآمر وتدمير مصر، واقترنت كلمة إعلام غربي بكلمة "مؤامرة - ضرب - تدمير" البلاد.

"الأمور بشكل عام كانت صعبة عليَّ كامرأة تعمل في الشارع المصري، لكنها أصبحت أصعب كثيرا بعد 30-6"، هكذا تختصر إحدى المراسلات الأجنبيات المقيمات بالقاهرة (فضلت عدم ذكر اسمها) الموقف، مضيفة أن "الناس باتوا أكثر تشككا وتربصا بك لمجرد أنك أجنبي تلتقط صورة، أذكر أنني كنت في مره عائدة سيرا من التحرير إلى الزمالك حيث أقيم، أخرجت هاتفي المحمول التقط صورة للنهر، لم يكن هناك كاميرا حتى، ومع ذلك فوجئت بأحد المواطنين يعترضني ويتهمني بمحاولة تصوير النفايات في النيل لتشويه صوره البلد!".

وتابعت "لم يكتفِ الرجل بمنعي من التصوير، بل أصر على اقتيادي لكمين المرور على منزل الكوبري، ولولا أنني صرخت في وجهه أني أم وأطفالي في المنزل وليس لدي وقت لتضييعه، ربما كنت دخلت في متاهه عبثية بلا معنى، أشياء مجنونة كهذا لم نكن نصادفها من قبل في مصر". 

جوله سريعة على مواقع القنوات الموالية للنظام تجعلك تندهش من تطابق أقوال المذيعين  وترديدهم نفس الكلمة "مؤامرة" وكأن الجميع يقرأ من سيناريو واحد معد سلفا!

لميس الحديدي ترد على المؤامرة الغربية ضد مصر، وأحمد موسى يتحدث عن مؤامرة الإعلام الغربي للتشكيك فى نزاهة الأنتخابات الرئاسية، ومصطفى بكرى يؤكد أن المؤامرة ضد مصر مستمرة لإسقاط الدولة، وعبد الرحيم علي يذكر هناك مؤامرة لتركيع مصر، ومعتز بالله عبد الفتاح يخبرنا أن المؤامرة تهدف لإفشال الدولة وتعجيز السيسي، وخالد صلاح يكرر أن هناك مؤامرة والحرب مستمرة على مصر، وإبراهيم حجازي يكشف لنا مؤامرة الغرب على مصر، مثله مثل أسامة الدليل الذي لم يفته الحديث عن المؤامرة عينها، ووسيم السيسي يذهب إلى أن المؤامرة هدفها لتقسيم مصر، واللواء حسام سويلم يرى أن المؤامرة أمريكية وتهدف لتوريط الجيش المصري في حرب أهلية والقضاء على السيسي، أما عاصم الدسوقي فيذهب إلى أن المؤامرة على مصر تستهدف عدم التفاتها لمصالحها الوطنية. 

أتت الحملة أكُلها وبدأ المواطن المصري ينظر للأجنبي الذي يسير في الشارع على أنه عدو محتمل إلى أن يثبت العكس، ولو تصادف أن حمل هذا الغريب كاميرا معه، فهو حتما هنا لتصوير سوءات البلاد وفضحها، القناعة العامة صارت أنهم هنا لتشويه صورتنا لا محالة، فاحترس.

 

لكن التخوين لم يقف عند الاجنبي فحسب، بل امتد لكل من يحمل كاميرا في الشارع، حتى لو كان مواطنًا مصريًا!

عادل وسيلي المصور صحفي، تحدث إلينا عن معاناته في العمل بالشارع حاليا قائلا "زمان قبل الثورة، كانت أقصى الصعاب التي تواجهنا -إن واجهتنا- هو الأمن، حين يتعلق الأمر بتصوير مظاهرة أو بالاقتراب من مؤسسة ذات طابع سيادي، أما الآن فالناس هم الخطر الدائم"، يضيف وسيلي، "أذكر أنني كنت أجلس مرة على أحد مقاهي حدائق القبة بالقاهرة، أخرجت الكاميرا الخاصة بي- وقبل حتى ان افكر في التصوير، فوجئت بالمحيطين بي يطوقونني، وبدأت اتهامات بالخيانة وبيع البلد بدون أي مبرر منطقي اللهم إلا حملي للكاميرا! وبرغم مصريتي التي لا تخطئها عين، إلا أني فوجئت بهم يقولون أنت عاوز تصور الزبالة وتبيعها للأجانب عشان يفضحونا".

يختتم وسيلي حديثه معنا قائلًا "لأول مرة في حياتي أطلب أنا الذهاب لقسم الشرطة، خوفا من حالة الجنون التي أحاطوني بها بلا مبرر، لقد أوشكوا على تحطيم الكاميرا". يقولها وسيلي باسى بالغ. 

المدهش أن نظام السيسي (الذي تربطه بعلاقة قوية بالغرب) نجح في تشويه الإعلام الغربي وجعل المواطنين يناصبون أي صحفي أجنبي العداء، في حين أن جمال عبد الناصر المعروف عنه معاداته للغرب وهجومه على إعلامهم، لم ينجح في منع المصريين من متابعة محطات مثل بي بي سي ومونت كارلو التي هاجمهم بالاسم. 

 

حسام السكري المدير السابق في بي بي سي العربية يتحفظ على تلك النقطه قائلا "حتى الآن لا ندري إن كان النظام الحالي قد نجح بالفعل في فرض رسالته والتعمية على معارضيه بإعلام مضلل ولجان إلكترونية متعددة الأشكال أم لا. فالاستقرار الظاهري الحالي قد يكون نتاجا للقمع أكثر منه استجابة لسيرك يضحك عليه الناس أكثر مما يحترمونه". 

عبد الناصر كان معه صوت العرب وهيكل وماكينة إعلامية قوية، أما السيسي فمعه أحمد موسى وعزمي مجاهد. الفرق المهني والثقل المعرفي بين الفريقين شاسع، ومع ذلك نجح السيسي -أو على الاقل يبدو لنا أنه نجح - فيما فشل فيه إعلام ناصر، فلماذا؟

"في فرق كبير بين اللي كنا بنقدمه واللي بيتقال اليومين دول، إحنا ما مكناش بنهاجم أشخاص ولا نحرض علي صحفيين خالص" هكذا تستهل نادية حلمي نائب رئيس الإذاعة المصرية السابقة والتي عملت إبان حكم ناصر في محطة صوت العرب حديثها معنا مضيفة "كان الأساتذة أحمد سعيد وكمال إسماعيل حريصان كل الحرص على تفنيد ما يقوله الإعلام الغربي سياسيًا والرد عليه ودحضه حجة بحجة وقريعة بقريعة، من خلال برنامجهم المميز (أكاذيب تكشفها حقائق) الذي كان نموذجا للإعلام المهني، الذي يفند ويوضح الحقائق". 

أما أحمد الدريني الصحفي بالمصري اليوم، فيرى أن هناك فروقًا بين زمن السيسي وناصر، وعوامل كثيرة يجب وضعها في الحسبان لإدراك لماذا كان الجمهور المصري مقبلًا على الإعلام الغربي رغم هجوم ناصر ذي الشعبية الكاسحة عليها، أولى تلك العوامل والحديث ما زال للدريني أن "الإذاعات المصرية وقتها كانت حديثة العهد فضلا عن كونها محلية أو إقليمية في أفضل الأحوال، في حين أن الإذاعات الاجنبية كانت تقدم إطلالة عالمية يصعب تجاهلها،هذا فضلا عن تراكم خبرات لدى البي بي سي في ذلك الوقت لم نكن قد اكتسبناها بعد حينها، أضف إلى ذلك أن في ذلك الزمن كان "الخواجة" شخصًا حاضرًا في الشارع، الأعين معتادة على وجوده، عكس اليوم، مما كان يسهل عملهم".

الأزمة هنا ليست فقط معاداة الآخر بلا مبرر، في بلد اعتمد لسنوات على السياحة كمصدر أساسي لدخلها، ولا في التناقض بين سياسة الدولة الحريصة على التقارب بشتى الطرق مع الغرب وهي تعادي إعلامه وتتهمه بالتآمر عليها، الخطر الأكبر هو تغذية الروح العدائية لدى شعب كان مسالمًا لعقود وتحويله لقطيع من المخبريين يبلغ بعضهم عن بعض، نشر ثقافة الخوف والرعب بين الناس هو الخطر الأكبر.